
لم يعد مفيداً أن نتحدّث عن رؤى التأسيس في بداية كلّ عمل بحثي أو علمي أو معرفي؛ إذ تطغى معاني الديباجة في تفخيم الألفاظ، أو معاني الزينة لمقتضيات الاستكمال، بل علينا أن نترجم “رؤى التأسيس” حركةً بحثيةً دائبةً، تترك تأثيرها في مجالات الحياة وتنوّعاتها، كما تترك بصماتها على كلّ مجالٍ معرفي أو بحثي، وإطارٍ ونسقٍ مفاهيمي ومنظومةٍ منهجية، فاستثمار هذه الرؤية في سائر المنتوجات المعرفية، وضمن السياقات المعرفية، هي البحث في كلّ متضمّنات وفاعليات التعبير القرآني “صبغة الله”. إن رؤى التأسيس لا بدّ أن تفرض فعلاً وأشكالاً وتجلّياتٍ لهذا التأسيس، تحرّك أصول الوعي كما تدفع إلى مقدّمات السعي، والسعي متنوّع الحركات والمجالات، ومن أهم دوائره على الإطلاق الحياة البحثية والعلمية، إذ يهتم أصحاب هذه التخصّصات بوصل الواقع والناس بمجمل أصول فقههم الحضاري ومتطلّباته ومقاصده الكلّية، في عملية النهوض تجديداً واجتهاداً.
تأسيس رؤية كلّية في ما يتعلّق بالإسلام والمسلمين، وتراثهم، وعيشهم في الزمن المعاصر، ومن اهتمامات معاصرة أو قضايا تراثية، بما يؤدّي إلى التمكين من الأصول العقدية الإسلامية والرؤية الحضارية القادرة على التواصل مع نتاج هذه الحضارة كلّه، وما تقدّمه الحضارات الأخرى من معارف متنوعة، وذلك في سياق عملية التعارف الحضاري، التي تشكّل جوهر التواصل الإنساني والعمراني للحضارة الإسلامية وذاكراتها الحضارية، وهو أمر يتعلّق بأهمية الفقه الحضاري وأصوله، وهو المنهج الأسَدّ في البحث والعلم والفهم والسلوك، إذ يشكّل هذا الفكر منظومةً من العناصر، أولاً، الاستيعاب الحضاري للقضايا والقيم والأفكار من الجوانب كلّها، بما يؤصّل الوعي الحضاري الذي يشكّل مقدّمة لدقّة البحث ورشد التخطيط وسلامة التصرّف.
ثانياً، النظر الحضاري الذي يقوم على الجمع بين الشمولية والدقّة والترتيب والانتظام والتحليل والعمق، لإمداد البحث النظري، والتطبيق العملي، بضمانات الصحّة والسداد.
ثالثاً، الإدراك الحضاري، وهو حصيلة التفاعل الواعي بين الاستيعاب والنظر، بحيث يضع القضايا في مقامها ومرتبتها اللازمة، من حيث أهميتها ومنزلتها وجدواها.
رابعاً، السلوك الحضاري، وهو إخراج الفقه الحضاري من حيّز البحث النظري وتكوين الخبرة والملَكة إلى حيّز الممارسة والإفادة العملية، فرديّاً وجماعيّاً، في إطارٍ ينظّم الذاكرة الحضارية والواقع المعاصر واستشراف المستقبل، حتى يكون السلوك الحضاري في صواب وسلامة في التفكير والتدبير والتسيير والتغيير والتأثير، بما يضمن سداد وجدوى العمل والتطبيق.
وتشكّل هذه المنظومة أهم متطلّبات الفاعلية الحضارية، من خلال إرساء فكر ينهل من تعدّدية تراثية وفكرية، ويُعلي قدرة المسلمين فهماً وممارسةً على مواجهة التحدّيات المعاصرة، ربطاً بالعصر لا انفصاماً عنه، ملتمساً الحكمة بما يمكّنه من المساهمة الفعّالة في تراث الإنسانية ونهضتها وعمرانها.
الذاكرة التراثية جزءٌ من الذاكرة الحضارية مساحةً وسياقاً وتفاعلاً
ليست مقولة التراث مغلقةً بحال على تراث المسلمين أو العرب، أو تراثنا، وفق تعبير الفيلسوف زكي نجيب محمود، فالتراث يشكّل مادّةً منفتحةً ترتبط بعالم الإنسانية؛ كما ترتبط بحقيقة الخصوصية الثقافية والحضارية، والذاكرة التراثية جزءٌ من الذاكرة الحضارية مساحةً وسياقاً وتفاعلاً. ها هو إدغار موران، العالم متعدّد الاهتمامات، والمهتم بحقائق الإبستمولوجيا، يحيلنا إلى مراجعة “النظر المعتاد”، الذي صار الباحث أسيراً له. هذا الأسر المعرفي والمنهجي دفع ومن أقرب طريق إلى “هيمنة منظومة التبسيط أنطولوجياً ومنطقياً وإبستمولوجياً وأنثربولوجياً واجتماعياً وسياسياً… تأسست هذه المنظومة على كيانات مغلقة مثل الماهية والسببية الخطية (الصلبة) والذات والموضوع”، ومنهجياً قامت هذه المنظومة على منهجية علمية “اختزالية” و”كمّية”، فهي اختزالية ما دام يتوجّب الوصول إلى الوحدات الأولية غير القابلة للتفكيك ووحداتها القابلة للضبط بشكل واضح ومتمايز. وهي ذات نزعة كمّية ما دام أنه بإمكان هذه الوحدات أن تصلح أساساً لجميع الحسابات”. إن أكبر خطر شكّلته منظومة التبسيط (ولا تزال) أنها تحاول فهم العالم. ذلك المجموع الهائل من المركّبات الدينامية والمعقّدة والمفتوحة والمتحوّلة، بأدوات الإبستمولوجيا التقليدية، إبستمولوجيا القرن التاسع عشر، إبستمولوجيا الاختزال والتبسيط والثبات، والوضع وحجب تعقّد العالم.
إشكالية التراث ومسائله ليست بعيدة من مقولات المعرفة والمنهج والفكر، التي اهتم بها موران؛ وقضايا طرحها في كتيّبه المتميّز “التفكير المركّب”، يجب علينا أن نأخذها في الحسبان. إننا هنا أمام معانٍ تتحكّم بها الألفاظ والكلمات المستخدمة، فالظواهر تعلّقت بدراسة الظاهر المتراتب، المتكرّر، المطرد، الثابت، المستقرّ، المستمرّ، وأغفلت هذه الرؤية حقيقة كلية الظاهر حينما يُبيّن ويؤثِّر في ظواهر، والظاهر حينما يستر أهم العناصر الكائنة والكامنة في قلب الظواهر، وتهمل هذه الخطّة أن المعاصرة قد تشكّل حجاباً على الرؤية، والعادة قد تطمسها، والأعراف السائدة قد تخفيها، كما تخفينا من مبادرات منهجية. شبكة التراث وعناصره وإشكالاته خير نموذج لما أشرنا إليه من مأزق منهجي وحرج بحثي، وتبدو أسئلة التراث وما يتعلّق بها من إشكاليات الهُويَّة، وغيرها، بسيطة في ألفاظها وفي تركيباتها اللغوية، ولكنّها لا تزال في حاجة إلى دراسات متأنّية فاحصة لا تتوقّف عند شطآن الظاهرة بأساليب منهاجية معتادة، بل هي بحاجة إلى الغوص للحصول على لآلئ صغيرة في حجمها، منفردةً في حدوثها، ولكنّها عاليةً في قيمتها. إن هذه الأسئلة البسيطة لا تزال بحاجة لأن تُتلمّس بصددها إجابات معقّدة.
التراث مادّة منفتحة ترتبط بعالم الإنسانية، كما ترتبط بحقيقة الخصوصية الثقافية والحضارية
حيرة الباحث هي ما يشير إليه موران: “يحقّ لنا أن نطلب من الفكر أن يزيل الغشاوات والعتمات، وأن ينظّم الواقع، وأن يكشف القوانين التي تحكمه. لا يمكن لكلمة تعقيد إلا أن تعبّر عن حيرتنا وارتباكنا وعجزنا عن أن نحدّد الأشياء بشكل بسيط، وأن نسمّيها بوضوح، وأن نرتب أفكارنا”. بالإضافة إلى ذلك، غالباً ما تمثّل المعرفة العلمية لمدة طويلة، ولا يزال هذا التمثل مستمرّاً، باعتبار أن مهمّتها هي تبديد التعقيد الظاهر “للظواهر” من أجل الكشف عن النظام البسيط الذي تخضع له. لكن إذا تبين أن الصيغ المبسّطة للمعرفة تشوّه أكثر ممّا تعبر عن الوقائع أو الظواهر التي تعرض لها، وإذا أصبح من البديهي أنها تنتج العمى أكثر ممّا تساهم في التوضيح، والأمر كذلك، تبرز المشكلة التالية: كيف ننظر إلى التعقيد بكيفية غير تبسيطية؟ … “إنه التعقيد الذي يربط بين الظاهرة ومجالها وما يطرحه ذلك من أسئلة غاية في البساطة من حيث صياغتها، غاية في التعقيد من حيث الإجابة عنها”.
منظومة الأسئلة المشار إليها، وأكدنا طبيعتها المنظومية في ذاتها؛ أي في السؤال منفرداً المتعلّق بها؛ وفي تكاملها مع غيرها وأخواتها في تفاعلاتها وعلاقاتها؛ فلا تفهم متفرّدة منفردة فذّة قائمة بذاتها، فتزيغ، ليس فقط في صياغتها بل كذلك لزوما تضلّ في إجاباتها واستجاباتها، مسألة التراث وأسئلتها في قلب هذا الفهم الدقيق والعميق؛ هذه الأسئلة المسكونة بالتراث، والتراث مهموماً بها، لا يمكنه التغافل عنها أو القفز عليها؛ يجب أن تتحرّك صوب الأسئلة العامرة؛ عمارة التراث: وعمارة الأكوان وعمارة الإنسان، في الجمع بين قراءتَين، بل قراءات متعدّدة، ومسالك متنوّعة، فـ”تعدّد المسالك راحة للسالك”. لماذا لا يكون التراث هو ذلك الأمر الذي يحلّ سهلاً ميّسراً مرحّباً به لا مرهقاً يجعل من أمرنا رهقاً، فيحلّ على هذه الأسئلة فيحلّ عقدتها، حلول “الحلّ”، لا حلول “التعقيد والتأزيم”.