طوافان الأقصى

حوار أجراه د.عبده إبراهيم

نشر على موقع Middle East Monitor، بتاريخ 26/9/2025.

….

تزين معرض الكتاب العربي بإسطنبول الذي انعقد في الأسبوع الثاني من شهر أغسطس الماضي، بكتاب مهم بعنوان “قاموس المقاومة” طوفان الأقصى ومركزيته في التغيير الكبير القادم” للأستاذ الدكتور سيف الدين عبدالفتاح أستاذ النظرية والفكر السياسي بجامعة القاهرة؛ حيث تابع تطورات طوفان الأقصى منذ انطلاقه في السابع من أكتوبر.

 التقينا المفكر السياسي وحاورناه عن رؤيته لطوفان الأقصى ودور المقاومة بوجه الاحتلال، وقراءته للصمود الفلسطيني وردود الفعل الشعبية والرسمية على المستوى الإقليمي والعالمي.

كما تطرق الحوار لتوقعاته لمستقبل القضية الفلسطينية في ضوء الطوفان وتداعياته، فكان ذلك الحوار:

  • قراءتكم لطوفان الأقصى منذ اليوم الأول كانت فريدة، فقد توقفتم عن استكمال سلسلة المقالات التي كنتم تنشرونها في ذلك الوقت بعنوان “مفاهيم ملتبسة” وبدأتم فورا فيما أسميتموه “قاموس المقاومة” لماذا نظرت إلى الموضوع في ذلك الوقت المبكر على أنه يستحق ذلك؟

     من المهم أن نؤكد أن الكلام عن الطوفان له قصة؛ فاهتمامي بالمقاومة ودورها يعود  إلى فترة زمنية سابق حينما أشرفت على رسالة علمية أعدها الباحث القدير بشير أبو القرايا وجاءت تحت عنوان “النموذج الانتفاضي”؛ وكانت رسالة من الرسائل العلمية القيمة التي تتحدث عن المقاومة حينما اتخذت شكلا انتفاضيا، ومن هنا فحينما كان طوفان السابع من أكتوبر 2023؛ كان من المهم أن نتعرض لهذا الحدث الكبير، وهو ليس مجرد حدث ـ فقد استشعرت أن هذا الحدث سيكون له أثرا ودويا هائلا ـ فقد توقفت حينها عن استكمال سلسلة  مقالات كنت أكتبها بعنوان “مفاهيم ملتبسة” وشرعت مباشرة في  تناول الطوفان، ورأيت أن استمرارية الحدث على هذا النحو وتصاعده وتصاعد تأثيراته يستحق المتابعة، برصد رؤاه وزواياه المختلفة للنظر في فكرة المقاومة وكل ما يتعلق بها وبالقضية الفلسطينية وحال الأمة مع هذا الطوفان.

     لقد نظرت إلى الطوفان باعتباره من أيام الله سبحانه وتعالى وباعتباره يوما استثنائيا يقوم على ابراز كل ما يتعلق بمنهاجية التوحيد وارتباطها بمعاني المدافعة والمقاومة والقدرة على بناء الأمة وبناء المستقبل فيها ومن هنا كانت هذه السلسلة المهمة حول قاموس المقاومة التي بدأت نشرها منذ 13 أكتوبر 2023م.

    • عندما صدر الكتاب في أغسطس 2025 كان له عنوان فرعي “طوفان الأقصى ومركزيته في التغيير الكبير القادم” هذه العبارة شديدة الأهمية والخطورة هل يمكن أن تحدثنا عن هذا “التغيير الكبير” الذي تبشرون به في كثير من كتاباتكم وما هذه المركزية الخاصة بالطوفان التي ترونها في ذلك التغيير.

    كما أشرنا سابقا، فإن المسألة ترتبط بهذا الحدث وقيمته ومكانته ليس فقط في التاريخ ولكن في المستقبل ومركزيته في التغيير الكبير القادم؛ لاشك أن هناك ما يمكن تسميته بالمحفزات لهذه الأمة، هذه المحفزات التي تأتي في صور كثيرة كان من أهمها الطوفان، طوفان الأقصى في السابع مع أكتوبر كان يعبر بالنسبة للأمة عن مركزية حتى لو أن هذه الأمة لم تستجب تلك الاستجابة  المأمولة، ومن مركزية هذا اليوم أنه قام بأمور كثيرة أهمها مواجهة هذا الكيان الصهيوني، وكان ذلك من أكبر درجات المقاومة والمدافعة مع هذا الكيان، وقد أكد ذلك على أمرين مهمين؛ الأمر الأول أن نقوم بعملية تحرير كبرى للقدس والمسجد الأقصى وفلسطين، الأمر الثاني أن هذا الكيان المصطنع الهش مهما بدت قوته وعنجهيته في هذا الاطار إلا أنه في حقيقة الأمر لديه قابلية ليس فقط لانكساره ولكن لزواله وانتهائه.

     ولعل فكرة زوال إسرائيل هذه ليست فكرة كما يقول البعض من هؤلاء الرغائبيون الذين يتحدثون في منطقتنا العربية والإسلامية، ولكن هذه الفكرة تدور الان على مستويات عدة؛ دارت على مستوى الكيان الصهيوني ومفكريه، وكذلك على المستوى العالمي حينما تحدث البعض أنه يرى في الأفق نهاية هذا الكيان المصطنع، بل وطافت المظاهرات في مختلف دول العالم لتؤكد على هذا المعنى ليؤكد على تحرير فلسطين كاملة وعودة الفلسطينيين إلى أرضهم، وعلى أن هؤلاء الذين احتلوا الأرض أن يعودوا من حيث أتوا وأنهم لا يملكون حقا أو استحقاقا  يتعلق بهذا الشأن.

    أما الأمر الذي يتعلق بالتغيير الكبير، وهنا يجب أن نؤكد أن التغيير الكبير قادم لا محالة، وأن هذه المحفزات مثل الطوفان ومن قبله  معركة سيف القدس وانتفاضات الحجارة  إرهاصات لهذا التغيير، التغيير الكبير هنا سيكون على المنطقة بأسرها، على منطقة العرب والمسلمين وهذه المنطقة التي تتراءى أطرافها لأسباب كثيرة، هذا التغيير الكبير آن الأوان أن ننظر إليه بحكمة وتوازن واقتدار واستثمار في هذا المجال لأن نقول كيف يكون هذا التغيير القادم تغيير لنا وليس علينا، هذا له السنن وله القوانين المنتظمة في هذا الإطار وبدون الوعي بهذه السنن لا نستطيع أن ندير هذا التغيير الكبير، ولأنه سيشمل كل المفاصل التي أدت إلى تخلف هذه الأمة  وهوانها وتأخر هذه الأمة وخذلانها هذا الأمر سيؤدي إلى انعطافه تاريخية غاية في الأهمية، ليطرح في حقيقة الأمر كيف يكون التغيير ولماذا التغيير ومتى يكون التغيير والكيفية التي يمكن أن نتناول بها هذا التغيير ، هذه الأمور جميعا إنما ترتبط بهذا التغيير الكبير الذي هو ات لا محالة وعلى الجميع أن يستعد له، وعلى الأمة أن تستثمر الفرصة التي تتعلق بالطوفان وبغيره في تماسكها وجامعيتها وإحداث قدر كبير من فاعليتها واسترداد مكانتها. 

    مقاومة حضارية شاملة

    • تحدثتم عن المقاومة الحضارية الشاملة؛ كيف تكون هذه المقاومة الحضارية الشاملة في مواجهة الكيان الصهيوني في نظركم. 

    من المهم أن نوضح كيف ننظر إلى مفهوم المقاومة؛ لأنه مفهوم حضاري وشامل وهو لا يستثني أي مجال من المجالات أو عمل من الأعمال أو وعاء من الأوعية، فهناك المقاومة الإعلامية، وهناك المقاومة الشعبية، والاقتصادية والسياسية التي تعبر عن حالة سياسية وما ينبغي الاستثمار فيه، أيضا هناك أنواع أخرى ترتبط بالمقاومة على المستوى المعنوي وعلى المستوى المادي والحروب النفسية والمعنوية، كل هذه الأمور مجالات وأوعية غاية في الأهمية للمقاومة، ومن ثم ليس لأحد هنا أن يتخلف عن إدراك هذا الرؤية، ويأتي تفسيرنا للمقاومة الحضارية الشاملة هنا بأن هذا المعنى الذي نؤكد فيه على  تعدد السبل، وهذا التغيير الحضاري الكبير والقادم، نحن أمام تفسير مهم لتلك الآية الكريمة { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] هذه السبل المختلفة في العملية الجهادية وفي أصول ومسارات هذه المقاومة  إنما تعبر في حقيقة الأمر عن مسائل ومسارات مهمة وجب علينا أن نتوخى فيها كل دروب المقاومة وسبلها والمعاركة ضمن هذه المسارات مع العدو ومع كل ما يؤدي إلى محاولة إضعاف هذه القدرة التدافعية  مع هذا العدو والاحتلال والعدوان وكذلك مع الاستبداد والطغيان.

     نحن إذا أمام مسارات مهمة تتكامل مع بعضها وتؤثر فيما بينها وتؤثر في أن لكل منا دورا في عملية المقاومة، نعم ليس لأحد أن يعتذر ويقول أنني لا أعرف ماذا أفعل، المفهوم الذي يتعلق بالمقاومة الحضارية الشاملة يقول لكل أحد منا عليك أن تعمل وأن تفعل في أي مجال تستطيع أن تعمل فيه وتؤثر، من جملة هذه الأعمال وجملة هذه التدافعات والمسارات والتراكمات سيكون هناك جيل جديد يحمل فكرة المقاومة في قلبه وفي عقله وفي وجدانه وبسواعده يستطيع أن يمارس فكرة المقاومة كفكرة حضارية شاملة، ولعل ذلك يرتبط بالمعنى الذي أدى بالقائد الإسلامي التاريخي  محرر القدس صلاح الدين الأيوبي أن يقوم ضمن هذه الرؤية الحضارية للمقاومة الشاملة فما فعله لم يكن مجرد إعداد عسكري أو مشروع حربي ولكنه كان أبعد من ذلك فقد كان مشروع ثقافي وتربوي ويتخذ من المسارات المختلفة مكنت الأمة من القيام بمعاركها الكبرى الفاصلة.

    • كنتم قد كتبتم بحثا مهما حول عقلية الوهن، وفي هذا البحث تطرقتم إلى اتخاذ حديث النبي صلى الله عليه وسلم يوشك أن تتداعى عليكم الأمم باعتباره مدخلا تفسيرا ومن ثم فإن مقولة الأمة تحمل في طياتها تصنيفين أمه الشهود، وأمة الخذلان بلا حدود، ألا ترى أن هناك تناقضا بين هذين الوصفين

      اسمح لي أن أؤكد على ضرورة التمييز وأن استعيد التفرقة التي أكد عليها الأستاذ الدكتور المرحوم حامد عبدالله ربيع حينما كان يتحدث عن الأمة الإسلامية، من خلال مستويين؛ مستوى الوجود المادي، ومستوى الوجود المعنوي؛ حتى يمكن أن يفرق بين استمرارية هذا الوجود المعنوي باعتباره من حفظ ذكر هذه الأمة، لأن هذه الأمة لن تموت ما كان هناك شرع يمدها وقيم تحييها فإن هذه الأمة لا يمكنها أن تموت، قد تضعف أحيانا ولكنها قطعا سوف تستعيد عافيتها، فمع سقوط الخلافة والسلطنة العثمانية البعض تحدث عن أن الأمة الإسلامية قد ذهبت، ولكن هذا التوصيف غير حقيقي وبعيد عن الدقة، لأن الأمة الإسلامية قد ظلت حتى مع تلك الكيفية التي تتعلق بالتجزئة والانقسامات التي حدثت فيها على المستوى المادي، ولكن ظل الرابط والناظم هو المعنوي، هو العقيدة التي تتعلق بالتوحيد، العقيدة الناظمة الفاعلة، التي مثلت حالة غاية في الأهمية لوجود الأمة المعنوي،  هذا الوجود مسألة مهمة، وهو يرتبط بما نحن فيه.

    وبخصوص سؤال هل هناك تعارض بين وصف الأمة بالخذلان، ووصف الأمة بالشهود والحضور والمكانة، أقول أنه لا يوجد تناقض وذلك لأن مفهوم الأمة في هذا الإطار بالنسبة لخيريتها وأحوال وسطيتها وصفات خيريتها إنما تتعلق بشروط يجب أن تتحقق في الواقع وليس وصفا مجانيا، الأمة الوسط، أو خيرية الأمة، هذه الأوصاف لا توزع مجانا ولكنها في حقيقة الأمر أوصاف تشكل شروطا في عملية التغيير وفي رؤية حال الأمة، ومن هنا فإن الأمر الذي يتعلق بالخيرية ينطلق من الأية القرآنية الكريمة {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران: 110].

      هذه هي المهمة الحقيقية وقالوا قديما أن باب الجهاد داخل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتستطيع أن تقول أن المفاهيم التأسيسية والمفصلية في الأمة الإسلامية وفي المعرفة الإسلامية هي مفاهيم منتظمة مع بعضها في نسق واحد، لا يمكنها إطلاقا أن تتحالف أو تتناقض أو تكون بالخصم من بعضها، بل هي مظلة كبرى تحمل هذا النظم وتلك الجامعية وكل عناصر الفاعلية لتحقيق مثالية هذه الأمة، { وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}[البقرة:143]، هذا الأمر الذي يتعلق بفعل الشهادة هو قائم على شهادة النبي وشهادة المرجعية التأسيسية في هذا المقام في صورة حمل النبي صلى الله عليه وسلم للرسالة، وكذلك الأمر الذي يتعلق بشهادة هؤلاء الناس فإن  استحقاقهم لهذه الشهادة لا يتأتى إلا من التزامهم بهذه التأسيسيات المرجعية في هذا المقام.

     ومن هنا يمكن للأمة أن توصف بحالة خذلان في إطار الحديث  الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ” يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، فقال قائل يا رسول الله: وما الوهن؟ قال حب الدنيا وكراهية الموت” لماذا لأن الأمة تضعف، الأمة تهن، الأمة تشكل كثرة غثائية، غير هذا الأمر الذي يتعلق بهذا الفعل النوعي والكثرة الفاعلة في هذه الأمة  من  خلال  الأمة الوسط والأمة الخيرية.

    • تؤمن بمقولة الحكيم البشري (المستشار طارق البشري ـ رحمه الله) أيامنا وأيام الغرب، ولذلك ترى أن طوفان الأقصى من أيامنا وهو منعطف تاريخي لا يختلف عن المنعطفات الكبرى التي مرت بها أمتنا مثل حرب السادس من أكتوبر وغيرها من الأيام التي يجب أن تخلد في تاريخنا هل ترى أن هذا الوصف دقيق بشأن الطوفان.

     أيام الله سبحانه وتعالى هي أيام الاعتبار وأيام الاستثمار، نعم أيام الاعتبار بفعل أنها تحدث في صفحة الزمن ومن هنا يجب أن نقف عندها كأيام حافزة لهذه الأمة في جمعيتها وتماسكها وفاعليتها، وهذه الأمور التي تتعلق بالاعتبار هي التعلم على هذه الأيام، والتعلم على السنن الكامنة فيها، والانتظامات السننية والقوانين التي تتعرض لها، كلما انتبهنا إلى هذه القوانين السننية استطعنا أن نسير أمورنا في ذلك الواقع في تدافع بصير وفي مستقبل إن شاء الله كبير يبني لهذه الأمة بحول الله، أما الاستثمار فهو يوم من أيام الله يجب أن يستثمر في إطار ما تركه من آثار وما راكمه من مآلات. نحن أمام يوم من أيام الله يجب أن نستثمره لتقدم الأمة رؤيتها الجديدة للعالم رؤية الإسلام للعالم هي جزء لا يتجزأ من هذا البناء العقدي.

    هذه الرؤية التي تقوم على الاستخلاف وتقوم على العمران لم يكن الحدث الكبير الذي حدث في السابع من أكتوبر 2023 إلا حدثا من هذا المقام لمواجهة العدوان من جهة ومواجهة الطغيان من جهة أخرى، ومن ثم فإن هذا من أيام الله التي يواتينا سبحانه وتعالى بها لم تكن إلا محفزات لهذا العقل المسلم أن يسترد حيويته واجتهاده وقدراته ومقدراته يستطيع أن يحول ذلك الاجتهاد إلى جهاد، والجهاد والاجتهاد من جذر لغوي واحد، وقد أدرك ذلك مارسيل بوازار في كتابه “إنسانية الإسلام” فربط بين الجهاد والاجتهاد ليعبر بذلك عن طريق يتعلق بالوعي ألا وهو الاجتهاد وطريق يتعلق بالتدافع والعمل والحركة بأقصى الحركة التدافعية الصالحة والمصلحة ألا وهو الجهاد، نحن إذا أمام ساقين مهمين في هذا الاطار نتعلم كل ذلك من يوم الطوفان، يوم من أيام الله.

    • تؤمن بالمقاومة ودورها بشكل كبير جدا ويبدو أن لهذا الأمر جذورا أخرى غير الجذور العقدية المتوقعة خاصة في ظل انشغالك في مشروعك الفكري بعلم سياسة إسلامي، إذا نظرنا إلى ما كتبته في القاموس بشأنها فقد وصلت إلى أبعد حد ممكن حيث تناولت المقاومة في الأجهزة الكهربائية وفي الخلايا البشرية، لماذا كل هذا العمق في تناول مفهوم المقاومة ما دلالة ذلك؟

    نستطيع أن نقول أن مفهوم المقاومة من المفاهيم الأصيلة في الرؤية الإسلامية، وهي والجهاد صنوان، فكل الأفعال التي تتعلق بالجهاد { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [العنكبوت:69] إنما تؤكد على هذا المعنى الحضاري الذي أكدنا عليه، المقاومة الحضارية التدافعية التي تحاول استرداد مكانة ومكان هذه الأمة وقدرتها وفاعليتها ومن هنا فإن الفعل “قوم” هذا من الأفعال المهمة وهو جذر جذري، جذر مفصلي في اللغة، وهذا الفعل “قام” والذي شاع استخدامه في القرآن الكريم يعبر عن الجذر قوم، هذا الجذر ارتبط بالقيمة حينا، وارتبط بالفعل حينا، وارتبط بالنشاط  والفاعلية أحيانا فقدم بذلك رؤية شاملة على مستويات متكاملة ليؤكد على فعل هذه المقاومة.

     ومن هنا فإن الأمر الذي يتعلق بفعل المقاومة لا يقوم فقط على المستوى اللغوي، ولكن على تفحص وتبصر ما يمكن أن يعيش معنا ويحيلنا إلى مسألة تتعلق بمفهوم المقاومة ومعانيها، فإنما كان هذا المفهوم مفهوما عميقا وأًصيلا متأصلا في هذا المقام، حتى نرد على هؤلاء الذين يتحدثون عن المقاومة فيدينوها، ويتحدثون عن المقاومة فيقولون لهم اصمتوا، ويتهمون أهلها بأنهم أدوا بنا إلى موارد التهلكة، وأنهم  أدوا إلى فتنة كبيرة، ألا في الفتنة سقط هؤلاء، نعم هؤلاء هم الذين في الفتنة سقطوا، فإن تعلموا الدرس فليتعلموه في النفس، في النفس يوجد الجهاز المناعي، وهذا الجهاز له اسم آخر هو جهاز المقاومة، أعلمت أن المقاومة هكذا توجد في جسم الإنسان، وهذه المقاومة لا تضر الجسم ولكنها تؤكد على فاعليته في هذا المقام، وتؤكد  على معان كثيرة في هذا السياق، لا يمكننا إلا ان نؤكد على مثل هذه الأمور التي تتعلق بهذه الفاعلية في مناعة الجسم وتحصينه في هذا السياق، منذ متى تكون المناعة في الجسم هي التي تضر به؟، بل على العكس فإن عدم وجود المناعة في الجسم هي الضرر الأكبر الذي يحيق بكياناتنا وأجسادنا.

    إن تصفح هذه الأجهزة حولنا، خاصة الأجهزة الكهربائية في هذا المقام ونظرة فيها إنما تؤكد أن هذه الأجهزة الكهربائية بكل أشكالها تلك إنما تشكل في حقيقة الأمر درس مهم في المقاومة، في معاني الفيزياء ومعاني الدائرة الكهربائية، وهنا نتحدث عن جزء صغير في الجهاز يسمى جهاز المقاومة، هذا الجزء الصغير هو الذي يحمي ويحمل هذا الجهاز، هو الذي ينظم التيار وهو يوزعه وإن زاد التيار عن نسبة معينة لربما احترق جزء المقاومة ولكن يكون ذلك في سبيل حماية الجهاز الأم، ويمكن استبدال وحدة المقاومة ويعود الجهاز للعمل من جديد، هكذا تضحى المقاومة بنفسها لحماية الأمة وتقدم درسا مهما في حماية الكيان وتحقيق الامن والأمان له.

     يقول البعض ألا ترى هذه الأعداد الكبيرة من الشهداء الذين قضوا في غزة؛ وتلك الإبادة الجماعية، أقول لهم إن العدو كان يستبطن أمر إبادة أهل غزة وكان يرسم الخطط لذلك، ومن ثم فإن هذا الأمر الخاص بالسابع من أكتوبر قد أدى إلى إرباك خطط العدو ونال منه في مقتل واستطاع أن يؤكد أن هذا العدو الذي يتباهى بقوته وقدرته أنها ليست قوته الحقيقية ولكنها قدرة موهمة تأتي من مساعدة الآخرين في الشرق والغرب له، للأسف الشديد فمادة حياة واستمرار هذا الكيان من خارجه، ومن ثم فإذا انقطعت سيكون ذلك خطرا عليه، أما عن النيل منه فهو أمر قابل للحدوث والتكرار، وقدم السابع من أكتوبر نموذجا لذلك.

    • أخذ منكم الوقوف على ما أسميتموه شجرة مفهوم المقاومة وارتباطات المفهوم في القرآن الكريم مساحة واسعة استطعت أن تلم بأطرافها بصورة ضافية، وقد فهمت أسباب ذلك لاطلاعي سابقا على بحثكم المتميز حول منهجية القران الكريم المنشور في مشروع العلاقات الدولية في الإسلام بعنوان “القرآن وتنظير العلاقات الدولية في الإسلام: خبرة بحثية” هل يمكن توضيح هذه الرؤية المنهجية وكيف تتعاطى مع الأمر بهذه الصورة.

    يمكن الإشارة إلى ما أسمى بمصحف غزة، ولعل هذا التعبير ليس بتزيد، وقد التقط هذا في ظل المعركة الإعلامية أبو عبيدة المتحدث الإعلامي باسم كتائب القسام، فقد كان اختياره من الآيات سواء وضعها في خلفية المشهد، أو وردت على لسانه لتعبر بشكل حقيقي عن تفسير ميداني للقرآن الكريم، كنا  خلال عقود مضت، اهتممنا بمشروع اسميناه  “العلاقات الدولية في الإسلام” وهو بإشراف أستاذتنا الكبيرة والقديرة الدكتورة نادية مصطفى، حينما عملنا في هذا المشروع كان تقسمينا لهذا الموضوع آيات الجهاد والتدافع، وتحدثنا عن الأصول والمنهاجية، ولكنني كنت أتحدث عن آيات الجهاد وقد طالت بنا الشقة بين القول والفعل، ولكنني بحق رأيت ما رأيت في هذه الأيام المباركة في غزة في معركة الصمود، وفي بيانات أبي عبيدة المتوالية والمتتالية والتي تراكمت معا فمثلت رؤية قادرة على الحديث عن تفسير ميداني للقرآن الكريم، وخاصة آيات الجهاد والقتال، وصرنا نلمس هذه الآيات بأيدينا ونستشعرها بقلوبنا وننطلق فيها بعقولنا، نراها رأي العين، هكذا رأينا تصديقا لها في هذا المجال الذي يتعلق بالمعارك المتتالية التي قام بها المجاهدون في غزة.

    وفي هذا السياق نستطيع أن نؤكد على هذا الأمر وهذه الروح فيما أكده أبي عبيدة دائما في ختام بياناته نصر أو استشهاد، هذه هي القصة الكبيرة التي تتعلق بهذا الثلة التي انتدبت عن الأمة كلها، الآيات التي تقول{ فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} [محمد: 4]، {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} [البقرة:191] لم تكن هذه الآيات تجد لها المحل في الواقع الراهن إلا من خلال هذه المعركة، وظلت هذه الآيات على لسان أبو عبيدة لتكون معركة نصر آخر، معركة الصمود، فبين معركة السابع من أكتوبر والطوفان، ومعارك الصمود التي خاضها أهل غزة يعبر ذلك عن أن هذه  الثلة القليلة المباركة التي تواجه أساطيل الدنيا وتواجه طائرات الاستخبارات في هذا الاطار تقوم بهذا العمل العظيم الذي تؤكد عليه في كل وقت وحين وتؤكد أن المفازة لهم بالنصر أو الشهادة.

    نسق معرفي

    • لديكم اهتماما بموضوع الأنساق في المرجعية الإسلامية وقد كان للطوفان صدى في هذا الاهتمام هل شكل الطوفان نسقا معرفيا يجب التأكيد عليه؟  

    خلال معرض الكتاب العربي في إسطنبول وقفت على كتاب بعنوان “نحو طوفان معرفي لتفكيك جذور ومسارات المشروع الصهيوني” للأستاذ الدكتور عبد الوهاب العمري”، وقد سبق وأكدنا على ما يقدمه الطوفان من نسق معرفي وأن الوعي كان في الاجتهاد الذي صادف هذا العمل الكبير، والسعي كان في أقصى درجاته هو الجهاد، الربط بين الاجتهاد والجهاد هو ربط بين الوعي والسعي من خلال الوحي، وحي ووعي وسعي؛ ثلاثية غاية في الأهمية في هذا المقام تؤكد على تأسيس المرجعية، ووعي على قاعدة منها ينبثق من هذا الوحي والالتزام به وتدبر معانيه والسعي المترتب على هذا وذاك، إنما يعبر في هذا السياق عن نسق معرفي متكامل لا يقف عند حد المعارف ولكنه يتواصل في عالم الأفعال والتصرفات، ليؤسس بذلك منهجا تربويا تأسيسيا وهو المعنى الذي يتعلق بمفهوم الهداية الذي يجمع بين المعرفة وبين الوعي وبين السعي ويجمع ما بين كل أمر يتعلق بالفاعلية، كانت هذه هي الهداية التي تعبر عن هذا المعني من نسق معرفي غاية في الأهمية التي تتعلق بالهدي الإلهي في هذا المقام، وكان هذا التأثير الكبير الذي يتعلق بالطوفان كنسق معرفي توعوي ونسق دعوي جهادي ونسق من الفاعلية والقدرة على التأثير يعبر عن كل هذا الأمر في طوفان معرفي طرح أفكار جديدة انجلت أمام كل من حمل فطرا سليمة وإنسانية كريمة فكان هذا الأمر الذي يتعلق باجتماع كل ذلك في إطار معرفي في نسق معرفي واضح.

    • من بين المقولات التفسيرية التي طورتموها لقراءة الواقع هي أن “الخارج لا يتمكن من الداخل إلا بمقدار ما يمكن له الداخل”، كيف رأيتم تحقق هذه المقولة في الواقع الغزي في ظل هذا الصمود التاريخي والأسطوري؟

     طرحت هذه المقولة للنقاش في قاعات الدرس لتعبر عن معنى الإرادة الحقيقية في هذا المقام، كنت أقول لهم “إن الخارج لا يتمكن من الداخل إلا بمقدار ما يمكن له الداخل” هذا الأمر يفيدنا في ثلاثة أمور؛ الأمر الأول، هو أمر الإرادة، وهذه الإرادة حينما تكون حصينة محصنة تمتنع على الاختراق، وتمتنع على الهزيمة في آن واحد، إنها عزم وعزيمة، إنها همة واهتمام، إنها قدرة وفاعلية، الأمر الثاني { وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة: 46]، ألا وهو الأمر الذي يتعلق بالخروج، وهذا الخروج له شروط وهي تتعلق بالاستطاعة والعدة، والاستعداد، والاستمداد، وهو ما يؤكد على هذا المعنى الذي يؤكد على هذا الانبعاث في النفس الحضارية، الأمر الثالث في هذا المقام، هو أمر القابلية كما يؤكد مالك بن نبي عن الاستعمار والقابلية للاستعمار، إلا أننا أكدنا من بعد ذلك على مقولة أعم من ذلك القابلية لكل أمر؛ فالضعف له قابلية، والقوة لها قابلية، والأثر له قابلية، إذا نحن أمام مسار غاية في الأهمية في هذا السياق.

     ومن هنا فإن تفعيل هذه المقولة بحق أن أهل غزة يواجهون هذا الخارج بجملته من نظم رسمية قامت باستهداف هذا المكان بأهله، ومع هذا الاستهداف حدث ما حدث من معركة الصمود ليتأكد لنا أن الخارج لا يتمكن من الداخل إلا بمقدار ما يمكن له الداخل، وإن بروز بعض هذه الثغرات التي قد تتمثل في خونة داخل قطاع غزة ومواجهة ذلك بقدرة وحدة ومواجهة بينة واضحة ليعبر عن مسائل التحصين مهما أراد أن يتسرب إلى هؤلاء عناصر خائنة أو عناصر موهنة مخذلة مرجفة في هذا الاطار، ومن هنا يتضح لنا أن هذه المعاني الثلاث حملها أهل غزة وعبروا من خلالها بكل وضوح “أن الخارج لا يتمكن من الداخل إلا بمقدار ما يمكن لها الداخل”.

    • أيضا من المقولات التفسيرية “أن الاحتلال والعدوان والاستبداد والطغيان وجهان لعملة واحدة” ما هي مسوغات هذه المقولة أيضا في الواقع الراهن في غزة؟

    في الواقع أنه دائما كانت المعارك التي تتعلق بالشعوب خاصة مع الكيان الصهيوني والكيان الاستبدادي كانت تتوزع بينهما، ولذلك وجدنا من يقول أن تحرير فلسطين بمر بتحرير البلاد العربية والإسلامية من الاستبداد والطغيان، البعض الأخر يقول أن تحرر فلسطين هو المقدمة لتحرير بقية البلاد العربية والإسلاميةـ أيا كان هذا الوضع، فإن الأمر ليس على هذه الشاكلة، فالأمر أبعد من ذلك بكثير فهو في علاقة جدلية، في مقاومة كل ظلم، والظلم هنا ليس شعبة واحدة وليس وعاء واحد، ولكنه يتخذ أشكالا متعددة منها العدوان والاحتلال ومنها الاستبداد والطغيان، ولعل ذلك يؤكد علينا أن هذه ليست فقط تعبر عن أنهما ملة واحدة ولكنهما مجالات تعوق المقاومة ويشيعان الظلم على العباد في البلاد من أهل فلسطين إلى أهالي المسلمين في كل مكان، ومن هنا فإن خوض هاتين المعركتين بالشدة والحدة والقدرة والفاعلية لمواجهة هذه المعارك المتعددة إنما يشكل أصل من الأصول في مواجهة كل ظلم فإن الله لا يحب ظلما ولا ينتصر لظالم، بل إنه على العكس من ذلك ناصرا للمظلومين ومواجها للظالمين، ولعل ذلك هو الأمر الذي يتعلق بهذا المعنى، وهنا نؤكد  على هؤلاء الذين يقومون بإصلاح في بلادهم سيقع بالضرورة استثمارا في معركة فلسطين الكبرى، وأن معارك فلسطين الكبرى ستصب في النهاية في مقاومة الطغيان.

     ألا أحدثك بشيء يدور في سريرتي في هذا الأمر؛ من الذي يقف مع العدوان أليس هي كل نظم الطغيان، فلتتأمل لماذا وقفت كل نظم الطغيان مع العدوان، ولماذا هاجمت هذه النظم المقاومة وسبل المدافعة في كل مكان وفي كل زمان، إن هذا يؤكد لك أنهم يخافون من المقاومة أكثر مما يخاف العدو، لأنهم يريدون أن يحكموا شعوبا كالقطيع مستسلمة كالعبيد، ولكن هذا الأمر يخالف معنى الكرامة والعزة، معنى المدافعة والمقاومة، معنى الجهاد الكبير {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:52]. 

    خطورة التطبيع

    • بين التطبيع اللئيم والتصهين الخبيث هناك الكثير من السياقات والحدود والوعود كيف كشف الطوفان هذه العلاقات المؤذية؟

      من المسائل الخطيرة جدا التطبيع مع هذا العدو الذي ليس له عهد ولا ذمة، وأنه فقط لا يجيد إلا الاحتلال والعدوان وقضم الأراضي، وأنه لا يجيد إلا العدوان والقتل بالسلاح والإبادة الجماعية، ومن هنا علينا أن ننظر إلى العدوان على حقيقته البشعة، ومن هنا فإن هذا الأمر الخطير الذي يتعلق بكيان صهيوني مصطنع لا يمكنه إلا أن يقوم بذلك، ومع ذلك سنرى من يقول تعالوا لنمد له أيدينا بالسلام، فيمد يده إلينا بالسلام، هل حدث يوما من الأيام أن مد هذا الكيان المغتصب يده بالسلام إلى أي من هؤلاء، كيف ووجوده أصلا في هذا الاطار هو اعتداء على الحق والحقيقية، على حق أهل فلسطين الذين اغتصب أرضهم بالحديد والنار بالقتل والتهجير والابادة الجماعية، وعلى الحقيقة بدعم الغرب له بما عرف بوعد بلفور المشؤوم وإقامة دولة الكيان؛ حيث أعطى من لا يملك من لا يستحق.

       ومن هنا فإن المسائل التي تتعلق بالتطبيع قد فضحت، ونزع عنها اللثام، ونزع عنها كل كلام وكل حجة واهية في هذا المقام، فكلمة التطبيع أصلا هي من الطبيعة، كيف يكون التطبيع هو العودة إلى  العلاقات الطبيعة مع عدو وجوده غير طبيعي، ألا يسمع هؤلاء ألا يروا أم أنهم يتعامون في عجز مقيم في هذا المقام، إن هذا التطبيع لا يمكن أن يفيد الأمة، بل هو تسللات إلى كيان هذه الأمة ليشل كل فاعليتها ويقدم  كل ما يؤدي إلى ضعفها وتخلفها، فما كان الكيان الصهيوني إلا محاولة لشق التواصل بين الشرق والغرب في عالم المسلمين، وما قام هذا الكيان إلا ليؤدي مهمة وظيفية من أجل العالم الغربي حتى لا تقوم الأمة الوسط، واستبدل المنطقة / الأمة العربية ذلك المفهوم “الشرق الأوسط”، سواء أكان الشرق الأوسط الكبير، أو الشرق الأوسط الجديد أو الشرق الأوسط الموسع أو أي شرق قاموا به يصطنعوه على مقاسهم.

       ومن الاصطناع أن اصطنعوا دولة ليست إلا كيانا موهوما، أقاموه على غير حق أو استحقاق وعلى أرض ليس لهم طردوا أهلها ونهبوا خيراتها في البر والبحر والآن يتحدثون في هذا الجزء المقاوم في فلسطين قلبها النابض في غزة، علامة العزة والكرامة يحاولون  تهجير أهلها وتجويعهم وطرهم من أراضيهم لماذا؟ ليقوموا بمشاريع ريفيرا غزة، هذا لعمري لبجاحة من هذا الاستخراب الحقيقي الذي يخرب الكيان والمكان ويخرب معاني العزة والكرامة ويؤدي إلى الهوان والاستهانة والاهانة في كل مكان لأهل هؤلاء الذين وجب عليهم أن يتزيوا بمعنى الكرامة والعزة كما هو عند أهل غزة. 

      • هل وعد ابراهام يعتبر طبعة جديدة من التطبيع أم يؤسس لعلاقات مستحدثة   تحقق ما قاله المسيري في إحدى الندوات التي أدرتموها مطلع التسعينيات من القرن الماضي عن “الشنطة السونسنايت واليهود اللي مهماش يهود ولا حاجة مسلمين بس بيلعبوا دور اليهودي بيمثلوا إسرائيل خير تمثيل اليهودي الوظيفي اللي ممكن يصلي العشاء معانا “، هل وصلنا إلى هذه المرحلة؟

        للتطبيع أيضا ثغرات ومداخل كثيرة وشاملة منها المجال الذي يتعلق بالدين، وهنا أود أن أتحدث عن أمرين؛ الأمر الأول عقدية ودينية الصراع وحضاريته، طبيعة الصراع مع الكيان الصهيوني أنه صراع حضاري ديني عقدي مصيري، هذه الأوصاف التي تتعلق بطبيعة الصراع تجعلنا نتحدث عن شيء مهم جدا؛ كيف أن الدين دخل على الخط، فالكيان الصهيوني يوظف الدين في كل سياساته وإعلامه من مثل عربات جدعون، لكن الشيء الخطير أن يأتي مشروع شبه دولي ويرتبط بصفقة القرن ويرتبط بوعد إبراهام  أو اتفاقية ابراهام على قاعدة أن الأديان الثلاثة منزلة، وبصرف النظر فإن مقولة الأديان الإبراهيمية مقولة خطيرة تبدو أنها لها صدى عند أهل الأديان المنزلة، ولكنها في ذات الوقت تتخذ مجالا لفعل سياسي شديد الخطورة يكرس وجود الكيان الصهيوني، كما يكرس ما يمكن تسميته بصفقة القرن لتصفية القضية الفلسطينية وإقامة وإعادة وفك وتركيب الشرق الأوسط.

         في كل الأحوال نستطيع أن نقول أن الإبراهيمية لم تكن إلا غطاء جديدا تحاول فيه عملية تطبيع جديدة هذه العملية التطبيعية ترتبط بمسائل شديدة الخطورة، وقد تنطلي على البعض، بل وقد جعلها ترامب مدخلا وشركا منصوبا لمن يدخل فيه سواء البحرين، أو الإمارات أو المغرب أو رئيس المجلس العسكري السوداني. للأسف الشديد هذا الغطاء خطير جدا لأنه يحمل معنى ديني، ويمرر من خلال هذا المعنى الديني عمليات تطبيع، وهي في الحقيقة هي عمليات ضد الأديان وضد الدين الإسلامي، ومحاولة ترتيب أمور على هذه الدعوة التي صارت دعوة سياسية أكثر منها دينية، وبات يتبناها ترامب ويدعو الأخرين إلى الانضمام لهذا البيت الابراهيمي، هكذا يقول، وضمن أدوار محددة ومخصوصة ضمن صفقة القرن، هذا يؤكد علينا أنه يجب أن نفطن إلى مثل هذه الأمور؟  

        حروب نفسية

        • لأستاذنا الدكتور حامد ربيع اهتماما كبيرا بمسألة الدعاية والحروب النفسية والتسميم السياسي، كيف رأيتم ذلك في الطوفان؟ وما هي رؤيتكم للجهود الإعلامية التي تبذلها المقاومة وكيف لعبت دورا كبيرا في مواجهة الكيان وفضحه؟

          مسألة الدعاية والتسميم السياسي سواء قبل الطوفان أو بعده هي مسألة خطيرة تتطلب ضرورة التنبه لها والتعامل معها، والدعاية الإسرائيلية كتب فيها أستاذنا الدكتور حامد ربيع الكثير وحذر منها وكان له باع في تشريح هذه الدعاية وقدرتها على عمل حروب نفسية وتسميم سياسي وغزو معنوي وغزو حضاري؛  هذه الأمور كلها ترتبط بما نحن فيه حاليا وكيف أن عمليات التطبيع تريد أن تجعل منها عملية شاملة تريد من خلالها الاختراق من أي ثغرات  مادية مثل التجارة والاقتصاد والجسور البرية أو معنوية مثل الثقافة وكما رصده حامد ربيع عن “الثقافة العربية بين الغزو الصهيوني وإرادة التكامل القومي”،  ومن هنا فإن الأمر الذي يتعلق بالمواجهة في إعلام المقاومة مسألة غاية في الأهمية وجب علينا أن نتعلم الدرس الذي يتعلق بإعلام المقاومة وهو إما إعلام مباشر أو إعلام غير مباشر، الأول منها يتعلق بما تصدره المقاومة ورؤيتها لإدارة المعركة بأشكال مختلفة في حدود الإمكانات المتواضعة ولكنها أبلت في ذلك بلاء حسنا، حتى من خلال اهتمام إسرائيل بأنها تشيع استهداف أبو عبيدة المتحدث الرسمي باسم كتائب القسام ليس إلا حالة نعاين فيها كيف أن الكلمة كان لها أثر كبير مزلزل على الكيان الصهيوني وكذلك على المنظومة الإقليمية والمنظومة العالمية.

          أما المستوى الآخر فهو كشف وفضح العدو من خلال إعلامات كثيرة وعلى رأسها قناة الجزيرة التي فضحت هذه الإبادة الجماعية، حرب التجويع الكبرى التي يشنها الكيان الصهيوني على أهلنا في غزة، لذاك نحن أمام عملية كبرى تتعرف على هذه الأمور جميعا وضرورة أن نعد العدة على مواجهتها  ونعتبر أن هذا الامر والاهتمام بهذا الشأن الإعلامي ليس فقط في سياق المقاومة ولكن في سياق جبهات أخرى تتعب وتساند المقاومة يجب أن تقوم بدورها في هذا الامر، ولعل هذا أتى أثاره في مواقف في جنوب إفريقيا في محكمة العدل الدولية، والقضايا التي دفع بها إلى الجنائية الدولية والمطالبة باعتبار قادة إسرائيل مجرمين حرب، وكل هذا إنما يعبر في حقيقة الأمر ليس فقط الانتصارات الإعلامية ولكنها أثر من آثار هذه الحالة الإعلامية والحرب الإعلامية الضروس التي لا تقل ضراوة عن هذه الحرب في ميدان غزة، ولعل ذلك هو الأمر الذي يحدو بنا إلى ضرورة أن نهتم بهذه المعركة الإعلامية حتى بعد أن تضع الحرب أوزارها، لأن هذه الحرب الإعلامية لن تتوقف وهي التي ستطول وتستمر باستمرار هذا الكيان، وأن حروب الدعاية ستظل مشتعلة وأن مواجهتها صارت أمرا واجبا على كل أحد بما له من مساحة ودور وتأثير، خاصة وأن كل هذه الجهود أنتجت رأيا عاما دوليا وهذا من الأمور المهمة التي يجب الإشارة إليها في إطار الثمرات التي كانت من آثار هذا العدوان الصهيوني وكذلك أمر يتعلق بقوى كثيرة أصبحت مؤيدة وداعمة للحق الفلسطيني، فالمقاومة فكرة لا ولن تموت.

          • لرموز في الطوفان عصا السنوار، ميكروفون الدحدوح، شجرة الزيتون، الكوفية جميعها رموز ملهمة كيف قرأتم المشهد وكيف يمكن استثمار ذلك؟

          معركة الرموز تؤكد على حضارية المقاومة وهي من أهم المعارك التي نخوضها مع هذا العدو، وقد كان من أيقونات هذه الحرب قادة المقاومة الذين استشهدوا والإعلاميين الذين استهدفوا بالإصابة وقتل الأهالي مثل  وائل الدحدوح وإسماعيل الغول أو استهدافهم مباشرة مثل أنس الشريف الذي رفض مغادرة غزة وأكد إما النصر أو الشهادة، كل هؤلاء شكلوا رموز للتضحية والفداء من أجل الكلمة الحرة وفضح الكيان الصهيوني وإجرامه ولم يجد العدوان إلا ان يستهدفهم  وأسرهم بشكل مباشر خروجا على كل القواعد الدولية ولكن ليس خروجا عن أسلوبه ونهجه الإجرامي، وقد حفلت معركة الطوفان بالعديد من الرموز وذلك امتدادا إلى أن القضية الفلسطينية نفسها مصنع للرموز، الكوفية كانت رمز، شجرة الزيتون، مفتاح القدس، كل هذه الرموز، ومن هنا وجب علينا أن نهتم بالرموز والقدرات الرمزية التي تعمل في القضية الفلسطينية وتشكل مكنونا لها ويمكن استثمار هذه القدرات الرمزية إلى أبعد حد، ولعل الرمزية الكبرى التي انطلقت في العلم الفلسطيني ليكون أداة لهؤلاء الذين يحتجون على الإجرام الصهيوني وكيف أبدع العالم في التغلب على الإجراءات البوليسية والأمنية في محاصرته ومنعه، للتأكيد على قيمة الرمز الواحد لفلسطين ويؤكدون على أصالة هذه القضية الفلسطينية.

          منحة ام محنة؟

          • متى يمكن لنا أن نتحدث عن طوفان سياسي مثل الطوفان العسكري وهل ضاعت الفرصة؟   وأين الفرص في هذا الطوفان كيف يمكن المواءمة بين المحن والمنح في هذا الطوفان؟

          من المحن تأتي المنح والفرص، ولكن علينا أن نستثمر هذا وكيف نحول المحنة إلى منحة، ومن هنا فإن ابداع طوفان سياسي يماثل الطوفان العسكري والإعلامي يكون بالاستفادة من محن الطوفان وتحويلها إلى منح وفرص على المستويات كافة، ويمكن أن نتحدث مبدئيا عن خمسة فرص وعشرة معارك يمكن أن تكون ميدانا للطوفان السياسي المأمول.

          أولا. فرص الطوفان: كان ولا يزال طوفان الأقصى بحق فرصة حضارية كبرى يمكن أن يتحول من غزة إلى الأمة ويمكن تلمس ذلك في الفرص الخمس الآتية:

          الفرصة الأولى: الفرصة الحضارية والمقاومة الحضارية الشاملة، وما فيها من بناء رؤية عقدية متماسكة لصراع الأمة مع الكيان الصهيوني، والتفسير الميداني “العياني” للقرآن الكريم، والدعوة لقيم الإسلام والنموذج الحضاري المتكامل للرؤية الإسلامية.

          الفرصة الثانية: الفرصة السياسية والاستراتيجية؛ فقد أثبت الطوفان نظرية المستشار طارق البشري الوعاء الجغرافي وأن مدينة القدس هي وعاء فلسطين ومن ثم فإن مسؤولية فلسطين ليست للفلسطينيين وإنما للأمة جميعا، كما أن الطوفان أعاد القضية الفلسطينية إلى الواجهة من جديد وفتح الباب لتجسيد الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني، كما كشف عن جريمة التطبيع ومحاولة استرضاء إسرائيل من العديد من النظم العربية والإسلامية، فالقدس هي المحك بالنسبة لعالم المسلمين، لأن القدس هي مقياس الأمة، تستطيع أن تقول أنها ترمومتر الأمة الذي يقيس وحدتها وجامعيتها وفاعليتها، قل لي أين القدس أقول لك أين الأمة؛ هذه هي وحدة القياس المهمة التي تعبر عن تكثيف المعنى الذي يتعلق بهذا الشأن.

          الفرصة الثالثة: الفرصة التاريخية والخطاب الكوني؛ فضح الطوفان كل الدعاية السوداء التي كانت تنال من الفلسطينيين باتهامهم بأنهم قد فرطوا في أرضهم، كما أسس لخطاب إعلامي كوني جديد قضى على كل سرديات المظلومية الصهيونية الرائجة في العالم، وشكل رأي عام عالمي وإنساني وكوني للتضامن مع الشعب الفلسطيني. 

          الفرصة الرابعة: فرصة عمران غزة ورفع الحصار عنها؛ أمام الشعوب المسلمة فرصة لأن تسهم بكل ما يمكنها في معركة المقاومة، قدم الطوفان فرصة في إعادة البناء والتفعيل للمصالحة الفلسطينية.

          الفرصة الخامسة: فرصة الأمة في النهوض والبناء والمراجعة؛ إدارة المعارك الكلية في الأمة بمناسبة طوفان الأقصى، إعطاء الفرصة للشباب وبناء الوعي الشبابي بالقضية الفلسطينية، والاستثمار في مقاومة الاستبداد، والتفكير في التنمية بعمل وقفية لغزة وأهلها، والدور المتوقع للمؤسسة العلمائية، وكذلك ضرورة المراجعة والنقد الذاتي للأمة.

          ثانيا. معارك الطوفان السياسي: نحتاج لمعارك جامعة على طريق المقاومة الحضارية الشاملة؛ ففعل المقاومة لا يقتصر على فعل بعينه، بل هو منظومة من المعارك التي تؤكد على تعدد أشكالها وأساليبها وطرائقها

          المعركة الأولى: معركة التحرير من أجل التغيير؛ فقد ألهم الطوفان الأمة للسعي نحو تحررها ولعل المعركة السورية مثال على ذلك.

          المعركة الثانية: معركة الذاكرة؛ حيث يخوض الشعب الفلسطيني حرب وجود، تعد معركة الذاكرة من أهم المعارك التي خاضها الشعب بجدارة لمواجهة حرب التهويد التي فرضت عليه، ولا يزل كل جيل يسلم الجيل التالي له لضمان استمرارية الذاكرة وذكر مستدام وتواصل الأجيال في حمل أمانة المقاومة والكرامة. 

          المعركة الثالثة: معركة الهوية؛ يدير الخصوم معركة تغييب الهوية وطمسها وتزييفها، وقد أعاد طوفان الأقصى المعركة إلى حقيقتها والسعي إلى إزالة الهويات المصطنعة المزيفة التي صبغنا بها قهرا بيد الاحتلال وأذنابه.

          المعركة الرابعة: معركة المعنى والمغزى والمفاهيم؛ يقول مصطفى صادق الرافعي الكلمات كالحياض والجيوش وجب الدفاع عنها كالأرض والعرض، فتحرير الكلمات المغتصبة والتنبه إلى الكلمات المسمومة، والتعرف على أضرارها والكلمات الملغومة فنحذر من آثارها، ويحتاج منا ذلك رفع الظلم عن الكلمات المظلومة ورفع الستر والنقاب عن الكلمات الظالمة التي تغسل الأمخاخ جماعيا.

          المعركة الخامسة: معركة الوعي الجمعي والوعي الاستراتيجي؛ إن الفعل الاستراتيجي عمل يبدأ تأسيسه بصناعة الوعي الآني بالحال في سياق بناء الوعي الجمعي بكل مستوياته وتكويناته والوعي الاستراتيجي باستشراف المستقبل واعتبار المآل.

          المعركة السادسة: معركة الإرادة؛ أثبت الكيان الصهيوني وداعموه الغربيون على مدى أيام الطوفان أن هدفهم النهائي ليس حماس ولا جماعات المقاومة بل الإرادة الفلسطينية لمقاومة الاحتلال والاستعباد، ومن ثم فمعركة الإرادة والوعي بها من أهم معارك التحرير والمقاومة.

          المعركة السابعة: معركة الموقف والخيار الاستراتيجي: لقد آن الأوان للتأكيد على أهمية صناعة عقل استراتيجي للأمة ليفكر بحجم الإشكالات والتحديات وبحجم المتطلبات والاستجابات، يستند في جوهره إلى قاعدة تتعلق بالتيار الأساسي في الأمة ليدير الصراع والأزمات والفرص.

          المعركة الثامنة: معركة الرموز؛ من المهم الوعي بقدرات الرموز وعالمها في تشكيل وعي الناس، وفي محاولات العدو لطمس كل ما يعلن عن الوجود والحضور الفاعل الذي لا يمكنه بأي حال أن يكبته أو ينقضه.  

          المعركة التاسعة: المعركة الحضارية الكونية؛ أعاد الطوفان فلسطين إلى الواجهة من جديد، وقد أثر العدوان الصهيوني الإجرامي في ضمير العالم وباتت المظاهرات والمقاطعات وأساطيل الحرية تبذل كل غال ونفيس لأجل رفع الظلم عن فلسطين، وخسرت إسرائيل رصيدا إعلاميا كان متصورا أنه باق حتى نهاية الدهر فإذا هو هشيما تزروه الرياح.

          المعركة العاشرة: التأسيس لفقه الفرصة: نحتاج أن نؤسس للمعنى الذي يتعلق بساحات الحركة وإمكانات التغيير وأصول الفاعلية في الاستفادة من تلك الفرص التي صنعها الطوفان، وأن نبني على كل ما توفر لدينا سواء على المستوى المحلي أو الدولي والكوني لتكون هذه بداية النهاية الحقيقية لهذا الكيان الإجرامي.

          وفي الختام لا يسعنا إلا الدعاء “اللهم اجعل لمقاومة هذه الأمة فعلا ناهضا مؤثرا، واجعل لهذه الأمة هاديا ومرشدا”.