تطرّق المقال السابق لكاتب هذه السطور في “العربي الجديد” (21/7/2023) إلى موضوعٍ مهم شكل منعطفا مركزيا في تاريخنا الحديث، وهو “الحملة الفرنسية 1798″، وأكّد أن فكرة المنعطف التاريخي لا تتعلق فقط بأحداث مفصلية في الداخل، وإنما يمكن أن يكون الحدث خارجيا، أو أن تكون له ارتباطات داخلية وخارجية. ومن الأهمية بمكان التأكيد هنا على أن توصيف الحدث بالمنعطف التاريخي سببه ردود الفعل التي تترتّب حول هذا الحدث، وما تركه على أفكار، مثل النهضة والتغيير والإصلاح والتجديد، أو يعدّ من تلك الأفكار التي ترتبط بقضايا بعينها. وفي هذا الإطار، نتوقّف هنا عند حدث تاريخي غاية في الأهمية، إلغاء الخلافة العثمانية، أو ما سمّي “سقوط الخلافة الإسلامية”، أو الأمر الذي يتعلق بإنهاء السلطنة العثمانية، أيا كان التعبير الذي يمكن أن تختاره عنوانا لذلك الحدث، فإنه شكّل حدثا معقّدا ليس فقط في بنيته وتركيبته، ولكن أيضا في معناه ومغزاه، بل أكثر من ذلك في آثاره ومآلاته.
ومن المهم أن نؤكّد أن هذا الحدث اختلط بأحداث كثيرة، بعضُها شكّل مقدّمات، وبعض آخر ارتبط بالحدث نفسه، وبعضها الثالث ارتبط بعالم وقضايا، وترتبت على ذلك آثار امتدّت حتى إلى عالم الأفكار، ولعل ذلك كله يجعلنا نتّخذه مؤشّرات مهمة إلى مفصلية هذا الحدث ووصفه بالمنعطف التاريخي، ومنها اعتبار مفهوم الخلافة من المفاهيم التي عبّرت عن ماضٍ ذهبي، وأن العقل المسلم قد تعلق به. ومن ثم فإن معظم التيارات التي اهتمّت بفترة إلغاء الخلافة كانت هي التيارات الإسلامية، سواء أكانت في عالم الميدان أو الواقع، أو ما شكّل ذلك إرهاصا دفعها إلى تنظيم كيانات في أشكال جديدة، ردّا على هذا الإلغاء للخلافة الإٍسلامية، وما ارتبط بها من جملة من الأحداث السابقة واللاحقة، تداعت مع هذا الحدث المفصلي الكبير، وظلّت هذه الأحداث تشكل إرهاصا له أو توابع وملحقات به أو آثارا ومآلاتٍ له.
من المهم أن نتعرّف إلى سياقات الحدث وارتباطاته، خصوصا أنه تزامن مع هذا السقوط بروز ما يمكن تسميتها “الحقبة الاستعمارية” (مع تحفظنا على كلمة استعمار باعتبارها من الكلمات المظلومة) وتأثيره في مطالبات بعض أقاليم الدولة العثمانية بالاستقلال، وتأثير ذلك على استقرار الخلافة، وبروز حركات سياسية، منها ما سميت في ذلك الوقت “الثورة العربية الكبرى”، وما تبعها من تقسيم لبلاد العرب والمسلمين في ظل هذه الحقبة الاستعمارية. بالإضافة إلى أنها تزامنت مع وعود أخرى تمكّنت من هذه المنطقة، وتمثلت في وعد بلفور1917 وما لعبه من دور في نشأة الكيان الصهيوني في 1948.
ليس حدث إلغاء الخلافة عابرا، خصوصا على مستوى الأبعاد والمجالات الفكرية والثقافية والحضارية، وكذلك السياسية
هكذا تضافرت هذه الأحداث لتشكل منظومة، أشارت إلى عدّة أمور، منها بروز النشأة التي تتعلق بالدولة القومية والتيار القومي بكل مقوّماته وعناصره المختلفة، وكذلك بزوغ الفكرة العلمانية، خصوصا مع الحالة التركية والأتاتوركية التي طرقت هذا المفهوم بشدّة وجعلته أهم رمز في الدولة التركية الحديثة، إضافة إلى ذلك ظهور الإشكال الذي يتعلّق بالتجزئة والتفتيت للمنطقة، والذي أوقعها بأسرها ضمن حلقات التنافس الاستعماري الغربي.
أياً كان الأمر، نستطيع أن نؤكّد أن هذه الحقبة، بما تضمّنته من أحداث تاريخية ساهمت في إضعاف الدولة العثمانية على ضعفها وعلى بروز “المسألة الشرقية” وبروز الإشكال الذي سمّي في ذلك الوقت “رجل أوروبا المريض”. وتلازم ذلك مع بروز الفكرة العلمانية والأفكار القومية، ما أكّد على ورود أفكار عدة في هذا المقام لا يمكن في أي حال إلا أن نؤرّخ لها ضمن سياقاتها التاريخية وتحولاتها الحضارية.
ومن هنا، ليس حدث إلغاء الخلافة عابرا، خصوصا على مستوى الأبعاد والمجالات الفكرية والثقافية والحضارية، وكذلك السياسية. كان حدثا محوريا، وله تأثيرات كبيرة، خصوصا على التيارات الإسلامية التي تأسّست لمواجهة إلغاء الخلافة، وسعت إلى ذلك من خلال محاولة إنتاج أشكال عديدة، منها محاولة استعادة الخلافة. وعقدت من أجل ذلك الهدف المؤتمرات، لمحاولة إدراك حجم الإشكال والتحدّي الذي مثله إلغاء الخلافة العثمانية في كل من مكة والقاهرة والقدس والهند، وما رافقها من تنظيم الاحتجاجات المعترضة على إلغاء الخلافة في العالم الإسلامي. وامتد الأمر أيضاً إلى التساؤل بشأن إمكانية استعادة الخلافة في ظل تداخل السياقات ما بين الحقب العثمانية و”الاستعمارية” والحقبة التي برزت معها جملة من الأفكار العلمانية والقومية والاشتراكية.
شكلّت مسألة الدولة العثمانية والخلافة الإسلامية منعطفا تاريخيا نموذجا لكيفية الانتقال إلى دائرة السجال الفكري والانقسام الثقافي، وكيفية تأثير ذلك على التفكير في مسألة النهضة والنهوض
من أبرز التيارات التي نشأت على خلفية حدث سقوط الخلافة العثمانية جماعة الإخوان المسلمين، وكذلك حزب التحرير. أشار كلاهما إلى هذا الحدث الجلل، وإلى الأفكار التي تعلقت بالخلافة، فبينما شكّلت جماعة الإخوان حركة دعوية في هذا المقام، جعلت أحد مساراتها ضرورة استرداد الخلافة، جعل حزب التحرير من الدعوة إلى استعادة الخلافة جوهرا لتحرّكاته في هذا المقام. وهنا لا بد من تأكيد أن هذه الآثار الحركية والفكرية ترافقت معها مجموعة من الآثار الأخرى التي تعلقت بالكتابات الفكرية، وخصوصا ما تعلق منها بجملة من المعارك الفكرية، والتي يمكن التعرّض لها في ما بعد ضمن حركة الأفكار في عالم النهوض والتغير والإصلاح والتجديد، لعل من أبرزها المعارك التي دارت حول الكتاب المهم الذي أصدره الشيخ علي عبد الرازق “الإسلام وأصول الحكم”، وما أثاره من معركة فكرية حامية الوطيس، رصدها محمد عمارة في كتابه “معركة الإسلام وأصول الحكم”، وما تضمّنته من قضايا مثل: الحكم، والدين والسياسة، والخلافة واستحضار معناها واستردادها، ومسائل أخرى، مثل قضايا التبعية والتجزئة والقضايا المتعلقة بالاستعمار، وحركات التحرّر والاستقلال، وبروز مفاهيم مثل العلمانية والاشتراكية، والقومية وغيرها من مفاهيم. لعل كل تلك الأمور برزت ضمن هذا المناخ الذي تركه هذا الحدث المهم، وهو إلغاء الخلافة، والذي خلّف آثارا عميقة، وشكّل سياقا نشأت فيه جملة من التيارات الفكرية المختلفة التي ظلت في حالة من حالات التدافع والتراشق والاستقطاب فترة وعقودا طويلة.
هنا، على سبيل المثال، وجب علينا أن نتحدّث عن فكرة الجامعة الإسلامية التي برزت، وما نتج عنها من أفكار طرقها عبد الرحمن الكواكبي على سبيل المثال في كتابه “أم القرى”، وأفكار طرقها عبد الرازق السنهوري، حينما كتب “الخلافة: عصبة أمم شرقية”، وتوقّف عندها مالك بن نبي، حينما كتب عن القضية المهمّة التي تتعلق باقتراحه “كومنولث إسلامي”. وهنا تدور المعارك الفكرية مرّة أخرى ليس فقط على مستوى الأزمة، بل مستوى تلمس بعض الحلول تتوافق مع قسمة الدولة القومية الجديدة التي فرضت نفسها على الواقع آنذاك، أو من قضايا ثارت وصار لها التأثير الأكبر في الحياة الفكرية والثقافية؛ وكذا في تكوين تلك التيارات الكبرى، وما أثارته من اختلافات وخلافات ظلت قائمة ضمن سجال أيديولوجي. ومن هنا، شكّل هذا الزخم الكبير الذي تحدّثنا عنه على مستوى عالم الأفكار أو عالم الأحداث أو عالم التيارات الفكرية والتنظيمات الحركية بوتقة نشأت فيها تلك الإرهاصات المختلفة لحركة فكرية واسعة ضمن سياقات مسألة إلغاء الخلافة العثمانية، ليكون هناك جدل كبير بين تلك التيارات المختلفة بشأن كل ما يتعلق بالقضايا التي تتابعت والآثار التي تعاظمت.
هكذا يتّضح أن مسألة الدولة العثمانية والخلافة الإسلامية شكّلت منعطفا تاريخيا نموذجا لكيفية الانتقال إلى دائرة السجال الفكري والانقسام الثقافي، وكيفية تأثير ذلك على التفكير في مسألة النهضة والنهوض.