تبدأ سورة التكاثر في القرآن الكريم بافتتاح للتنبيه والتحذير “أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ”، وهذه الآية تعبر بشكل واضح عن حال الجمهورية الجديدة؛ خاصة أن اللهو بالتكاثر هو من أهم سماتها في محاولة للتراكم والتكديس في عالم أشياء لا يفيد فيكون زبدا يذهب جفاء، ولا يصب في مصلحة الجميع أو المجتمع، ولكنه ربما يصب في مصلحة فئة معينة إما فسادا واستئثارا، “وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض”.

ومن هنا فإن هذا الأمر الذي يتعلق بالفهم للآية الكريمة إنما يعبر في حقيقة الأمر عن مفارقة رصدها القرآن الكريم في هذه السورة عن التكاثر الملعون الذي تؤشر عليه تلك التراكمات المادية والتكديس لعالم الأشياء من غير فائدة أو معنى، ولعل ذلك الفهم هو الذي أدى بنا في النهاية إلى أن ذلك التكاثر إنما يحمل علامة ترف وتطرف في إطار ممارسات لا تهم إلا فئة قليلة أو صغيرة أو محدودة، ولا تضاف إلى القيمة المجتمعية التي من شأنها الاتساع والانتشار، “كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم” فيؤدي إلى فعل الاحتكار والمزيد من الاستئثار.

هذه المنظومة -منظومة الثالث من يوليو- تقوم بهدم المقابر حتى لا تكون ذكرى، وتفرط في الرموز حتى لا يكونوا ذاكرة أو تاريخ في حركة مستمرة من الاغتصاب الطاغي والطمس الحضاري العاري

فالمفارقة هي بين ذلك التكاثر في الحياة أي عبادة الحياة الدنيا في مظهرها المادي وعالم أشيائها؛ ولفت الانتباه من بعد ذلك إلى الأمر الذي يتعلق بتذكر الموت، فهذه المنظومة -منظومة الثالث من يوليو- تقوم بهدم المقابر حتى لا تكون ذكرى، وتفرط في الرموز حتى لا يكونوا ذاكرة أو تاريخ في حركة مستمرة من الاغتصاب الطاغي والطمس الحضاري العاري..

والترف والظلم مؤذنان بخراب العمران على ما يعلمنا ابن خلدون في مقدمته الضافية، فالجمهورية الجديدة المزعومة مقطوعة الصلة، منبتة الرابطة مع المجتمع من ناحية، ومع الذاكرة والتاريخ والتراث من ناحية أخرى، ومن هنا يبدو لنا أن ذلك الفهم الذي يتعلق بتلك المفارقة يُثبت أن هؤلاء الذين لا يقدّرون حرمة الأموات في المقابر لا يمكنهم أن يتعظوا من ذلك النداء والتوجيه القرآني المرشد الذي يتعلق باللهو بالتكاثر. إن التكاثر في عالم الأحياء لا يكون إلا من خلال الأشياء الدالة على الترف الذي يتملك النفوس ويُحدث تراكما في الأشياء، وهو من الزيادة والفضول وليس من الضروريات والفروض، ومن هنا يكون بناء القصور الرئاسية والتكاثر فيها هو من “اللهو في التكاثر” المقترن بالتحذير والإنذار.

إن ممارسات وسياسات هذه المنظومة بين كامل الاهتمام بشؤونها الخاصة وقصورها الفاخرة، وبين كامل التجاهل للمواطنين وشأنهم العام، وهو ما تعبر عنه الآية الكريمة “وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ” (الحج: 45)، تؤكد على رؤية هذه المنظومة للإنسان والعمران؛ فصلة العمران بالإنسان وصلة الإنسان بالسكان، وصلة السكان بالأوطان، هذه الصلات تصيغ لنا معادلة شديدة الأهمية؛ “أن العمران حاصل جمع وضرب بناء الأوطان، وبناء الإنسان”، إنها حقيقة أساسية تتعلق بالمفهوم الخاص بالناس وعموم الناس.

وليس عجيبا أن نرى في القرآن الكريم أول آية أنزلت استفتحت بـ”اقرأ”، تلك القراءة الاستخلافية والعمرانية للإنسان وحركته ودأبه على التدافع والتغيير والنهوض والقيام بكل ما من شأنه التزام الحق واجتناب الباطل.

تتجسد الحياة بكاملها للإنسان والعمران والنهوض بالكيان والبنيان، ومن دون هذا الفهم الذي يؤكد على القراءة الاستخلافية، فإننا لا يمكن أن نمارس عمرانا حقيقيا أو إنجازا ضروريا يصب في النهاية في قيمة الإنسان كرامة ورفعة وبنيانا، “الإنسان بنيان الله ملعون من هدمه” فما بالك بهؤلاء الذين يهدمون الإنسان حيا (في السجون) وميتا (بهدم القبور)

إنها الأصول التي تتعلق بهذا الشأن الذي يشكل في الحقيقة قيمة الإنسان حضورا وكرامة، لقد كتبنا في مقالات سابقة عن محنة الشعب المصري في ظل معاناته من نظام انقلابي يفرض عليه ما يسميه بالجمهورية الجديدة، بما تتضمنه من نظرة دونية للإنسان والشعب.. إنها رؤية الطاغوت والطغيان، وفي المقابل يقدم القرآن رؤية واسعة وشاملة ومنفتحة؛ بين فعل “اقرأ” كأول كلمة في تلك الرسالة خاصة وأن آخر كلمة في القرآن الكريم هي “الناس”. وهنا تتجسد الحياة بكاملها للإنسان والعمران والنهوض بالكيان والبنيان، ومن دون هذا الفهم الذي يؤكد على القراءة الاستخلافية، فإننا لا يمكن أن نمارس عمرانا حقيقيا أو إنجازا ضروريا يصب في النهاية في قيمة الإنسان كرامة ورفعة وبنيانا، “الإنسان بنيان الله ملعون من هدمه” فما بالك بهؤلاء الذين يهدمون الإنسان حيا (في السجون) وميتا (بهدم القبور).

بين العمران الزائف والعمران الحقيقي تقع هذه الكلمة التي ينتهي بها القرآن “الناس”، ومن ثم فوجب على من يتعامل مع الناس أن يكون على قدر الأمانة والمسؤولية، “ألا كلكم رع وكلكم مسؤول عن رعيته”، الأمر الذي يحقق معنى كرامة الإنسان ومسؤوليته في الاستخلاف والعمران، ومن ثم فإن القيمة التي تتعلق بهبة السكان في بناء الأمم والحضارات.

“الهبة السكانية”، مفهوم يعبر عن القيمة المضافة التي يمثلها الإنسان والسكان، ومن المهم الإشارة إلى هذا المقال الذي سطرناه من قبل عن “المشاجب” التي تستغلها منظومة الثالث من يوليو والتي تبدع في تسويغ الخراب والتخريب، وحقيقة الأمر أن هذه المنظومة لا تقيم وزنا لعمران ولا تقيم وزنا لبنيان ولا تقيم وزنا لحرمة ميت أو كرامة إنسان.

إنها القضية الكبرى التي تتعلق بتلك الجمهورية الجديدة التي تقوم على قاعدة التخريب الممنهج والمنظم، ولعل هذا النظام حينما يفشل في إقناع الجميع بتلك المشاجب المتعددة فإنه يعود إلى مشجب أصلي لا يبلى عنده ويتجدد؛ ألا وهو اتهام الناس دون أن يقوم على مصالحهم، مبررا فشله الفاضح، ومتحدثا عن الإنسان كعبء، وعن السكان وتكاثرهم باعتباره نقصانا في التنمية وفقدانا في قيمة العمران. إنها الرؤية المقلوبة للإنسان، والتي تناهض فكرة كرامة الإنسان، لأن هذا الإنسان قد كرمه الله سبحانه وتعالى وجعله قيمة للحياة وفي الحياة من خلال هذا النداء القرآني والبيان الاستخلافي “إني جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً”، هذا الأمر الذي يتعلق بالخلافة الإنسانية ملتزما منهج الله وتعلمه الأسماء، كل الأسماء، ليتعرف منها على ما يفيد وينفع في دنيا الناس، وكذلك يتبصر كل اسم زائف مفترى، فبين أسماء العمران وأسماء الهدم والنقصان والفقدان والطغيان بون شاسع في عمران الإنسان والأوطان.

رغم أن الزيادة السكانية في مصر بمتوالياتها تؤكد على أن نسبة الزيادة السكانية قد قلّت وتضاءلت، إلا أن المنظومة لم تتوقف عن إثارة الجدل حول هذه القضية في سياساتها واستراتيجيتها، فدائما تتحدث عن القضية وأزماتها.. هذه النظرة المالتوسية التي تقوم على قتل الإنسان وفنائه، والمشكلة الاقتصادية المزعومة التي تقوم على أن الموارد محدودة والحاجات غير محدودة، تؤكد على الجانب المتعلق بالتصور للمال والعمران ولا الاستخلاف فيهما

ومن هنا كانت هبة السكان وكرامة الإنسان، حينما نأخذها بحقها، وحينما نؤكد عليها في قيمتها النوعية المضافة، فتأتي تلك المنظومة لتتحدث عن الزيادة السكانية وعن أزماتها. هذه الرؤية تقوم على قاعدة رؤية “مالتوسية” للسكان والإنسان، تتخلص من الإنسان ولا تتعرف على قيمته الحقيقية بل تتهاون فيه وتدوس كرامته وتستخف بحياته وكرامته ومكانته. وهذا هو الأمر الخطير، فهم لا يرون في الشعب إلا هذا الشعب “الجعان المتنيل بنيلة” الذي يتحكمون فيه ويقومون بالتلاعب به كيفما أرادوا، ثم يأخذون اللقطة، ثم من بعد ذلك يأتي تمكنهم من الشعب بالاستبداد والطغيان، ومحاولة تحويل هذا الإنسان إلى قطعان، وإلى استخفاف وهوان، “فاستخف قومه فأطاعوه”.. هذه القضية الخطيرة إنما تعبر عن كيف يكون الإنسان قيمة مضافة، وكيف يعد الاستخفاف بالإنسان هو أول المعاول التي تؤدي إلى هدم العمران.

ورغم أن الزيادة السكانية في مصر بمتوالياتها تؤكد على أن نسبة الزيادة السكانية قد قلّت وتضاءلت، إلا أن المنظومة لم تتوقف عن إثارة الجدل حول هذه القضية في سياساتها واستراتيجيتها، فدائما تتحدث عن القضية وأزماتها.. هذه النظرة المالتوسية التي تقوم على قتل الإنسان وفنائه، والمشكلة الاقتصادية المزعومة التي تقوم على أن الموارد محدودة والحاجات غير محدودة، تؤكد على الجانب المتعلق بالتصور للمال والعمران ولا الاستخلاف فيهما. ومن هنا فإن هؤلاء الذين ينظرون إلى الإنسان كعبء، والزيادة السكانية كخطر ماحق للنهوض والتنمية، إنما يحاولون في حقيقة الأمر أن يتخلصوا من مسؤوليتهم في بناء الإنسان وبناء العمران وبناء الكيان وبناء البنيان والأوطان.

الجمهورية الجديدة في حقيقة أمرها قامت على سياسات الإفقار والجباية والطغيان وصناعة الخوف، بما يسلس قيادته واستعباده، بينما الرؤية القرآنية ترى الإنسان ثروة وثورة؛ تحقق لهذا البلد تقدما ونهوضا، إذا ما تم النظر إليه باعتباره قيمة نوعية كما نظر له القرآن استخلافا وعمرانا وكرامة

ومن هنا فإن هذه النظرة المشؤومة المتشائمة التي تتعلق بزيادة السكان ستظل مشجبا تحمله نظم الطغيان حينما تسقط مشاجبها مشجبا بعد مشجب، فلا تجد إلا الناس لتعود إليهم مستخفة بهم وتجعلهم تهمة وتنزع كرامتهم وتدوس روحهم وعمرانهم. هذا هو أصل القضية التي تتعلق بخطاب “السيسي” الأخير الذي طفق يتحدث فيه عن السكان باعتبارهم غرما كبيرا وجرما خطيرا، متبنيا النظريات “الاستعمارية” و”المالتوسية” التي تتحدث عن التخلص من الإنسان بإزهاق روحه، والتكاثر في عمران الأشياء فيما يسمى بالتراكم الرأسمالي.

كل هذه الأمور لا تبني حقيقة العمران، وتشير إلى صورة زائفة للعمران وإلى المقترن بالظلم والترف والجباية في دورة الخراب لا العمران، فالجمهورية الجديدة في حقيقة أمرها قامت على سياسات الإفقار والجباية والطغيان وصناعة الخوف، بما يسلس قيادته واستعباده، بينما الرؤية القرآنية ترى الإنسان ثروة وثورة؛ تحقق لهذا البلد تقدما ونهوضا، إذا ما تم النظر إليه باعتباره قيمة نوعية كما نظر له القرآن استخلافا وعمرانا وكرامة.. “إني جاعل في الأرض خليفة”، “وقد كرمنا بني آدم”. هذه الرؤية تأتي في مقابل رؤية مناقضة: “ألهاكم التكاثر”، “وبئر معطلة وقصر مشيد”.

إن اللهو بالتكاثر هو العمران الزائف، أما العمران الحقيقي فهو في إقامة بنيان الإنسان والتعامل مع السكان كهبة إلهية في النهوض للعمران والأوطان.

twitter.com/Saif_abdelfatah