حتى نبدد تلك الأسطورة الاستبدادية حول الزيادة السكانية وتبنّي هذه الرؤية المالتوسية في مواجهة مقولة أخرى تؤكد على مفهوم الهِبة السكانية وأدوار الشباب الإيجابية في صناعة المستقبل وعمليات التنمية؛ فإننا نأتي على تعيين من يتحمل كل هذه الأزمات الهيكلية والبنيانية التي يعاني منها النظام السياسي المصري في كافة الجوانب الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية.
هذه الطغمة وما سبقها من الطغاة الذين نسجوا هذه الأسطورة منذ حركة يوليو 1952؛ هم في حقيقة الأمر يكررون تلك المشاهد طالما وجدوا المشاجب التي يعلقون عليها كل ما يتعلق بسياسات فشلهم وطغيانهم، وطالما أن من يتحمل الفاتورة مع استئثارهم بالمغانم في ظل مفهوم العصابة الذي تحدثنا عنه هو الشعب، فليترف المترفون، ويبنون القصور والسجون، ويقومون بكل ما من شأنه أن يستخرجوا كل مليم من جيب المواطن “الملعون”. إن من يدفع الفواتير هو شعب مصر بأشكال مختلفة، وإن من يقسم المغانم هي عصابة العسكر وبأشكال مختلفة.
وفي هذا الإطار يأتي حرص منظومة الثالث من يوليو على اتهام الشعب بكل نقيصة وتحميله مسؤولية فشلها وفسادها واستبدادها. يمكن الحديث عن أنماط من الفواتير، وإجبار المواطنين على دفعها بصورة كاملة، بل إن الأمر أكبر من ذلك، حيث تتاجر هذه المنظومة في عملية سداد هذه الفواتير أيضا بما يضمن لها تحقيق مصالح ومكاسب من جراء هذه العملية نفسها، الأمر الذي يجعل الفواتير مضاعفة. وهو أمر باتت تحترفه هذه المنظومة وتتفوق فيه، خاصة بعدما باتت في بعض الأحيان تقوم بدور السمسار/ أو المثمن العقاري، وباتت المتاجرة في الشعب وبالشعب هي المهنة الوحيدة التي تحترفها هذه المنظومة وتجيد القيام بها، وتبرر بها كل عمل أو سياسة أو فساد أو استبداد أو حتى رشاوى في الداخل والخارج، فاتهام الشعب هو الحاضر دائما في مخيلة هذه المنظومة وزبانيتها وأذرعها المختلفة، ومن هنا يمكن استعراض نماذج وأنماط لهذه الفواتير منها فواتير الجباية، والقروض، والفشل، والفساد، والاستبداد والفاشية والظلم.
حرص منظومة الثالث من يوليو على اتهام الشعب بكل نقيصة وتحميله مسؤولية فشلها وفسادها واستبدادها. يمكن الحديث عن أنماط من الفواتير، وإجبار المواطنين على دفعها بصورة كاملة، بل إن الأمر أكبر من ذلك، حيث تتاجر هذه المنظومة في عملية سداد هذه الفواتير أيضا بما يضمن لها تحقيق مصالح ومكاسب من جراء هذه العملية نفسها، الأمر الذي يجعل الفواتير مضاعفة
وإذا تأملنا سياسات ومسارات هذه المنظومة فيما يتعلق بالجباية نجد أن الأمر يفوق الحصر، حتى أنه في فترة من الفترات كان رئيس هذه المنظومة يحرص على الاحتفاظ بدفتر ملاحظات قريب من يده يكتب فيه أي فكرة يمكن أن تعود على منظومته بالجباية. ورأينا نماذج حية لهذا السلوك، وكيف أن القوانين صدرت لاحقة لمناقشة على الهواء مباشرة لفكرة أو عمل يقوم به البعض بعيدا عن الجباية أو الضرائب، مثل أعمال التسوق الالكتروني، أو العمل “الفري لانسر”، إضافة إلى التوسع الكبير في أعمال الجباية والضرائب وتنويع وسائل تحصيل ذلك، وصولا إلى عسكرة وظائف الجباية ومنح القائمين عليها الضبطية القضائية والحصانة العسكرية، ناهيك عن سياساته في ميكنة العديد من المصالح.
وبعكس فلسفة الميكنة والتطوير في كثير من البلاد بأنها تأتي تسهيلا على المواطنين في قضاء خدماتهم، فإنه في مصر تأتي لضمان التحصيل الفوري للخدمة وبالسعر والتكلفة التي تريدها هذه المنظومة، مثل ميكنة عدادات الكهرباء وغيرها من المجالات التي لم تنعكس على المواطن إلا بارتفاع التكلفة ووقوف تقديم الخدمة على دفعه ما يطلب منه دون مناقشة أو مراجعة ضمن حالة إذعانية عامة.
أما عن فاتورة القروض، فهي باهظة وشديدة الخطورة ولا يمكن استيعاب أو فهم سياسة هذه المنظومة لسدادها بعدما تجاوزت الحدود وتضاعفت كثيرا في الفترة الأخيرة دون عائد حقيقي على الوطن أو المواطنين، خاصة وأن هذه القروض منصرفة في مشاريع يسميها قومية لا عائد لها إلا ما يراه رئيس المنظومة من أنها ترفع الروح المعنوية للمواطنين، ويفتخر بأنه لا يلتزم بدراسة الجدوى ولا يعتمد عليها، وهو ما انعكس بقوة على فشل العديد من المشاريع أو وقوع خسائر لا حدود لها، أو أنها تنصرف إلى مشاريع رفاهية وترفيهية مثل القصور الرئاسية الإمبراطورية، وأعلى برج، وأكبر مسجد، وأوسع كنيسة، وأثقل نجفة، ناهيك عن التفريط في الأمن القومي للبلاد ومقدراته الاستراتيجية وأصوله الأساسية دفعا لفوائد هذه القروض، وباتت مصر سوقا مفتوحة للدول صاحبة رؤوس الأموال تختار من مشاريعها وأصولها وأراضيها ما يسدد لها ديونها، ومن ذلك جزيرتي تيران وصنافير، والعديد من الشركات الناجحة، إضافة إلى تكبيل القرار المصري في العديد من الملفات القومية مثل سد النهضة، وممر الهند- إسرائيل، وغيرها من الملفات الاستراتيجية.
تأتي فاتورة الفشل لتعبر عن حالة شديدة الخطورة في المجتمع المصري، خاصة وأنها تتداخل مع ملف من أكثر الملفات خطورة وهو ملف العلاقات المدنية العسكرية؛ حيث تعتمد هذه المنظومة على عناصر المؤسسة العسكرية وتحرص على فرضهم وتمكينهم في المؤسسات المدنية، وفي الوقت نفسه ومع ذلك الفشل المتكرر والواضح للعيان نجد أن منظومة الثالث من يوليو تحمّل الشعب والمكّون المدني مسؤولية هذا الفشل
وتأتي فاتورة الفشل لتعبر عن حالة شديدة الخطورة في المجتمع المصري، خاصة وأنها تتداخل مع ملف من أكثر الملفات خطورة وهو ملف العلاقات المدنية العسكرية؛ حيث تعتمد هذه المنظومة على عناصر المؤسسة العسكرية وتحرص على فرضهم وتمكينهم في المؤسسات المدنية، وفي الوقت نفسه ومع ذلك الفشل المتكرر والواضح للعيان نجد أن منظومة الثالث من يوليو تحمّل الشعب والمكّون المدني مسؤولية هذا الفشل. ولا يمكن تجاهل ذلك المشهد عندما توقف رئيس هذه المنظومة عند أحد المشاريع ليصرخ قائلا: “فين المدني اللي هنا”، كما أنه كثيرا ما يتباهى برجاله العسكريين ويتمنى أن يكون لديه آلاف منهم ليحقق ما يأمل ويتمنى، على الرغم من الفشل المتكرر لهؤلاء القيادات أنفسهم، ولكنه حريص شديد الحرص على تدبيج خطاب معين يضمن من خلاله السيادة والنجاح لعناصر المؤسسة العسكرية في إطار عسكرته للمجتمع.
فاتورة الفساد لا تقل خطورة عن الفواتير السابقة، ويمكننا القول إن الفساد في هذه المنظومة مؤسسي، ولعل مراجعة موقف هذه المنظومة من الجهاز المركزي للمحاسبات ورئيسه السابق المستشار هشام جنينة تكفي للتدليل على حماية هذه المنظومة للفساد ورعايته وإدارته، فالفساد المُدار والمتغلغل في مؤسسات الدولة السيادية والاستراتيجية يحتاج إلى مقالات ودراسات خاصة به.
وتمكن الإشارة إلى واقعة الرشوة التي تم الكشف عنها مؤخرا لسيناتور أمريكي وما كشفت عنه من ملابسات خطيرة جدا، خاصة في ملف الشركة التي تم تأسيسها كواجهة لهذه العمليات في الخارج، حيث تم الكشف عن إٍسناد هذا العمل “الديني الإسلامي” إلى رجل أعمال “مسيحي”! وارتفاع تكلفة هذه الخدمة أضعافا مضاعفة، ناهيك عن التورط في تدمير صحة المصريين باستيراد بضاعة فاسدة تدمر صحة الشعب المصري، وهو أمر لا يشغل بال هذه المنظومة بقدر ما يشغلها من تحصيل مكاسب مادية ومعنوية لا حصر لها.
أما عن فاتورة الاستبداد والفاشية والظلم؛ فحدث ولا حرج، وهي فاتورة تختلف عن جميع الفواتير الأخرى لأن الثمن فيها هو دم المصريين وأعمارهم وحياتهم، سواء بالقتل والسحق والإخفاء القسري والتدوير في السجون حتى نهاية عمر هذا النظام، وضياع موارد وحقوق ومكان ومكانة مصر في ظل هذه المنظومة التي لا تنشغل إلا بتأمين وجودها على قمة السلطة بغض النظر عن الثمن المدفوع.
إن نشر وانتشار حالة الاستبداد والفاشية والظلم في ربوع الوطن يبدو أنها المهمة المقدسة لهذه المنظومة التي تضمن من خلالها استمرارها والحفاظ على كيانها، الأمر الذي ترتب عليه أن باتت مصر بمثابة سجن كبير لا يمكن أن يجادلنا في ذلك إلا القائمون على هذا السجن والمستفيدون منه.
وبات ينتشر مؤخرا على وسائل التواصل الاجتماعي ما أسماها الأستاذ بلال فضل “جريمة عتاب السيسي”، والتي هي عبارة عن مقاطع فيديو ينشرها مواطنون مصريون يعبرون فيها عن الثمن الذي باتوا يدفعونه جراء استمرار هذه المنظومة. ورغم تصريحهم بأنهم كانوا يؤيدون هذا النظام فإن النظام لا يتورع عن إيقاع أشد أنواع التنكيل بهم، ممارسا عليهم كل ما لم يكونوا يصدقونه من قبل. ونحن هنا نندد بما يتعرضون له، ونؤكد في الوقت نفسه أن هذا النظام لا يعمل إلا لمصلحته الشخصية المباشرة وأنه يقتات على من لا يقدّرون خطورة هذا النظام واستمراره.
تكلفة فاشية هذا النظام واستبداده وظلمه تفوق في أرقامها سد احتياجات الشعوب وضروراتها باسم “أمن الدولة”، فإن كثيرا من الباحثين والخبراء قد أكدوا أن تكلفة العدل في المجتمعات والدول أقل بكثير من تكلفة الاستبداد والطغيان
تبدو لنا المسألة في إطار من يدفع الفاتورة أو يدفع التكلفة التي تتعلق بهذا النظام وسياسات فشله، وتوزيع المغانم في ظل استراتيجية تقوم على الفساد والإفساد، وتكلفة فاشية هذا النظام واستبداده وظلمه تفوق في أرقامها سد احتياجات الشعوب وضروراتها باسم “أمن الدولة”، فإن كثيرا من الباحثين والخبراء قد أكدوا أن تكلفة العدل في المجتمعات والدول أقل بكثير من تكلفة الاستبداد والطغيان.
ومع ذلك، لا يأبه المستبد بالشعب، ويستخف بالقوم، ويقوم بكل ما من شأنه أن يزيد استئثاره وتحكمه واحتكاره لكل شأن يتعلق بالدولة والمجتمع. ولم يقف عند هذا الحد، بل واصل سياسات الديون والاقتراض وسياسات الجباية والتفنن في فرضها من مكوس وضرائب، فاستكمل هذا النظام الطغياني كل حلقات منظومة محتكرة ملعونة، مهترئة مجنونة، تقوم بكل ما من شأنه أن يهيمن على مقدرات البلاد والعباد، لتقع الطامة الكبرى، وهو ما سنقوم عليه في مقال آت حول بيع مصر وأصولها في محاولة من النظام أن يجلب مالا ليصرفه مرة أخرى على ترفه ومترفيه، وحينما واجهه البعض بالأرقام المتضاربة أكد “لا تتعبوا أنفسكم في متابعة ما أنفقت سواء كان بالجنيه أم بالدولار، فأنا قد أنفقت الجنيه والدولار”.. هكذا هي متوالية الاستخفاف لمنظومة الاستبداد والطغيان وخراب العمران في الجمهورية الجديدة.