تكامل فكرة المنعطف التاريخي من خلال عالم الأحداث التي تمر على الأمة واحدا تلو الآخر، وقد أكّدنا أن تراكم الانتفاضات الفلسطينية وأشكال المقاومة المختلفة، بما فيها العمل العسكري، شكل أهم نقاط أسلوب المقاومة الذي ترافق مع انتفاضات شعبية واسعة. ولعل هذا يحيل إلى مسألة أساسية: كيف أن معركة طوفان الأقصى استطاعت، ومن كل طريق، أن تجعل القضية الفلسطينية، مرّة أخرى، تستعيد عناصر مركزيتها والحقائق الأساسية التي تتعلق بذاكرتها؟ ذلك أن الكيان الصهيوني، وبدعم غربي، حاول، في الآونة الأخيرة، أن يفرض أمرا واقعا يتعلق بما سمّيت التسوية السلمية، واخترع من تشكيل الرباعيات والخماسيات التي عُطلت على أرض الواقع هذه السياسة ضمن نهم صهيوني لقضم الأرض في سياق مشروعه الاستيطاني. وبدت هذه الأمور جميعا كفرض هذه الحال باعتبارها أمرا واقعا يحاول، بشكلٍ أو بآخر، أن يقضي على تلك القضية الفلسطينية ودفعها إلى أن تستقرّ في غياهب النسيان.
هذه المعركة المهمة التي تتعلق بمعركة الذاكرة بدا للكيان الصهيوني، وبمساعدة ودعم غربي وأميركي واسع، أن يدفع بالقضية إليها، بعد أن حوّل شعاره من التسوية والحل السياسي إلى مرحلة جديدة بعنوان “التصفية”، وصاغ استراتيجية مهمة باسم “التسوية بالتصفية” وقد أخذت تصوّرها، منذ إدارة ترامب، وجرى تنفيذها تحت إدارة بايدن، والإدارة اليمينية المتطرّفة للكيان الصهيوني، التي عمدت إلى القيام بانتهاكاتٍ في الأقصى وتسريع سياسة التقسيم الزماني والمكاني بصورة يومية، ووضعه في قلب المشروع الاستيطاني، وضمن تصوّرات دينية لا أصل لها، لتشكل تلك الاقتحامات اليومية حالة استفزاز للأمة بأسرها.
وكان عنوان “صفقة القرن” أخطر العناوين الذي جعل المشروع الصهيوني وحمايته وتنفيذ مخطّطاته ضمن السياقات التاريخية التي تبنى فيها الغرب قيام دولة إسرائيل، وإقامة هذا الكيان الصهيوني، بدت تلك الأمور مع تشابكها مع موقف عربي مخزٍ مرحلةً فعلية للتصفية، بل اتخذ الأمر أبعادا أكثر من ذلك، تمثلت في الهرولة صوب الكيان الصهيوني للتطبيع معه، والتي جعلته الإدارة الأميركية (الجمهورية والديمقراطية) شرطا وجواز مرور للتعاون مع تلك الأنظمة، فكانت سياسات التطبيع المقيتة تأتي من دولةٍ بعد دولة، لتشكل بذلك اعترافا من المطبّعين بكل ما يتعلق بالكيان الصهيوني، رغم سياساته التوسعية والاستيطانية، بل وصل الأمر ببعض الدول إلى أن تعقد اتفاقات أمنية مع الكيان الصهيوني تشكّل، في حقيقة الأمر، خطرا على الأمن القومي العربي، بل وتضربه في مقتل.
قامت السلطة الفلسطينية بعمل اتفاقات أمنية مع الكيان الصهيوني أدّت إلى أن تكون هذه السلطة وكيلا لدولة الاحتلال لا مدافعة عن الشعب الفلسطيني وحقوقه
جعل هذا كله القضية الفلسطينية في حالة “موت سريري”؛ لا أحد يهتم، بأي حال، بأن يضعها على أجندة اهتمام أي طرف عالمي أو إقليمي، وباتت تنزوي بالفعل ضمن تراكم حالة الإغفال المتعمّد مع سبق الإصرار والترصد للحقوق الفلسطينية؛ حتى أن إسرائيل باتت تنزعج من أن ترد كلمة فلسطين بالمصادفة. وكان تصريح من رئيس الوزراء الصهيوني أن المشروع الصهيوني سائر في طريقه لا محالة، وأن وهم الدولة الفلسطينية، أو حل الدولتين، لم يعُد محلّ اهتمام من أحد. هكذا نُسج هذا المناخ على هذه الحال من النسيان والتغافل، مستفيدا من حالة الغفلة التي تحولت، في بعض صورها، إلى خيانةٍ صريحةٍ للقضية الفلسطينية ضمن إجراءات تطبيعية، بل أرادت صفقة القرن أن تعجّل من هذه السياسة الصهيونية ضمن غطاء فكري، حاولت أن تجد له قاعدة ومسلكا لتنفيذ سياساتها ضمن ما سمّيت “اتفاقات أبراهام”.
ومن المؤسف حقّا أن يتم ذلك تحت بصر ما تسمى السلطة الفلسطينية التي تواطأت ضمن هذا المشروع، إلا من إطلاقها كلمات عنترية هنا أو هناك، لا تسمن ولا تغني من جوع. وفي المقابل، قامت بعمل اتفاقات أمنية مع الكيان الصهيوني أدّت إلى أن تكون هذه السلطة وكيلا لدولة الاحتلال لا مدافعة عن الشعب الفلسطيني وحقوقه؛ ولا تتبنّى القضية الفلسطينية منذ بدأت في مواجهة هذا الاحتلال الاستيطاني الصهيوني. ولم تكن هناك أصواتٌ تُعارض هذا التيار الذي نسج خيوطه، ليسدل الستار على أهم قضية مركزية للأمة، القضية الفلسطينية.
علينا أن نذكّر القاصي والداني بأن إقامة الكيان الصهيوني كان مشروعاً للحضارة الغربية بامتياز
ومن ثم، أهم ما قامت به معركة طوفان الأقصى، ولها آثار كثيرة تعرض الكاتب لها في مقالات متنوعة، إعادة القضية الفلسطينية إلى الخريطة العالمية والإقليمية والإسلامية والعربية، فصار كل هؤلاء يتحدّثون عن خطئهم حتى الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، الذي تحدّث عن هذا الخطأ الاستراتيجي، والسير في مسالك تصفية القضية الفلسطينية. وهنا برز خطابٌ مهم يتحدّث عن أصل القضية الفلسطينية، وأن هذه القضية بالأساس يجب ألا نقف فيها عند يوم 7 أكتوبر الذي لم يكن إلا معركة أرادت أن تلفت نظر العالم إلى هذه القضية العادلة التي تتعلّق بحقوق الشعب الفلسطيني؛ وكيف أن العالم قد تواطأ على أن يجعل الكيان الصهيوني، صنيعة المشروع الغربي، له القدح المعلى في السيطرة وقضم مزيدٍ من الأرض وفي استمرار مشروعه الصهيوني واستقراره.
الحديث الذي تصاعد بمناسبة طوفان الأقصى عن ضرورة إعطاء القضية الفلسطينية أولوية كبرى تُخرج هذه القضية من هذا القمقم الذي أراد به الكيان الصهيوني أن يصفّي القضية الفلسطينية، وأن يحفظ لإسرائيل الهيمنة والسيطرة على القدس والمقدّسات، وعلى معظم الضفة الغربية، ويعالج موضوع الفلسطينيين كمدنيين يقيمون تحت الاحتلال، بل لا بأس من فتح ذلك المشروع الأساسي الذي تتبنّاه الحركة الصهيونية القائمة على الترانسفير، في سياق تهجير الفلسطينيين، وفي سياق استجلاب مستوطنين يهود من كل أنحاء الدنيا. ولعل معركة طوفان الأقصى قد كشفت، وبشكل فاضح، عن هؤلاء الذين وقعوا في قبضة المقاومة الفلسطينية في أثناء عملية طوفان الأقصى، فهذا أميركي، وذاك فرنسي، وهذا إيطالي، وذاك إسباني، ومن كل بلاد الدنيا وبلاد الغرب، وقد امتلأت خريطة الأسرى بهم، ألا يتأمل هؤلاء ضمن هذه المسألة الكاشفة لماذا هؤلاء موجودون في مستوطناتٍ تقع في غلاف غزّة، أليس هذا هو المشروع الاستيطاني الذي يقوم الغرب فيه بمدّ الكيان الصهيوني بالمال والسلاح والبشر، أليس هؤلاء يسهمون في قضم الأرض الفلسطينية وترسيخ عملية سرقتها واحتلالها وترسيخ الاستيطان فيها؟!.
أعادت معركة طوفان الأقصى القضية الفلسطينية إلى الخريطة العالمية والإقليمية والإسلامية والعربية
وهنا وجب كذلك علينا أن نذكّر القاصي والداني بأن إقامة الكيان الصهيوني كان مشروعا للحضارة الغربية بامتياز، ضمن إنشاء كيان وظيفي له بعض الوظائف التي يقوم بها وعليها لمصلحة من أنشأه، ولعل هذا الأمر الذي حدث في 7 أكتوبر، وتداعي كل هؤلاء في مؤسّسات الغرب بوصفه هذا الفعل بالإرهاب من المقاومة، والحديث عن حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها، إنما يشكّل حلقة أخرى ضمن أساليب النفاق الغربي في النظر إلى القضية الفلسطينية، الذي لا ينظر إلى إسرائيل دولة احتلال، وأنه الاحتلال الاستيطاني الغاصب الوحيد في هذه الحقبة، فبعد انتهاء كل أشكال الاستعمار التقليدي، ظلت إسرائيل (بعد أن نالت جنوب أفريقيا استقلالها وحرّيتها) هي الكيان الاستعماري الاستيطاني الوحيد في هذا الزمان؛ ويعني ضمن ما يعني أن الحقّ في مقاومة الاحتلال يعدّ مشروعا قانونا، واستنادا إلى حقّ الشعوب في تقرير مصيرها.
ولعل هؤلاء الرسميين ووزراء الداخلية في الغرب انتفضوا جميعا ليمنعوا تظاهر الشعوب والمواطنين الغربيين لمناصرة القضية الفلسطينية، بل إنهم ذهبوا أبعد من ذلك، فقد جرّم بعضهم رفع العلم الفلسطيني في أي تظاهرة في بلادهم، لأنه يذكّرهم بجريمتهم في إقامة هذا الكيان الصهيوني. إنهم يخافون العلم، لأنه يحكي قصة القضية الفلسطينية التي يحاول الكيان الصهيوني محوها من الذاكرة. إنها الحقيقة الكبرى التي أكّد عليها هذا العمل الكبير، طوفان الأقصى، ومن قبله معركة سيف القدس، التي فجّرت وحدة الساحات في جميع أراضي فلسطين؛ في الضفة الغربية والشيخ جرّاح والمسجد الأقصى في القدس. وهكذا من قلب وحدة الساحات، كانت معركة طوفان الأقصى لتعيد القضية الفلسطينية إلى مقامها في الواجهة، بفضل ما قامت به مقاومة الأمة في “طوفان الأقصى” وغيرها من الانتفاضات والمعارك.