من الأمور المهمّة التي تؤشّر إلى أن الثورات تستحق أن توصَف منعطفا تاريخيا استمرارية الآثار واعتبار المآلات؛ على ألا تكون تلك القراءة للآثار والمآلات عفو الخاطر أو ببادي الرأي، وإنما ضمن سياقات التفكير المركّب؛ الذي يعّبر عنه إدغار موران بضرورة التفكير بالمستقبل، وهي محاولة لمواجهة التفكير الاختزالي والتبسيطي الذي يتّسم بعدم القدرة على تمثل الوصل بين الواحد والمتعدّد. وانطلاقا من ذلك، لا بد أن نفكّر تفكيرًا مركبًا حينما تكون الظواهر مركّبة، وأن تحويل الظواهر المعقّدة إلى مجرّد مجموعة من المؤشّرات (عملية التأشير) أو المشاهد أو الخواطر هو نوع من التبسيط والاختزال، لأن، وفقًا لما قاله موران: منظومة التبسيط عن طريق تنظيمه واختزاله في كيانات “مغلقة” و”ثابتة” و”عالمية” لا تعرف النقائص أو الاختلافات أو التمايزات أو الخصوصيات أو التحوّلات، هذه فكرة غير صائبة؛ فأكبر خطر يواجهنا عند التبسيط هو الاختزال، هذه تمثل قضية محورية في إطار الحديث عن الثورات في عالمنا العربي.

وحينما يتحدّث موران عن المنظومة المفقودة والعلم الواعي، فهو واعٍ بأصول هذا العالم المتنوّع المختلف، مهما أطلقنا عليه من أوصاف الخصوصية/ التعدّدية/ النسبية الثقافية، إذ جميعها تعبيراتٌ شاعت في كتب علم الاجتماع على وجه الخصوص. والأمر هنا يرتبط بضرورة أن ننفصل عمّا تسمّى “مقولات العقل الأعمى”، وهو الذي يتسم برؤية أحادية في توصيف المشكلة وفي حلها، وإن البصر بهذا إنما يحدُث بالوعي أن هذه النظرة الأحادية في طبيعة دراسة الظاهرة ووصفها وفي البحث عن الحلّ لإشكالاتها، هو الذي يشوّه المعرفة ويمسخ الواقع، ومن ثم نطرح تلك الأسئلة عن الثورات العربية، مثل هل هي ثورات حقيقية؟ هل هذه ثورات، أم انتفاضات، أم احتجاجات؟ هل الظاهرة الثورية تولد مكتملة أم تكون بمثابة إيذانٍ بالإعلان عن فتح أبواب التغيير مشرعة واسعة؟ ليس للثورات كتالوج معروف أو أشكال محدّدة. ومن ثم، هذه الثورات العربية، والتي ربما يعبّر تحفّظ بعضهم على إطلاق كلمة ثورة عليها عن أن حدث الثورات لا يولد مكتملا أو تامّا، ولكنه يتخذ أشكالا ومراحل من التحوّل والانتقال.

ومن هنا، يجب أن يكون النظر إلى الانتقال الديمقراطي باعتباره عملية، وهي معقّدة بطبيعتها، تتداخل في تشكيل مساراتها ونتائجها عوامل عديدة، داخلية وخارجية، فقد تكون مصحوبةً بمرحلة جديدة تتمثل في ترسيخ النظام الديمقراطي، وقد يحدُث العكس بحدوث ردّة أو انتكاسة تقود إلى نشوب صراع داخلي أو حربٍ أهليةٍ أو ظهور نظام تسلّطي جديد، كما أن مرحلة الانتقال قد تُفضي إلى ظهور نظم سياسية هجينة، بمعنى أنها نظمٌ لا تُعتبر غير ديمقراطية بالمعنى الكلاسيكي، شمولية أو تسلّطية مغلقة، ولا تكون، في الوقت نفسه، ديمقراطية كاملة أو راسخة، أي تجمع بين بعض عناصر النظم غير الديمقراطية وبعض ملامح الديمقراطية وعناصرها، لكن هناك نقطتين هامتين تتعيّن الإشارة إليهما بخصوص دور العوامل الخارجية في دعم الانتقال الديمقراطي: الأولى، أن درجة تأثير العوامل الخارجية في عملية الانتقال الديمقراطي تختلف من حالة إلى أخرى، حسب اختلاف استراتيجيات الفاعلين الدوليين، وطبيعة الظروف والعوامل الداخلية في البلدان المستهدفة، والثانية أن بعض العوامل الخارجية لعبت دوراً مهما في دعم النظم التسلّطية وترسيخها، وليس دعم الانتقال الديمقراطي.

تظلّ الثورة بإلهامها في ذكرى شعوبها عملا إيجابيا يمكن أن يُحاكى، ولو بعد كل حين

ولذلك، من الأهمية بمكان أن نعرف أن الثورات قد تتوارى وتمرّ عليها السنون، وقد تُحاصر ويلتفّ عليها المغرضون، وقد يحاول أن يستفيد منها أو يركبها الانتهازيون، ولكن هذه الثورة تظلّ بإلهامها في ذكرى شعوبها عملا إيجابيا يمكن أن يُحاكى، ولو بعد كل حين. إنه قانون الثورات الذي يجب أن نتعامل معه في إطار استمرارية معامل الاحتجاج ومصانع الغضب وأشواق الأمل، إنها واحدةٌ من حلقات التغيير، لتعلن، بشكل دائم، هذا المعنى من التدافع العظيم، لتؤكّد كل يوم أن هذه الثورات الحقيقية لا ولن تموت؛ في مواجهة ذلك الحلف المضادّ للثورات العربية الذي ظنّ أنه قد نجح نجاحا مؤزّرا في تمكين كثيرين من عملائه على دول الموجة الأولى للثورات العربية، التي بدأت بتونس ثم مصر، ثم توالت الاحتجاجات الأخرى في اليمن وسورية وليبيا، وكانت تلك الاحتجاجات، على التتابع والتوالي، تمثل حالات متراكمة أزعجت ذلك الحلف دوليا وإقليميا، وبدأ هؤلاء في الإقليم يتنمّرون لحصار تلك الثورات أو الالتفاف عليها أو إجهاضها أو تحويلها إلى حالة من الانقلابات العسكرية أو تحويلها، بتأليب قوى مختلفة، إلى حروب أهلية.

بدا هذا الحلف سعيدا آمنا مع رؤيته بلاد الثورات تعاني، معتبرا ذلك عقابا على قيامها بتلك الاحتجاجات والمطالبة بالتغيير، وبات هؤلاء يتندّرون على تلك الثورات بأنها فشلت، أو أنها تحوّلت إلى خريف عربي بدلا من وصفها بالربيع، أو أن تلك الثورات مسؤولة عما وصلت إليه شعوبها من أحوال متدنّية في النواحي الأمنية والصحية والاقتصادية. وبهذا الاعتبار، لا ينتهي حديث الثورة حتى لو مرّت أيام وانقضت عقود؛ وأصاب مشروع الثورة ما أصابه، فلا تزال الشعوب تداعبها آمال التغيير وأشواق الثورات، مختلطة المشاعر، مختلفة الآراء حيال فعل الثورات؛ حيث يتداخل فيها السلبي مع الإيجابي، وربما تسودُ، في وقتٍ، لدى هؤلاء، حتى الذين يؤمنون بالثورات، حالة من الحيرة، حينما تتصفح صفحات الآمال وصفحات المآل، أي ما آلت إليه الثورات وما ترتّب عليها من نتائج؛ وما ارتبط بها من تضحيات، وربما تشهد، بعين الرؤية، النظام يعود أسوأ مما كانت عليه الحال حينما قامت الثورات.

يبدو هذا التناقض عجيبا، ولكننا نقطع بوجوده، أشواق في التغيير مشوبة بإحباط من حيث التأثير؛ وفي هذه الحال المضطربة ووضع الحيرة، تستخدم الثورة المضادّة هذا الوضع لتنفث كل سمومها، لتؤكد نظرتها الدنيئة إلى عمليات التغيير؛ فتشيع كل مشاعر الإحباط الذي تحاول أن تجعله يأسا مقيما، وفرضوا على الألسنة كلماتٍ مثل “مفيش فايدة”، وتتراكم مقولات أن الثورة ماتت أو خابت أو انهزمت. يحاول هؤلاء من كل طريق أن يسدّوا الباب على التفكير في ثورات قادمة ومُقدِّمة؛ وتحاول أن تبثّ الشعور بعدم الجدوى وعدم الجدية في فعل الثورات وآثارها؛ وتشيع مشاعر الحسرة والندامة ليتمنّى بعضهم أنه لو لم يقم بثورة، أحوال نفسية جماعية خطيرة يحاول كل هؤلاء ومعهم المستبدّ الذي يحاول أن يمكّن لسلطانه ليقايض الناس بين الثورة بوصفها عملا يبثّ الأمل في حياة كريمة والموت أو السجن والاعتقال أو المطاردة ثمنا لأي فعل ثوري أو أي فعل احتجاجي.

يجب أن يكون النظر إلى الانتقال الديمقراطي باعتباره عملية، وهي معقّدة بطبيعتها، تتداخل في تشكيل مساراتها ونتائجها عوامل عديدة، داخلية وخارجية

رغم هذا كله يظلّ أمر الثورات تحدّده ثلاث كلمات؛ الثورات قائمة؛ الثورات كامنة؛ الثورات فاعلة؛ وربما يشكّل “طوفان الأقصى” داعما لذلك؛ فما دامت الأسباب الأساسية قائمة، ولائحة السلبيات ما زالت متزايدة ومتراكمة؛ فإن الثورات العربية التي اجتاحت عدة بلدان عربية خلال العقد الماضي، والتي اصطلح على تسميتها إعلاميا “الربيع العربي”، كانت بمثابة هزّة عنيفة، زعزعت كيانات الأنظمة السياسية في المنطقة، والمنظومات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية، فعلى الرغم من أن ما حدث في العالم العربي كان نتيجة للعوامل الكثيرة الداعية له، إلا أنه كان مفاجئا وغير متوقع نتيجة التراكمات والأزمات داخل المجتمعات العربية جرّاء الفساد السياسي والفشل الاقتصادي والتهميش الاجتماعي؛ وتؤكّد، في المقابل، شعار الثورات الذي لم يتحقق، بل زادت الأمور سُوءًا؛ “عيش كريم؛ كرامة إنسانية؛ حرية أساسية؛ عدالة اجتماعية”.