ثورات الربيع العربي في مصر

أهم ما يمكن الإشارة إليه في إطار الاهتمام بموضوع “الثورات عامة والثورات العربية على وجه الخصوص”، بوصفه من الموضوعات التي فرضت نفسها على الساحتين الإعلامية والعلمية، فضلاً عن الساحة الثقافية التي امتلأت بندوات ومؤتمرات ومساجلات عن الثورات العربية، ألا يتحول الموضوع إلى “أسطورة برج بابل” التي تشير إلى فوضى الفهم وحدّية المواقف، بما فيها من بلبلة الألسن، حتى لو تحدّث الناس بلغة واحدة. يذكّر هذا كله بقصة “جدل بيزنطة” التي ظلّ أهلها يتجادلون في مسألةٍ لا طائل من البحث فيها، والعدو على أبوابهم، دخل في غفلة تنازعهم على اللاشيء. كما يذكّر هنا بمناقشات كلامية اتسم بها علم الكلام في مرحلته المتأخّرة، حينما تحول عن وظيفته الأصلية في مواجهة “الزنادقة” إلى مساجلات تنازعٍ لا تورّث إلا الفشل. ويذكّر ذلك أخيراً بنمط مواقفنا في خطابتنا حول قضايا تمسّ الكيان والبنيان، بنمط التأليف التقليدي والنظم الشعري، والتي تحاكي عناصر مضى أوانُها ضمن أغراض شعرية متنوّعة، وبدت الثورات موضوعاً لكل هؤلاء يتقدّم إليه كلُّ شاعر في ما يحسنه من غرض، فهذا يتناول الثورات ضمن أغراض “المدح” التي تبالغ في مدح الثورات إلى الحد الذي تضفي فيه صفاتٍ عليها ليست فيها، بل ربما تحمل داخلها نقيض ذلك.

وفي مقابل ذلك، يتصدّر كل من يحسن أغراض الهجاء الشعرية التي تحوّل أدنى خلاف إلى حالة من الخصومة التي لا تندمل أو تستدرك، إنه غرضٌ يتأسّس على الإسقاط، فهو لا يشعُر بقوة الذات إلا عبر هجاء الخصم، ويتأجّج الخلاف الصغير حتى يتحوّل إلى عناصر انقسام واستقطاب خطيرة، لأسبابٍ يغلب عليها التسييس أو عالم الأيديولوجيا والأحكام المسبقة. تتكامل الصورة بغرض شعري آخر، وهو الفخر والزهو، في إطار بوجه الثورات بمبالغات في تضخيم الذات، ولا بأس بغرض الغزل الصريح والعفيف في الثورات، فحبّك الشيء يعمي ويصم، وها هو الغرض الذي تكتمل به خريطة الأغراض الشعرية في معلقات العولمة، وهو الحماسة، في إطار حركة عنترية قد تفرض علينا خطواتٍ أو سياساتٍ أقرب ما تكون للتهوّر منها إلى الشجاعة والإقدام. في هذا المقام، تأتي الثورات، كما هي القضايا الكبرى والمفصلية، لتقدّم حالة نموذجية ضمن سياقات لدراسة الخطاب حولها.

التغيير الاستراتيجي الكبير قادم لا محالة، والمهمّ ألا نفوّت الفرصة

تتمثل أقسى صور الإحباط في أن تعود “دول الربيع” بعد مرور عقد أو يزيد من الثورات ومن الغضب الاحتجاجي المناهض للاستبداد إلى ما دون المربّع الأول؛ فتتمنّى الغالبية العظمى من جماهير الغضب عودة الاستبداد السابق، بعد أن كانت تراه جحيما لا يُطاق. … إنها دوّامة يأس لا تبتلع الأحلام فحسب، وإنما تبتلع أيضا إرادة التغيير، مع ما بقي من أحلامٍ تائهة تلفّها الحيرة، وقد تزايدت تصوّرات المؤامرة وتفسيراتها من الجانبين، المؤمنين بالثورة والكارهين لها، فنظرية المؤامرة تُريح من يتبنّاها من عناء البحث عن الأسباب واستقصاء الأفكار والمعلومات والتعقيدات التي تحيط بالتقنية موضع الحديث، وأنها تعطي الذات ما يزيد عن حقيقتها. وفي واقع الأمر، الحديث عن نظرية المؤامرة الذي يتسم بحالة من البساطة، وربما التبسيط في التعامل مع عالم الأحداث وتشابكاته، إنما يستدعي، ومن أقرب طريق أنماط تفكير يسمّيها بعضهم “غير علمية” من قبيل: التفكير الخرافي، والتفكير الغيبي، وهو نوع من التجاوز في ربط التفكير الغيبي بالخرافي من ناحية، فضلاً عن وضعهما ضمن عناصر التفكير غير العلمي من ناحية أخرى.

كشفت الثورات العربية، ومعها فشل النظام الإقليمي، عن ضرورة التغييرات المقبلة (عالم الأحداث كان فيه أمور كثيرة دفعت إلى التساؤل عن متى يثور الناس، سواء بالنسبة للقضية الفلسطينية أو وقوع أحداث كبرى في الدول العربية أو أحداث النظام الإقليمي العربي والتدخّلات الخارجية فيه؛ ولعل “طوفان الأقصى” أعظم شاهد على تلك الحال). وبالنظر إلى مفاصل زمنية عبر هذه السنوات، يمكن التمييز بين مراحل فرعية مرّت بها التفاعلات الإقليمية بين القوى، وانطلقت هذه التفاعلات من “الثورات المتعاقبة”، ثم تمحورت حول الانقلابات والثورات المضادّة التي حوّلت الثورات إلى حربٍ على الإرهاب، كما تشابكت حول إدارة الصراعات المسلحة العنيفة (حروب أهلية) في اليمن، سورية، العراق وليبيا؛ وهي حروبٌ بين نظم أو أشباه نظم وقوى وحركات مسلحة متعدّدة الأطياف، حروب وضعت على المحكّ مستقبل الدول القائمة ومستقبل النظم الحاكمة التي ثارت عليها الشعوب.

الثورة ليست عملا داخليا؛ هناك بيئة إقليمية ودولية قد تكون غير مواتية لفعل الثورات مما يفرض على أهلها التحسب للخارج والإقليم والتعامل مع تلك السياقات بالوعي اللازم والسعي الدائم

ممارسة النقد الذاتي للثورات العربية على نطاق واسع من المراجعة بعد تراجع في تلك الدول التي شهدت الثورات واحدة تلو الأخرى؛ وبعد أن توارت الثورات وخفَت زخُمها، وما آلت اليه الأحوال من جرّاء حلف الاستبداد والطغيان المتعاظم، والمضادّين للثورات الذين اصطفوا وكأنها معركة القرن لهم، أرادوا أن يجعلوا منها حرباً على التغيير؛ ولكنهم لا يدركون وربما يتغافلون عن حقيقة أساسية ثابتة لا يطاولها تحول أو تبدّل إنها سنة التغيير الثابتة. التغيير الاستراتيجي الكبير قادم لا محالة، والمهمّ ألا نفوّت الفرصة. التغيير القادم إما أن يكون لنا أم علينا؛ ومن المهم الاستعداد له في كل المجالات وبكامل تنوّع الأدوات؛ فما شهدنا من منعطفاتٍ إلا كان في قلبها وفي أعقابها مراجعات: السؤال الحقيقي الذي يتطلب المراجعة الذاتية والنقد القويم ماذا تبقى من الثورات العربية وما هي الدروس المستفادة منها؟ سؤال تتفرّع منه وعنه الأسئلة ولا بد أن يطرح الإجابات الواعية ويمكن للاستجابات الفاعلة:

درس الانتقال والمراحل الانتقالية؛ الذي لا يوجد له تصوّر متكاملٌ لإدارة هذه المراحل؛ كما يطرح أنه لا يوجد تصوّر ثابتٌ، بل هو تصوّر مرنٌ يأخذ في اعتباره كل جهات الاختلاف؛ ذلك أن هذه الحالة الانتقالية إبّان الثورات وبعدها لا بد أن تستلهم مفهوم إدارة الاستثناء بكل أحواله وموجباته وشروطه وتجليّاته المتنوعة.

دروس الاستقطابات وغياب تصوّر في مسألة التوافق السياسي؛ والذي ترك فراغا واسعا ملأته الفرقة الجالبة للتنازعات، فبرزت الاستقطاباتُ على السطح وكانت سيدة الموقف ومقبرة الثورات؛ افتقاد المشروع السياسي الذي يحتاج الحد الأدنى من التوافق والتعاقد السياسي والاجتماعي الجديد، ولذلك كله شروط أساسية وتأسيسية ومؤسسية.

تحتاجُ الثورة الحقيقية الأساسية أدواتٍ لحماية نفسها، حتى لا يلتف أحد حولها أو إجهاضها أو حصارها

درس النظرة الرومانسية للثورات؛ امتلأت ساحة الثورات بتصوّرات شديدة العاطفية والانفعالية؛ الانفعال الثوري الحافز لوجدان الفعل الثوري والمستلهم لأشواق التغيير؛ كأن الثورات التي اتخذت طريق التغيير لن تصادف عقبات، فضلا عن ذلك عدم إدراك أن الثورة ليست عملا داخليا؛ هناك بيئة إقليمية ودولية قد تكون غير مواتية لفعل الثورات مما يفرض على أهلها التحسب للخارج والإقليم والتعامل مع تلك السياقات بالوعي اللازم والسعي الدائم.

درس وعد الثورات ما يمكن تسميته التحسّب للثورات الثلاث؛ الثورة الأساسية الحاملة للوعد والمدافعة عن حياضها، المضادّون للثورة النافون لها والعاملون لإجهاضها ومحاصرتها، وثورة التوقعات التي تتعامل ولا تتناسى الظهير الشعبي والحاضنة الشعبية وتحمل لهم وعود الثورة لا في صورة الأماني الكاذبة أو الزائفة ولكن في بناء استراتيجيات كبرى وتصوّرات تنفيذية واضحة للجانب البنائي من الثورة في سياقات تستثمر شعارات الثورات؛ الشعب يريد؛ وعود الثورة تكمن في مطالب أساسية؛ العيش الكريم، والكرامة الإنسانية، والحرية الأساسية، والعدالة الاجتماعية ثورة التوقعات ومعاش الناس؛ فإذا لم يكن هناك تصوّر سياسي لمحاضن الثورة ومراحلها الأولى قد تضيع الثورة.

الثورات حَمل خارج الرحم يحتاج لشروط يمكن أن تؤثر على صحة الأم والجنين؛ تقاطع الثورات الثلاث المشار إليها وتدبر شروطها وتمييز التعامل مع كل منها شيء غاية في الأهمية؛ تحتاجُ الثورة الحقيقية الأساسية أدواتٍ لحماية نفسها، حتى لا يلتف أحد حولها أو إجهاضها أو حصارها؛ قوى المضادّين للثورات موجودة قبل الثورة، وما يستجد هو قوى الثورة. ولذلك تملك ميزة نسبية وأدوات ومفاصل وإمكانات مادية. لا يكفي الزخم وحده، ذلك أن المضادّين للثورة قد ينحنون للريح، وقد يدخلون إلى جحورهم إلى حين يتربّصون الدوائر. قضايا مهمّة يجب التفكير فيها والتدبير والتسيير، ضمن رؤية شاملة للحفاظ على الثورات مبنىً ومعنىً ومغزى، وتنوع مسالك التغيير والفاعلية والتأثير. التفكير بمستقبل الثورات جزءٌ من القيام بالثورة؛ اليوم الثاني بعد الثورة أهم من يومها الأول. ستظلّ فكرة مستقبل الثورات دوما تتعلق بدروس أيام الثورات ووقائعها. إنه الحدث المنعطف الذي يتطلب قراءات المراجعة والاعتبار والاستثمار “وذكرهم بأيام الله”.