صناعة القرار

نشر في جريدة الشروق المصرية 14 ديسمبر 2013

من المهم أن نشير إلى مكانة مصر والحفاظ عليها كأحد أهم أهداف الأمن القومى المصرى ضمن رؤية استراتيجية تتحسب لكل خطر محتمل على هذه المكانة، وعلى جوهر الأمن القومى الحقيقى الذى يرتبط بحياض مصر وقدراتها خصوصا أننا نشهد فى الآونة الأخيرة وبعد انقلاب الثالث من يوليو رؤية تحاول أن تموه على مفهوم الأمن القومى وتجعله ينتقل إلى تعاملات تمس حركة القوى السياسية الداخلية، وتعد فصيلا سياسيا ومجتمعيا تهديدا للأمن القومى، وهى أمور نؤكد أنها ضمن عمليات خطيرة من التسميم السياسى لمفاهيم كبرى مثل الأمن القومى المصرى والعربى؛ ذلك أن التمويه على هذا المفهوم فضلا على الغبش فى تحديد أولوياته لا يعد فى الحقيقة ضمن هذا المفهوم، وتحاول أن تدس فيه ما ليس منه بينما تتجاهل وتستخف بما هو تهديد حقيقى للأمن القومى المصرى فى امتداداته العربية والإقليمية.

تبدو لنا الأمور فى خطورة هذا التسميم السياسى الحادث من ذلك الترصد الإعلامى لموضوع سد النهضة على سبيل المثال إبان فترة حكم الإخوان والرئيس مرسى؛ هذا الترصد يمكن أن نشير إليه فى أكثر من مشهد:

مشهد زيارة الرئيس محمد مرسى إلى إثيوبيا وما لاقاه من تهكم وسخرية عليه عقب عودته وإعلان بدء العمل فى بناء سد النهضة.

أما المشهد الثانى فيتعلق بذلك الصمت الرهيب الذى اتخذته الحكومة الانقلابية من مساعى إثيوبيا فى استكمال بناء السد، وحينما تهكم البعض عن صمت هذه الحكومة والصمت الإعلامى حول هذا الموضوع الذى كان فى حقيقة الأمر مجالا لحفلة إعلامية صاخبة للتهكم والسخرية على حكومة الإخوان فى موضوع يعتبر من صميم الأمن القومى المصرى الذى يجب أن يتخذ بالجدية الواجبة ويعالج بالقرار الرصين والتحرك فى ضوء استراتيجية مكينة.

وعندما أرادت هذه الحكومة التعليق على هذا الملف خرج علينا رئيس وزراء الحكومة الانقلابية الدكتور حازم الببلاوى ليحدثنا بلغة أخرى عن هذا السد بأنه لا يمثل أية خطورة وأنه يحمل الخير قائلا: «الحكومة ترى أن سد النهضة يمكن أن يكون مصدر رخاء للدول المحيطة، خصوصا أن إثيوبيا ليست فقيرة فى المياه بل لديها فائض»، وفى إطار هذا المشهد تلقفت أثيوبيا هذا الموقف الجديد الذى أحدث ارتباكا فى الموقف المعتاد للسياسة المصرية؛ حيث أبرزت وسائل الإعلام هذه التصريحات حتى إن التليفزيون الإثيوبى قال: «إن رئيس الوزراء المصرى حذا حذو رئيس الوزراء الإثيوبى الراحل ميلس زيناوى عندما أكد أنه ليس أمام إثيوبيا والسودان ومصر بديل سوى التعاون»، ورغم هذه التصريحات التى كانت سببا فى ارتباك المواقف إلا أن أحدا لم يتوقف عند هذه التصريحات معقبا فى إطار تقييمها وتأثيرها على استراتيجية الأمن القومى المصرى ولكن صمت الجميع ولم ينطق بكلمة إلا حينما وبناء على هذا الموقف المصرى بدأ السودان يتخذ موقفا ربما يكون مواتيا لقرار إثيوبيا ببناء السد فى إطار ترحيبها بالسد وحديثها عن الفوائد إلى ستعم أو الخير الذى تحدث عنه رئيس الوزراء المصرى فانتقد الخبراء السودان ووصفوا موقفها بالمحير، وبدت المعزوفة بلغة اتهامية متناسية تصريحات الببلاوى فى هذا المقام، وكأننا نطلب من السودان أن يكونوا ملكيين أكثر من الملك.

يتكامل مع هذه المشاهد مشهد على الجانب الآخر من الأمن المصرى وفى صميم أمنه القومى أيضا، والذى استجد مع الإعلان عن توقيع «إسرائيل والأردن والفلسطينيين فى مقر البنك الدولى بواشنطن «اتفاقا» لتنفيذ «قناة البحرين» لربط البحر الأحمر مع البحر الميت، ومر الخبر مرور الكرام ولم تنطق الحكومة الانقلابية بوزارة خارجيتها بأى تعقيب على هذا الموضوع رغم خطورته على الأمن القومى المصرى فى ظل وجود دراسات كتبت منذ فترة طويلة نستعرض أبرز أفكارها تنوه بخطورة هذا المشروع على الأمن القومى المصرى والمكانة الإقليمية لمصر ومنها أن مشروع «قناة البحرين» بما يحويه من مشاريع اقتصادية ومحاولة جذب الاستثمارات له يكرس للفكرة الصهيو أمريكية القائلة بوضع إسرائيل موضع الريادة فيما يسمى منطقة الشرق الأوسط الكبير، ويؤكد أن إسرائيل مازالت تسعى وراء حلمها القديم فى شق قناة تربط البحر الأحمر بالبحر المتوسط، وبالتالى فإن وجود قناة تصل البحر الأحمر بالبحر الميت ما هى إلا المرحلة الأولى لتنفيذ المشروع، وأن التسلسل التاريخى الذى مرت به فكرة هذه القناة يدعم هذه الفرضية.

وحذر العديد من الخبراء من هذا المشروع لأنه يقتضى إنشاء خط سكة حديد لنقل البضائع الواردة من مختلف دول العالم فى شمال البحر المتوسط إلى تلك المنطقة من موانئ إسرائيل على البحر المتوسط إلى العراق ودول الخليج عبر الأردن، وهو ما يوفر حسب دراسات المشروع آلاف الكيلومترات من طريق مرور هذه البضائع عبر قناة السويس والدوران عبر شبه الجزيرة العربية ويكون أقل تكلفة مادية، ولم تأخذ الحكومة المصرية بالنصائح التى قدمها الباحثون من أن دخول مشروع قناة البحرين إلى حيز التنفيذ بعد قبول البنك الدولى بتمويله، يفرض على الجهات المسئولة فى مصر أن تكون فى منتهى اليقظة للآثار السلبية الأمنية والاقتصادية لهذا المشروع على مصر وأمنها القومى بأبعاده الشاملة، خصوصا فى المدى البعيد، ويجب ألا تتوقف عند المقولة السائدة حاليا بين الجهات المعنية فى مصر بأن هذا المشروع لا يشكل تهديدا حاليا لقناة السويس.

القصور المصرى فى التصدى لمشروع قناة البحرين، حينما لا يرى البعض فى المشروع تهديدا يقلل من قيمة قناة السويس بوصفها شريانا عالميا للملاحة البحرية متجاهلا أن تنفيذ المشروع يحيى مطامع إسرائيل فى شق مجرى ملاحى منافس لقناة السويس وكذلك تأثير المشروع الذى لا يقتصر على قناة السويس فقط بل يمتد بالسلب على مجمل عناصر القوة الشاملة لمصر. ما بال صوت حكومة الانقلاب يتوارى حينما يتعلق الأمر بقضايا حقيقية تتعلق بالأمن القومى المصرى؟!

هذه المشاهد كلها توضح لنا مكامن الاستهتار فى صناعة الموقف والقرار بحيث لا يرد الكلام فى مثل هذه الموضوعات الاستراتيجية التى تمس الأمن القومى المصرى عفو الخاطر وبدون رؤية كلية استراتيجية أو صمت فى حال يجب تحديد المواقف وبيان الرؤية ولا يصلح فيها التجاهل أو الاستخفاف أو الاستهانة.