استراتيجية السؤال من أهم الاستراتيجيات المنهجية التي أكّد عليها أستاذنا حامد ربيع، وقد أشار إلى أن أسئلتها لا يجب أن تكون من نمط تلك الأسئلة المباشرة أو الاعتيادية، ولكنها غالبا ما يمكن إدراجها في صنف الأسئلة ذات الطابع الاستراتيجي والكلي والإشكالي، كل سؤال يمثل إشكالية بحثية وقضية جوهرية تتطلّب رؤية وإجابة استراتيجية، مشيرا إلى أن الإجابة عن مثل هذه الأسئلة الإشكالية تستدعي ثلاثة صنوف من الإجابة: الإرشاد إلى الإجابة في حكم إرشاد الدلالة، وتوليد الأسئلة بما يحيل إلى طريقة الاقتراب من موضوع الدراسة، والثالث الاقتصار على السؤال المفتوح والإحالة إلى دراسة سابقة أو ضرورة المتابعة أو جدوى المراكمة البحثية بدراسة لاحقة أو بحوثٍ متتابعة. ورغم أن لاستراتيجية الأسئلة مكانتها منهجياً وبحثياً، إلا أن هذه الأهمية تزداد في مثل هذه المشروعات والقضايا الأساسية والمحورية، من مثل قضية النهضة والنهوض، خصوصاً أن مثل هذه القضايا الكلية إنما تمتلك مفاهيم وأطراً وأطروحات ومجالات وعلاقات، وربما أبنية ومؤسّسات، تكون معقدة ومتشابكة إلى الدرجة التي تستدعي طرح أسئلةٍ ذات طبيعة خاصة ومتميّزة في توصيفها ومواصفاتها، تستوعب مثل هذه السياقات، وتلك المقولات، وآلياتها المنهجية وقواعدها التفسيرية.

كان السؤال ولا يزال على هذه الطريقة وبتلك الكيفية محوراً مهمّاً في التفكير في مشروعات النهوض التي ترتبط بالشأن الحضاري للأمة، وتتأتّى أهمية السؤال من أنه مفتتح المنهجية الصحيحة اللازمة لرسم الخرائط الواضحة وتقديم شروط الأسئلة الحقيقية والجوهرية، والقاعدة التي لها طبيعة معينة يمكن أن تنطلق منها للوقوف على جدوى هذه الأسئلة ومكانتها ومقامها؛ أكدنا دائماً وأبداً أن السؤال الصحيح نصف الإجابة، بل ربما يكون شرطاً للإجابات السليمة؛ ذلك أننا لو بدأنا بالسؤال الخطأ سيؤدّي بنا حتما إلى الإجابات الخطأ، لأن السؤال بداية للتفكير والتدبير والتغيير. ومن ثم علينا تجنّب كل مواطن الزلل في السؤال وتبصر مكامن الاختلاط في السؤال؛ الأسئلة الزائفة، والأسئلة التابعة، والأسئلة المخذولة، والأسئلة المنتقمة، والأسئلة الميتة، والأسئلة المحنطة، والأسئلة المفخّخة، وأسئلة خارج التصوّر العقلي، وأسئلة خارج الزمن، والأسئلة القاتلة، وأسئلة الالتفاف بما لها من تكرار وتردّد يساهمان في تركة الاختلاف المسبق والتهيؤ لاستقطابات أيديولوجية وممارسات تتعلق بالحروب الشعوبية والحروب الأهلية الفكرية؛ إن حروبا من ذلك النوع تضرّ بالأمة ضرراً أكيدا يستنزف الطاقات الذهنية والفكرية، وتؤدّي إلى المراوحة في المكان، بل والتأخّر إلى الخلف، وتجعل المنوطين بتقديم الحلول في حالةٍ من التشتت الفكري والحضاري غير مأمونة العواقب، وتورثنا، في النهاية، ذهولاً وانفعالاً عن مقاصد الأمة من تلك الأسئلة النافعة والحقيقية، ذلك أن الوقوف على مثل النوع الأول من الأسئلة يقدّم تصوّراً كاملاً لما يجب الانتباه منه والعمل على تجنّبه وتلافيه، وخصوصاً أن عدم تحقيق نتائج إيجابية على مدى العقود الماضية في هذا الملف يجعلنا نعيد التفكير في طبيعة تلك الأسئلة وأهميتها، وربما تلفتنا لماذا لم نحقّق النهضة المنشودة والنهوض المأمول، أيكون ذلك راجعاً إلى طبيعة الأسئلة المطروحة، والتي تتجنّب الأسئلة النافعة والحقيقية والتركيز على تلك الأسئلة القاتلة أو الميتة أو المفخّخة أو التابعة أو الزائفة … إلخ.

الفعالية والصلاحية هما اللتان تنقلان المشاريع من مجرّد الفكر والخيال إلى الواقع والعمل

ومن هنا يكون للسؤال مقام وسياق لا يمكن إنكاره أو التغافل عنه، وهو ما يعني ضرورات التوسّع والإحاطة الواجبة في الإلمام بتلك المسائل ومدى جوهريتها (الأولويات) المطلوبة ابتداء للوقوف على سيرتها ومسيرتها وسيرورتها، ونستكمل ذلك بالفطنة الواجبة والتبصر العميق اللازم لخطورة الاستدعاء المسيّس والأيديولوجي لها، وضبطها منهجياً في إطار الوقوف على متطلباتها التحليلية والتفسيرية لإنتاج مناهج النظر والتناول والتعامل وبنائها، لمراعاة مسائل الواقع، ومراعاة التعقد والتجدد فيها، ومدّ النظر إلى المستقبل، بما يمنع تحوّلها إلى أزمات بنيانية وهيكلية تعوق مسيرة بناء مشروع نهضوي حضاري للأمة، ذلك كله لا يمكن أن نصل إليه من دون الاعتماد على استراتيجية السؤال التي تعدّ من أهم آليات تحليل مشاريع النهوض الحضارية، لقدرتها على سبر أغوار مثل هذه المشاريع من زواياها المختلفة، سواء على درجاتها الزمنية، الماضي والحاضر والمستقبل، أو من زاوية الرؤية والأطر الكلية والتحليلية والمفاهيمية والتفسيرية والإشكالات الأجدر بالتناول، أو الوقوف على الأطراف والفواعل، والمجالات، والقضايا، والعلاقات، ذلك كله يمكن الوقوف عليه من السؤال، ولكن كما سبقت الإشارة السؤال النافع والحقيقي.

جوهر الأمر وغايته هو الوقوع على السؤال الصحيح الذي يمكن أن نسأله، وطرح هذا النوع من الأسئلة هو الذي يوقف عجلة الدائرية والتكرار التي يعيش فيها الفكر السياسي العربي والإسلامي منذ قرنين (قرن لقيط وقرن أبتر كما أطلق طارق البشري بوصفه القرن التاسع عشر والقرن العشرين)، ويقدّم إجاباتٍ صحيحة، أو على أقل تقدير مشروع إجابات لها مستوى من المقبولية في عالم الصلاحية، وليس فقط المعقولية بمسألة الصحّة بما يؤكده المفكر القدير مالك بن نبي، فالفعالية والصلاحية هما اللتان تنقلان مثل هذه المشاريع من مجرّد الفكر والخيال إلى الواقع والعمل ويؤسّس للانتقال الحضاري لأمتنا العربية والإسلامية على أسسٍ متينةٍ وقويةٍ تساهم في الإقلاع الحضاري والخروج من المراحل الانتقالية بأقلّ الخسائر الممكنة. وبناء على ذلك، فإن أسئلة مثل سؤال النهضة، وسؤال الإصلاح، وسؤال التجديد، وسؤال الهوية، وسؤال التنمية، وسؤال السياسي، وسؤال العلاقات الدولية، وسؤال الخطاب وصياغته، وسؤال المؤسّسية، وسؤال المرجعية، وسؤال الملاءمة واللياقة، وسؤال رؤية العالم، وسؤال القيم، وسؤال التراث، وسؤال التعامل مع الواقع؛ ما العمل؟ وسؤال التاريخ، وسؤال المستقبل، وسؤال الأزمة، وسؤال الفاعلية، لكل تلك الأسئلة وغيرها راهنيتها وسياقاتها وأصولها العلمية والمنهجية التي من خلالها تمكّن من بداية موفقة وآمنة؛ للإقلاع الحضاري الواجب لأمتنا.

على أمتنا أن تنهض وتُستَنفَر لبناء استراتيجية أسئلتها الصحيحة حتى تكسر تلك الدائرية والتكرارية وعدم الحسم التي عاشتها في القرنين الماضيين

قد يعتقد بعضهم أننا نبالغ في تقدير قيمة السؤال وقدره ومكانته في الحالة النهضوية، رغم أن الأمر قد لا يستأهل هذا كله، ويسعفنا في التصدّي لذلك التحفظ؛ أننا نشير إلى مسألة أساسية وتأسيسية تؤكّد على ما ذهبنا إليه في تقديرنا السؤال وأهميته، أول جوانبها أن السؤال يحدّد لنا النموذج أو النماذج الجديرة بالنظر في تصوّر مسألة النهضة والنهوض، بما فيه من عناصر وأسس وأصول منهجية محدّدة. ثانيها أن السؤال هو ما يجعلنا نقف على المشاريع المختلفة من مسافة واحدة تتيح لنا تقييمها والتعرّف إليها وسبر أغوارها ومعرفة جوانبها المختلفة، فمن دون السؤال، تظلّ هذه المشاريع مغلقة علينا، لا نستطيع الاقتراب منها بصورة واعية وفاعلة، ثالثها أن السؤال هو المنوط به الوقوف على الآلة المنهجية المناسبة لكل مشروع من المشاريع في عملية التحليل والفهم والتفسير، ورابعها أن السؤال يسهّل عملية المقارنة بين المشاريع المختلفة والوقوف على مساهماتها وتأثيراتها العلمية والعملية، وخامسها أن السؤال هو الذي يستطيع أن يقيّم هذه المشاريع ويقف على مزاياها وعيوبها، بل ويستطيع أن يقدّم أطروحات ورؤى تقويمية تعيد تصحيح مسار هذه المشاريع ويعظّم من الاستفادة منها ويجنّبنا مثالبها في استدراكاتٍ مهمّة لإعادة طرح السؤال من خلال رؤية جديدة ومستأنفة في آن واحد.

ما نريد أن نؤكّد عليه أن أمّتنا منذ العقد الأخير تعيش حالة من استشراف التغيير الحضاري الاستراتيجي القادم، وأن عليها أن تنهض وتُستَنفَر لبناء استراتيجيّة أسئلتها الصحيحة حتى تكسر تلك الدائرية والتكرارية وعدم الحسم التي عاشتها في القرنين الماضيين، وتجيبنا عن سؤال مشروع: لماذا نجترّ الأسئلة ونكرّرها، خلال تلك الفترة الماضية، وفي الوقت نفسه، لم نتمكّن من الإجابة عن سؤال واحد من أسئلة النهوض: لماذا لم تع لحظتها الراهنة وما تتطلبه من أسئلة ومقولات وآليات وسياقات قادرة على أن تشكّل استعدادها البصير وتحفز قواها الفاعلة وتنمّي مواردها اللازمة للإقلاع الحضاري الذي تستحقه وتستأهله في مواجهة المشاريع الزاحفة عليها. هذا غيضٌ من فيضٍ يؤسّس لحجيّة تناول خريطة الأسئلة في مشاريع التغيير والإصلاح والنهوض.