ليس من هدف هذا المقال أن يبحث في سؤال النهضة، ولكن المهم أولاً الحديث عن هذا السؤال وليس فيه، وعمّا يعنيه القيام بالالتزامات الأساسية في “فحص السؤال” وهو ما استرشدنا فيه وقدمنا بمقالين يتطرّقان إلى الأصول المنهجية للطرح العام في خريطة الأسئلة، وليس المقصود بحال أن نقدّم إجابات عن هذه الأسئلة، ومنها سؤال النهضة والنهوض، فلذلك مستوى آخر يمكن أن نتطرّق إليه لاحقا عند صياغة مؤشّرات أولية لمشروع النهوض الحضاري، والتي ستكون موضعا لاهتمام لاحق؛ إذا كان هذا ما لا نريده، فماذا عما نريده؟
سؤال أساسي يفرض علينا التزاما منهجيا؛ بشأن عملية الفحص للسؤال، وهو ما يعني الوقوف على صياغة السؤال أولاً والمقتضيات المنهجية النافية للتحيزات والأحكام المسبقة أو الجاهزة، وهو ما يجعل السؤال موجّها وربما يعطي إجابات خطيرة، إن عنوانا قاطعا للسؤال الموجّه للإجابة والاستجابة أن تسأل شخصاً (امرأً) حول استجلاب رأيه بهذه الصيغة والصياغة: ما رأيك في سياسة الحكومة الحكيمة؟ أو أفدنا برأيك في هذا الخطاب التاريخي المهم للرئيس؟ وما قدّمه في خطابه للخروج من الأزمات، وما تضمنه من إرشادات وتوجيهات؟ هذه ليست أسئلة منهجية، بل غالبا ما تكون صادرة عن أجهزة إعلامية قد يُملى عليها من جهات ومؤسسات استبدادية، وتحاول تناول الموضوع من زاوية استجلاب كل ما يتعلق بالنفاق والمداهنة.
ومن هنا، الوقوف عند هذه الأسئلة وتحريرها حالة لا يمكن وصفها إلا بالأسئلة الموجّهة، أو الأسئلة المستبدّة التابعة من وسط وسياق استبدادي لا يحرّك السؤال إلى وجهة السؤال الصحيح، بل يتعمّد أن يسأل الأسئلة الخطأ في سياق التغطية على السؤال الصحيح وإجهاض جوهره، ليس ذلك هو السبب الوحيد في صياغة الأسئلة الموجّهة الجالبة للتحيز والأحكام المسبقة. ومن ثم تكون أهمية “فحص السؤال” وصياغته والبحث في مكنوناته وسياقاته، والتنبه إلى مواطن الخطر والخطأ فيه، والقيام بصياغة السؤال الصحيح.
صياغة السؤال والقضية التي يتعلق بها لا بد أن تستدعي وتباشر استعراض السؤال: فهما وتعريفا ومفهوما
صياغة السؤال والقضية التي يتعلق بها لا بد أن تستدعي وتباشر استعراض السؤال: فهما وتعريفا ومفهوما؛ إن البدء بعملية التعريف هو نقطة البدء الصواب، وبدون تعريفات ستصادف تلك المشكلة الرئيسية التي ترتبط باللغات والفجوات بينها في تبنّي تعبيراتٍ بعينها مسكونة بالتحيز الكامن، وتحيز الرؤية الحضارية من البداية، ولعل التعريفات المحدّدة للخروج من فوضى التعريفات المتعدّدة، بفعل ممارسات الانحراف الدلالي وفوضى التعامل مع عالم المفاهيم، خصوصاً أن غالب تلك المفاهيم ينتمي للعلوم الإنسانية والاجتماعية وهي مسكونة منذ البداية بتحيّزات أيديولوجية أو فلسفية أو غير ذلك من أسباب موضوعية، كامنة كانت أم ظاهرة؛ مستخفية كانت أو بارزة، مخادعة أو مراوغة.
المفهوم ضمن عائلة، عملية معرفية ومنهجية، فالمفاهيم وفق التصور المهم الذي طرقناه تؤكّد ما يمكن تصوّره من منظومية السؤال ومتعلقاته؟ إن معالجة عاملي السؤال والمفهوم والاتزان والتكامل في ما بينهما إنما تشكل ضرورة معرفية في البصر بالسؤال والمفهوم على حد سواء ضمن عائلته وسياقاته، وضمن “أسرة كلمات”. وبذلك فقط يمكن أن تتّضح لنا الصورة المتبادلة عن وصول المفهوم من جهة، والسؤال المتعلق بقضية بعينها. الصورة الكاملة التي تدرك عالم المفاهيم ضمن عملية تنسيب المفهوم، ومن ثم السؤال، عمليات بعضها من بعض آن لها أن يرد الاعتبار ضمن تصوّرات ما يسمّى “جينالوجيا المعرفة”، ولا نخطئ كثيرا إذا تحدّثنا عن “جينالوجيا السؤال” وطبقاته المعرفية، وشروطه المنهجية، مسائل بعضها من بعض، ولكنها تشكّل أصول منهج نظر إلى السؤال يؤثر بالضرورة على مناهج التناول، وكذا مناهج التعامل، وغالباً ما يشكّل هذا المنهج ضمانة معرفية أخرى، مضافة إلى رؤية السؤال ضمن أنساقه من ناحية وسياقاته من ناحية أخرى.
لا نخطئ كثيراً إذا تحدّثنا عن “جينالوجيا السؤال” وطبقاته المعرفية، وشروطه المنهجية، مسائل بعضها من بعض
وربما هذا يحيلنا إلى علوم مهمّة لإدراك حقيقة مفهوم السؤال وصحته: من مثل علم تاريخ المعرفة، لأن السؤال يتعلق بالذاكرة الحضارية، وعلم سيرة الأفكار وتتبع تطوّرها، والسؤال وإعادة طرحه أو تجديد طرحه، وعلم اجتماع المعرفة، وهو أمر من الضروري تدبّره. وإذا أردنا أن نوظّف تلك العلوم جميعا ضمن أطروحة سؤال يرتبط بعالم الأفكار وفي قلبه عالم المفاهيم، علم تاريخ السؤال وذاكرته الحضارية؛ علم تتبع سيرة الأسئلة وسيرورتها وتحوّلاتها التي قد تطرأ عليها. ذلك أن الأسئلة تطرأ عليها أحوال ومن ثم هي سيرة ومسيرة وسيرورة يتأكّد مع البصر بها جميعا وتوظيفها واستثمارها في رؤية أوضح لعالم الأسئلة، ورؤية أكثر تكاملا، ورؤية كلية تتجنّب كل عوامل الاختزال، أو الإغفال، أو الافتعال في طرح السؤال.
ويتوّج ذلك ما يمكن تسميته “علم اجتماع السؤال” المتعلق ببيئته وتحيينه وتسييقه فيشكّل السؤال بعدا غاية في الأهمية، وهو ما أشار إليه مالك بن نبي من معادلتي الصحة والصلاحية لضمان الحالة الإدراكية السوية والصحية والإيجابية والبنائية التي تترتب على طرح السؤال، خصوصاً إذا ما رأينا تلك الحالة الإدراكية ضمن المنظومة السداسية لأستاذنا حامد ربيع رحمه الله. الإدراك في تتابعه وتوابعه يشكل الرأي، والرأي قد يتحوّل إلى توجّه واتجاه بل ومن أصول انتشاره قد يتحول إلى تيار، والاتجاه يتحول إلى موقف راشد مفعم بالوعي والبصر والبصيرة، هنا فقط يمكن أن يتحوّل الموقف إلى حكم يستند إلى منظومة معايير كلية وهو حكم في تلك المنظومة يشير إلى معنى الحكمة التي توجه إلى اقتران بين العلم والعمل، والفكر والحركة، وفي النهاية يكون كذلك مادة السلوك الفاعل والنزوع للحركة العادلة والفاعلة، متوالية بعضها من بعض، تشكل حلقات تترابط في الفهم والتدبر والعمل وعلى ما يقول الشاطبي في موافقاته “كل مسألةٍ لا ينبني عليها عمل فلا طائل من ورائها”. فلو تصورنا أن السؤال يشكل مقدمة، إن صحّت صياغته وإدراكه، كيف يمكن أن يؤثر في تلك المتوالية المهمة التي غالبا ما تكون قرينة الفعل والتفعيل والفاعلية على حد سواء. وتترافق مع هذا الفهم المنظومي في السياق والسباق واللحاق عملية متّصلة؛ لا يفقد بحالة تواصله، ولا يفقد أن يكون حالة شبكية في إدراك السؤال والمفهوم الذي يرتبط به، شبكة السؤال جزء من متابعة حال السؤال، وينشأ عن هذا الفهم أمران أساسيان من ناحية منهج النظر إلى السؤال خروجا عن حد الاختزال وما يصاحبه. ومن ناحية أخرى، يُنتج سؤالا مريضا وربما خبيثا قد طاولته أمراض مزمنة أو حالة “سرطنة” السؤال، فينفث بعضا من سمومه في منظومة الأسئلة.
ترتيب الأسئلة بين التصاعد والنزول عملية مهمة في إدراك الأسئلة ومنظومتها
تسميم السؤال يبغي نقض المنظومة تمهيدا لنقضها. وعلى أحسن الفروض، قد يعطي إجابات واستجابات قاصرة مبتورة، أو خاذلة مخذولة، إنها أمراض تطاول السؤال، من الواجب أن نفطن إلى طرائق تشغيل الأجهزة المناعية لمواجهة هذا النوع من الأسئلة، الذي يؤثر تأثيرا خطيرا على مجمل الكيان وحالة الحوار حول السؤال، وعلى أحسن الفروض قد ينتج عنه تحيز الأسئلة من دون استجابات واعية فاعلة، وتراوح في المكان وتبدّد الطاقة المعرفية والذهنية والفكرية. وعموما تبدّد الطاقة الحضارية وإهدار الإمكانية في عالم النهوض الحضاري. وأخيرا، من المهم حقيقة أن نشير إلى أن السؤال يجب أن يكون محايدا ملتزما، إنه السؤال المسؤول، وليس السؤال المخذول، السؤال ساري الفاعلية والمفعول، وليس السؤال منقضي الصلاحية والمفعول.
السؤال الذي يكون مسكونا بهاجس “الغرب” كحضارة وثقافة وتقدّم، ويطرح أسئلة الغرب نفسها عنا وفينا إنما يحرّك كل تقاليد العقل الساكن، والعقل التابع لا العقل المجدّد والباني، والذي يحرّك عناصر “النابعية” أي أن يكون نابعا منا ومن حاجتنا وضروراتنا الأساسية ضمن نموذج حضاري يعرف بداياته ومسيرته ونهايته، ولا يحرّك، في المقابل، عناصر التقليد والتابعية والتبعية الآسرة والسكون ضمن حضارةٍ غالبة قاهرة، إن هذا الخضوع لهذا الأسر لا يمكن أن ينتج إلا نموذجاً حضارياً مصاباً بالتقهقر والتدهور؛ بين السؤال النابع في مواجهة السؤال التابع ستكون مسيرة السؤال الصحيح الذي يتمتع بالصحة، كما يلازم شروط الصلاحية والدافعية والرافعية والفاعلية.
ترتيب الأسئلة بين التصاعد والنزول عملية مهمّة في إدراك الأسئلة ومنظومتها، وتكامل الأسئلة شبكيا، واستصحاب الأسئلة الواجبة مع السؤال المقصود، هو الذي يحدّد غالبا الوجهة والبوصلة في بلوغ المنشود وتحقيق الغاية والمقصود. إن استصحاب الأسئلة الواجبة يزيح الغمة والتغييم، ويرفع الالتباس والحيرة، ويواجه الغشّ في السؤال والتدليس. إنها بركات السؤال الصحيح تتنزّل على الإنسان والكيان والأوطان قاصدة للعمران؛ إنها عمارة الأسئلة وهندستها كمنطلق تأسيسي لبناء نهضة وصناعة نهوض.