التصهين هنا، كما عرفه البعض؛ “هو أن يرى المتصهين حقا المعتدي المحتل الغاصب في أرض فلسطين وتبرير عدوانه على الشعب الفلسطيني، وينادي بالسلام معه وموادعته، في ذات الوقت يقذف الضحية، أي الشعب الفلسطيني بأقذع الافتراءات والأكاذيب لا سيما تلك الفرية الممجوجة بأن الفلسطيني قد باع أرضه وتنازل عن حقه تارة، وتارة أخرى بالهجوم على حركة حماس وشتمها بدعوى أنها فرع من الإخوان المسلمين، أو بذريعة أنها على علاقة مع إيران”، وقد وصل الحال بأن يحتفي الناطق باسم جيش الاحتلال الصهيوني “أفيخاي أدرعي” بتبني وصف الحركة من بعض العرب بـ(الإرهابية) وهو ذات الوصف المستخدم من أدرعي ودولته، مع كيل المدح الاستفزازي لتطبيع العلاقات مع الصهاينة بحجج تلبس ثوبا دينيا أو سياسيا أو غيرهما. ولا يقتصر هذا المدح للصهاينة الذي وصل حدّ الدعاء والتمني بانتصارهم على شخصيات معروفة إعلاميا، بل ثمة حالة مقززة لمواطنين عاديين من غير قُطر عربي يسيرون في هذا الاتجاه بتغريدات أو فيديوهات، ويكيلون السباب المقذع للشعب الفلسطيني، ويتغزّلون بالمحتل الإسرائيلي.
الذاكرة الحضارية والتاريخية للصهينة والتصهين التي ترتبط بمسيرة هذا الصراع الصهيوني ـ الغربي مع الأمة وحتى العدوان الصهيوني على غزة بعد طوفان الأقصى، يبدو أن الأنظمة العربية قفزت من مسألة التطبيع مع العدو الصهيوني، لتدخل في مرحلة ما بعده، وهي مرحلة التصهين، التي بدت معالمها، صراحة، في ظل هذا العدوان الكاشف الفاضح للشرخ العميق جداً في الهوية التي تتعلق بالأمة؛ وفجوات المرجعية والهوية والشرعية؛ وبات واضحاً أن مصطلح التصهين سيستقر في الأدبيات القادمة، بعد هذا العدوان، ليحل محل التطبيع، الذي سيظل أحد أدواته ورأس الحربة الموجهة لكيان الأمة الاجتماعي الحضاري، ولكن هذا التصهين لم ينشئه العدوان، بل كاشفا عنه فحسب، يعبر عن أحوال قديمة ومواقف كانت دفينة؛ وبتأمل مسارات هذا الصراع، الذي انتقل من حلقة إلى أخرى، ليستقر على ما هو عليه.
التصهين العربي الذي تصاعد، لا يعني سوى المشاركة صراحة، في تمكين المشروع الصهيوني من البقاء، ومنح دولته شرعية الوجود على الأرض العربية المحتلة، بالسلام المزعوم أو حتى بالحرب
نعم يمكن القول مع من يؤكد “إن التصهين العربي كان دفيناً مع مدعي القوامة على إدارة الصراع العربي الصهيوني، منذ بدايته، وليس الآن كما يعتقد بعضهم، فالتصهين العربي الذي تصاعد، لا يعني سوى المشاركة صراحة، في تمكين المشروع الصهيوني من البقاء، ومنح دولته شرعية الوجود على الأرض العربية المحتلة، بالسلام المزعوم أو حتى بالحرب!؛ إدارة الصراع العربي الصهيوني، منذ قيامه، تدل على وجود خميرة هذا التصهين، وإن كانت في طور التكوين، ولم تتضح معالمها بعد، فبعد تجاوز الصراع الوجودي المرتبط بالهوية العربية والإسلامية، التي غُبِنَت بإنهاء وجود فرق المتطوعين للدفاع عن فلسطين، والاكتفاء بالاعتماد على الجيوش النظامية فقط، فدخلت، أو أدخلت في حلقة الصراع السياسي الجغرافي بين أنظمة الدول العربية المتفرقة”.
ظاهرة التصهين المتصاعدة هي أحد عناوين أزمة الدولة القومية في العالم العربي التي نشأت مشوهة ومشوشة؛ مشوشة في أهدافها؛ مشوهة في سياساتها ومواقفها؛ بدت هذه الدولة التي نشأت من رحم التجزئة والقابلية لها؛ وحالة التبعية للدول الكولونيالية الغربية؛ نشأت هذه الدول مستقلة اسما ومظهرا؛ ولم تكن كذلك جوهرا وحقيقة؛ وتقبلت على نحو أو آخر أن تنشئ جامعة عربية مهترئة؛ لا هي جامعة في أهدافها ومقاصدها ولا عربية في الهم والدور والمكانة؛ وارتضت هذه الدول أن تكون ضمن تعبير مصطنع وموهم ألا وهو “الشرق الأوسط”؛ والذي كان مسكونا بالتصهين مفيرسا بالتطبيع مع الكيان الصهيوني بعمليات من كل لون التي نشهدها اليوم في هرولة ممجوجة من أنظمة رسمية عربية تسمت بالدول القومية؛ إن إحلال هذا المفهوم الجغرافي محل المفهوم العروبي والإسلامي لم يكن إلا استبدالا؛ يسمح بالقبول بالكيان الصهيوني وزرعه الاستيطاني والسرطاني في الكيان العربي والإسلامي؛ من بني جلدتنا يتبنون خطابا صهيونيا؛ يتحدثون بمفرداته ومرجعيته؛ ويغفلون مرجعيتنا ومفرداتها؛ ويتخذون من المواقف الخربة والمهترئة؛ بالدخول في بيت الطاعة الصهيوني الأمريكي.
وحينما نؤكد أن التصهين صار بوادر ظاهرة في الأمة وليس مجرد عملا فرديا؛ يصدر من أهل الشهرة من صحافيين وإعلاميين وأكاديميين أو مشايخ، أو أي مواطن عادي يمكن أن ينشر تغريدات متصهينة؛ هؤلاء جميعا إذ يصدّرون هذا الخطاب إلا لمعرفة ـ على أقل تقدير ـ وثقة وقناعة أنه بهذا لن يغضب أجهزة دولته ولن تلومه ولو بشطر كلمة، بعكس اتخاذه مواقف سياسية أخرى، يكفي التلميح لها بزجّه في السجن، وبهذا تنتفي حجة تفسير السلوك المتصهين بالعمل الفردي!
ورغم أن تلك الظاهرة تملك الصوت العالي ضمن حركة ممنهجة وخطابا فاضحا زاعقا يبدو مع تصنيعه من أجهزة متعددة على الأقل إرهاصا لتكون ظاهرة مع توافر فرص التصاعد والتراكم؛ لم تصل حالة التصهين العربي الراهن بعد إلى أن تكون ظاهرة مُشاهدَة وطبيعية خاصة مع الرفض الشعبي الواسع حتى مع الدعم الخفي من نظم رسمية وأجهزة مخابراتية، وإنما هي حالة معزولة وصغيرة، رغم أنها مدفوعة الأجر، وأن وراءها ميزانيات كبيرة لأجهزة مخابرات وتشجيعا رسميا واضحا.
ولكن ما يُبقى هذه الحالة محاصرة في حدودها الدنيا هذا الوعي الشعبي الكبير، وهذه السردية التي لا يمكن اختراقها منذ 75 عاماً أن فلسطين أرض عربية محتلة، وتحريرها واجب كل عربي مسلم، بل وواجب كل أحرار العالم. هذه السردية العصية على التشويه والتجريف والتحريف هي التي كشفت كل هذا الزيف والبهتان، وحمت حالة الوعي العربي الشعبي بواجب المقاومة وضرورتها وأدوارها في مسيرة التحرير حتى النصر.
ظاهرة التصهين المتصاعدة هي أحد عناوين أزمة الدولة القومية في العالم العربي التي نشأت مشوهة ومشوشة؛ مشوشة في أهدافها؛ مشوهة في سياساتها ومواقفها
يدرك المتهمون بـ “الصهينة” ما يعنيه “التصهين” من اتهام يتسم بالبشاعة، ليس في الثقافة العامة أو العربية أو الإقليمية فقط، بل وفي القاموس الاجتماعي الدولي، إذ ظلت الصهيونية دوماً رمزاً للعنصرية والانتهازية والوحشية والعدوان؛ للدمار وتخريب العمران؛ للاحتلال والغصب والاستيطان؛ من بعض أبناء هذه الأمة التي خانوها؛ يبررون العدوان الإسرائيلي الهمجي على أهل غزة ومستضعفيها بمبررات عقيمة، لكن بلبوس الغيرة على الدم المهدر في معركة حمقاء غير متكافئة؛ لم تراع موازين القوى؛ وأن ما كان أقرب الى التهور والمغامرة؛ لم ير هؤلاء أبدا أولئك الذين يحاربون الكيان الصهيوني إلا مجموعة من المغامرين لا المقاومين؛ وطفقوا يتهمون المقاومة بكل نقيصة؛ وأطلق هؤلاء سواء من أفعال مساندة لأنظمة رسمية لم تعد تعر اهتماما بالقضية الفلسطينية؛ بل هم أقرب الى من يعملون على تصفيتها يتخففون منها؛ أطلقوا حملات ممنهجة من مجموعات ذبابهم الالكتروني في موجات متتابعة؛ يرددون خطابا صهيونيا متصهينا يصب في مصلحة الكيان الذي ما فتئ يستغل كل ذلك في التويج لكل ذلك ضمن حملاته الإعلامية وحربه النفسية.
في الشارع الفلسطيني المنتفض والمقاوم؛ ومنذ معركة سيف القدس التي أعلنت عن وحدة الساحات في غزة والضفة في القدس والأقصى وعرب 48 على الأرض وفي كامل أراضي فلسطين من البحر الى النهر وجسدت ذلك في الميدان لتتوج انتفاضات سبقت تنوعت في أشكالها وأدواتها وحركتها؛ أدت لقلب المعادلة رأسا على عقب التي أعقبت حملة صهيونية وعربية متصهينة لشيطنة الفلسطيني وإدانته؛ ما حدث فاجأ الكيان الصهيوني الذي راهن على محاولات الأسرلة والتزييف، فأصبح أمام جيل متمسك بهويته وأرضه وقضيته، إن جوهر القضية الحقيقية تكمن في مصيرية هذا الصراع ومجابهة المشروع الاستيطاني الذي يستهدف أساسا وجودهم فوق الأرض بعد سلبهم تاريخهم وتراثهم ومحاولات طمس ذاكرتهم؛ قد لا تملك المقاومة الفلسطينية للعدوان الصهيوني على غزة القدرة على إلحاق هزيمة عسكرية كاملة بجيش الاحتلال، ولكنها أشرت على إمكان ذلك في معركة تحرير كبرى والنيل من جيش العدو الذي لا يقهر؛ قد يقول منتقدو المقاومة إن كلفتها عالية والتضحيات كبيرة، ولكن متى لم تكن الكلفة باهظة، سواءً في حالة التهدئة المزعومة أو مفاوضات سلام ملغومة أم في حالة “التصعيد”؛ ومن عجب أن يصف هؤلاء من المتصهينين العرب بالاستفزاز، في إشارة لمسؤولية ضحايا المشروع الاستيطاني على استفزاز محتليهم ومغتصب أراضيهم؛ وكذا الخلط المريب لتوظيف السردية الصهيونية وتبنيها وطمس السردية الفلسطينية وإدانتها؛ وما أرادوا من ذلك إلا تسويغا لهشاشة المواقف الرسمية العربية بأغطية واهنة وأقنعة زائفة.
يقول أحدهم صدقا وعدلا في تمام كلمة الحق والتمسك بها؛ “إن القدرات التي يتسلح بها أصحاب الأرض، من العزيمة العالية والثبات والإيمان بالحق، إلى القدرات المتواضعة عسكريا والتي تفتح مجددا باب التعري العربي والعجز المفضوح من التخاذل إلى التآمر، تقود لسؤال مفتوح عن قدرة المحتل ومشروعه الكولونيالي الاستيطاني بإلحاق هزيمة واقعية بالمنكوبين فوق أرضهم، والجواب المشع في سماء غزة وأزقة وشوارع مدن فلسطين يقول إن هشاشة القبة الحديدية لا يمكنها تأمين الغطرسة الصهيونية، وقبة التصهين التي حاول الصهاينة ارتداءها في عواصم عربية، سقطت في الشارع العربي مع ذرائع التطبيع والاستبداد، اللذين يريان في صورة الفلسطيني المقاوم نقيضا يكشف عن مخازٍ عربية في وجه الطاغية العربي المحمي بقبة إسرائيل الحديدية والمحمية بقبته المتصهينة التطبيعية”؛ والحديث موصول بحول الله وقوته.