نشر المقال في جريدة الشروق المصرية بتاريخ: 31 أغسطس 2013
بعض أساتذة وزملاء فى حقل العلوم السياسية من تخصصات مختلفة اتفقوا جميعا على مقولة واحدة «نحن نريد أن ننقذ الدولة وهيبتها»، وللأسف الشديد فإنهم وبكامل اختيارهم يدلفون من باب الدولة وحماية هيبتها إلى تأييد الانقلاب العسكرى وكل توابعه التى تعلقت بأمر واقع يريد أن يفرضه، ويزيد أسفى حينما يتحدثون عن الدولة وحماية مؤسساتها فيبررون قيامها بكل عمل ينتهك حقوق الإنسان والحرمات الأساسية المتعلقة بحياته وكيانه وذلك بدعوى وظيفة الأمن، وبعضهم يعود إلى نظرية العقد الاجتماعى خاصة لدى هوبز الذى يتحدث عن «الدولة التنين» ويعتبرون ذلك من مبررات العقد الاجتماعى لنشأة الدولة وسلطانها، ويتخيرون كل ما يتعلق بآلات وآليات البطش فيبررون استخدامها من أجل الأمن ويرهبوننا بنظرية هوبز عن «حرب الكل ضد الكل» التى تسوغ أمورا خطيرة لا يمكن تحمل مآلاتها.
بدا هؤلاء كمن وجد الفرج يلتحفون بهذه النظريات والمقولات ويتناسون الأصول والقواعد والمبادئ لجوهر الدولة ووظائفها، وهم فى هذا المقام يتناسون مفاهيم أساسية تتعلق بالمشروعية والشرعية تحت دعوى أن الواقع الآن يستدعى مفاهيم بعينها ويئد أخرى، وهو ما يدفعنا لتبنى مصطلح الأستاذ الدكتور عبدالسلام نوير «العلوم السيسية» وذلك عوضا عن العلوم السياسية التى درسناها كمنظومة مفاهيم لا تتجزأ ولا ينتقى منها، لأن انتقاء هؤلاء فى هذا الظرف التاريخى يعفيهم من اتخاذ المواقف بدخولهم دائرة التبرير والتمرير، يدخلون فى دائرة «دكاترة سلطان العسكر» يبررون لهم فعلهم ضمن معادلة «حق القوة لا قوة الحق»، ويتناسون فى سبيل ذلك التفرقة الأساسية بين مفهوم الدولة، والنظام السياسى، والحكومة، والإدارة؛ هذا التمييز الذى يجعل من الدولة حركة دائمة تستند إلى قواعد ثابتة من القيم السياسية وفاعلية الأداء السياسى، وتشكل الدولة استقلالا وحيادا يعبر عن وظيفتها الأساسية فى الأمن والأمان وفى العدل والانصاف وفى الانجاز والفاعلية، ويتنكرون لذلك كله ولا يفرقون بين «الدولة القاتلة» و«الدولة العادلة»، وبين «الدولة الفاشلة» و«الدولة الفاعلة».
كذلك فإن الدولة كجهاز محايد لا يعرف التحيزات العابرة لفريق ضد فريق ولذلك قلنا ومنذ بيان السيسى الأول الذى أعطى مهلة أسبوعا، وما تبعه من بيانات أخرى أن ذلك هو عين التحيز لفئة دون فئة من أبناء الشعب، وحينما يتحيز النظام فاعرف أن الأمر ليس أمر دولة ولكن هو أمر طغمة حاكمة تحاول تجميع مصالحها وتحريك تحالفاتها الاجتماعية فى إطار البحث عن مفاصل الدولة العميقة، فإن كنتم تقصدون بالدولة التى نحميها ونحافظ على هيبتها بأنها الدولة «العميقة» أو «الغويطة»، فإننا نقول ليس هذا هو الأمر لأنه ليس إلا حماية لشبكات الفساد والاستبداد والبطش والقهر والتكميم والتعتيم، فى إطار من تسخير مؤسسات الدولة وأجهزتها فى سياقات تتعلق بتمكين الدولة العميقة المراد مواجهتها بعد ثورة 25 يناير، والتى شكلت فى حقيقة الأمر أدوات الثورة المضادة من إعلام وأجهزة أمنية وبعض القضاء الفاسد ضمن تواطؤ منقطع النظير، ونتساءل هل الدولة المراد حمايتها والحفاظ على هيبتها هى الدولة الفاشية؟؛ فاشية الدولة التى تجعل من الفرد وحدة قائمة حتى يمكن أن تمرر التمكين لعملية استبدادها (الحاكم يظل فردا ما دام الناس أفرادا)، إن توظيف احتشاد الأفراد لخدمة الدولة العميقة التى تقوم على قاعدة فئة دون فئة وتعيد تصنيف المواطنين على قاعدة الهوية والعنصرية (بمفهومها الثقافى الواسع)، إن هذا نموذج للدولة الفاشية بامتياز، بل إن هذه الدولة «الفاشية تمارس أقسى درجات الفاشية الدينية فى إطار من حرب الفتاوى فتستدعى المشايخ لاستغلالهم فى نسج غطاء لها فى ممارسة القتل وإرقة الدماء من كل طريق.
هذه هى دولتكم فماذا عن الدولة التى نريدها؟ نريد لمصرنا أن تكون دولة المسئولية والمساءلة، الدولة التى تعبر عن ثابت تاريخى يتعلق بفاعلية هذه الدولة، ليست هذه الفاعلية فى القتل والخنق والحرق ولكنها دولة المسئولية عن كل فرد وعن كل تكوين اجتماعى ومجتمعى، والمحافظة على كل الفاعليات الاجتماعية فيها لأنها مسئولة مسئولية مباشرة عن شبكة العلاقات الاجتماعية فى الدولة وعن تماسك الجماعة الوطنية وعن السلم الأهلى فيها، أى مقام مسئولية فيما ترونه أنتم فى دولتكم الافتراضية القائمة على «تنين هوبز» الذى إذا لم يستطع أن يسيطر ويتحكم فى المواطنين فإنه مفترسهم وقاتلهم.
لكم ألف خيار تتحدثون عنه فى الدولة ولكنكم اخترتم أضيق طريق وأسوأ سبيل حينما تتحدثون عن «الدولة التنين» وتهملون الدولة العادلة الفاعلة الراشدة التى تقوم بوظائفها الجوهرية وحقائقها الأساسية من الأمن والأمان، العدالة والانصاف، المساواة والمشاركة، دولة القانون، الحقوق الأساسية والتأسيسية للانسان والمواطن، تماسك المجتمع والجماعة الوطنية.
إلى هؤلاء الذين قلبوا ظهر المجن للعلوم السياسية واخترعوا العلوم السيسية أقول: لا ترهبونا بالكلام عن الدولة التى فى أذهانكم وتخدمونها ليل نهار، إذا أردتم بحق أن تلحظوا فلتلحظوا من يهدم الدولة فى الحقيقة؛ أليس الانقلاب الذى عصف بمكتسبات ثورة 25 يناير ومؤسسات الدولة المنتخبة وعطل الدستور؟، أليس اقتحام اعتصامى النهضة ورابعة بهذه الوحشية المفرطة إنما يعد ضمن إرهاب الدولة وهدما لها؟، أليس إهدار أصوات الناخبين وهدرها وإلقائها فى القمامة كما ألقيتم الناس من قبل فيها هدما للدولة؟، أليس تعطيل الدستور والإعلان الدستورى هو الهدم لأساس الدولة الذى قام به أول من قام من عين رئيسا مؤقتا وهو رئيس المحكمة الدستورية المؤتمن على الدستور وأحكامه ونصوصه، فإذا به أول هادميه؟
إن من يمس ثوابت الدولة وأركانها أنتم، ومن يهدمونها أنتم، ومن يهدر وظائفها أنتم، ومن يقوض أسسها أنتم، إن الله يقيم الدولة العادلة ولا يقيم الدولة الظالمة، سنة الله القائمة الماضية، ارحمونا يرحمكم الله.