نشر المقال في جريدة الشروق المصرية بتاريخ: 4 مايو 2013

كلما تحدثت عن المصالحة الكبرى ودعوت إلى التوافق السياسى خرج البعض علينا من الفريقين سلطة ومعارضة لا تكون حالما وربما أشار البعض علىّ ألا أكون واهما، وكأن ما نطالب به ليس من باب الضرورات السياسية التى تتعلق بالوطن والثورة، وأنه الباب الأوسع وربما الأوحد، باب الفرصة التى أراها تلوح فى الأفق، وجب على الجميع سلطة ومعارضة ألا يدعوا هذه الفرصة تضيع أو تتوه أو تفلت، ووجب عليهم أن يستشعروا معنى الضرورة الحالة والفرصة الأخيرة التى إن فاتت ربما لا تستدرك، وحساب الشعوب والثورات فيها سيكون حاسما وعميقا لهؤلاء الذين تصدروا المشهد وهم ليسوا على مقامه، وتحدثوا عن الثورة وهم يعوقون مسيرتها، وعن الوطن وهم لا يحسبون لمصالحه حسابا، يضعون الوطن فى حالة تأزيم مستمر لا يحمل ثورة ولا يحتمله وطن.

الإجماع السياسى والتيار الأساسي: التيار الأساسى هو بيئة الجماعة الوطنية فهو القاسم المشترك الأعظم لها من حيث الغايات والأهداف ويتشخص وفقا للإطار العام ويتكون مما تكاملت به عناصر المشروع الوطنى ويحقق لكل جماعة داخلة فى إطاره أغلب مصالحها للشعور بالأمن والاستمرار، فالتيار الأساسى لبلد ما يعتمد على أكبر قاسم مشترك بين التيارات السياسية والاجتماعية فى هذا البلد، حيث الملامح العامة التى تختزل ما تتفق عليه هذه التيارات فى سياق تعاطيها مع متطلبات المرحلة التاريخية.             

الجماعة الوطنية وضرورات التوافق: الجماعة الوطنية هى وحدة الانتماء الجماعى الرئيسية التى يقوم بها التكوين السياسى وهى بذلك تضم العديد من القوى والجماعات المكونة لعناصر الجماعة السياسية التى يجب أن تراعى أوضاعها عند صياغة التيار الأساسى، هذه المكونات هى «وحدات الانتماء الفرعى»، وهى القوى والجماعات التى تبنى عليها سائر المؤسسات السياسية والاقتصادية والثقافية سواء جماعات الدعوة، أحزاب، نقابات، جمعيات. فكأنها رابطة وصف جامع لهذه الجماعات وأفرادها (وصف دينى، مطلب سياسى، اقتصادى، اجتماعى، وضع طائفى لمهنة أو نوع تعليم أو عمل).

بين قاعدة التيار الأساسى ومقتضيات الجماعة الوطنية تولد أرضية التوافق والبحث عن مساحات بنيتها التحتية التى بمقدار ما توفر من مساحات تُشغل بالتوافق فإنها تطرد مساحات الاستقطاب وذراريها، بينما أى فراغ من مساحات القرار أو الاختيار لابد أن تملأ، الفراغ يُملأ بك أو بغيرك، وملء مناطق الفراغ يكون أخطر ما يكون حينما يُملأ بالفرقة أو الفوضى أو العنف.

شركاء متشاكسون.. فأين الوطن؟.. وأين الشعب؟!: شركاء متشاكسون، رفقاء صاروا فرقاء، امتهن معظم من فى المشهد من قوى سياسية ومجتمعية بل، الكل دخل على خط السياسة، افترستنا السياسة بمفهومها الضيق، السلطة محورها، ونسينا السياسة بكونها القيام على الأمر بما يصلحه أو هى فن تدبير المعاش، لتصير حركة تنازع وصراع مقيم، فى خضم هذه الحركة غير الراشدة سقط سهوا أو عمدا مصلحة الوطن وحاجات الشعب.

سياستكم ومواقفكم.. معارضة وسلطة لا يحتملها مشهد الثورة ولا مصلحة الوطن ولا مطالب وضرورات الشعب: وفى غمار هذا مُورست بأعلى درجة من المكايدة السياسية والمراهقة السياسية هذا من جهة ومن جهة أخرى كانت الممارسة فى إطار التبرير والتمرير، وظلت هذه الممارسات تشكل من طرفى السلطة والمعارضة خصما من الثورة وتهدد مصالح الوطن وتغفل فى إطار سياسات رد الفعل احتياجات الشعب وسد ضروراته، وفى إطار من المكايدة هاجمت بعض المعارضة أكثر الوزراء حركة ونشاطا وإنجازا ألا وهو الدكتور باسم عودة وزير التموين وطالبت بتغييره وإقالته، ولا يمكننى أن أرى ذلك أو أفسره إلا من باب المكايدة والمراهقة التى لا تحتمل إنجازا يأتى على يد أى من كان يمت بصلة للإخوان أو منظومتهم الحزبية، وآخرون حينما برزت علامات توحى ببعض الاستقرار النسبى، فإذا بهؤلاء يستدعون ما أُسمى بمليونية تطهير القضاء يستدعون كل ما يؤدى إلى استفزاز مؤسسة القضاء ومن ينتمى إليها فى معركة خاسرة لكسب الخصوم وانصراف عناصر المساندة والتأييد. مشاهد عبثية تنتمى إلى دائرة اللامعقول السياسى بعقلية تستدعى الضرر، ولا تبحث أو تلج باب جلب المنفعة وتحقيق المصلحة.     

اغتيال التوافق مفهوما وعملية وممارسة: يقول الدكتور شريف عبدالرحمن المتخصص فى فلسفة وهندسة النظم عن حالة التوافق على التوازى مع المعارك العديدة الدائرة فيها، تشهد الساحة السياسية المصرية معركة ذات طبيعة خاصة يتبارى أطرافها فى احتكار الحديث باسم مفاهيم بعينها؛ من أشهر هذه المفاهيم.. مفهوم «التوافق الوطنى» والذى تدعى كل الأطراف اقتناعها به وإيمانها بمضمونه ولكنهم عند التطبيق يفترقون ويتجادلون، إذ ينطلق كل طرف من قناعته الخاصة وتصوره الضيق لهذا المفهوم، حتى صار لدينا أكثر من نسخة من نسخ التوافق الوطنى. وحتى أصبح الحديث عن التوافق مناسبة لاستثارة مشاعر اللاتوافق، ومناسبة لاستدعاء أوجه الخلافات المزمنة، بدلا من أن يكون مناسبة لتحقيق المضمون الذى تنطق به حروف هذا المفهوم».

اغتيال المفهوم تمهيدا لوأد عملية الانطلاق فى مسار ومسيرة التوافق، واغتيال الممارسات الدافعة فى هذا الطريق والآليات الرافعة لعمل التوافق، ومحاولة اغتصاب التطبيق وحرفه إلى طريق غير طريق التوافق، حتى تيأس أى قوى داعية أو راعية.  

معا أفضل.. متنازعون خاسرون: ممارسات الخسارة والفشل للأسف لن تكون فى نتائجها قاصرة على السلطة والمعارضة فيما يسمى النخبة، ولكن تمتد لكيان الوطن ومسيرة الثورة، ودروس الميادين العبقرية لم تستثمرها السلطة والمعارضة، وأسهمت كل من القوتين فى انتهاك رمزية الميدان طرف أسهم فى تشويهه وآخر أسهم تارة بتفريغه وأخرى بتهميشه، إن أرضية التوافق والتيار الأساسى والجماعة الوطنية التى كانت من أعمدة ثورة الميادين تنادى من كل طريق: معا أفضل.. متنازعون كلنا خاسرون، إن المشاهد كلها تدل على ذلك بلا مواربة أو مداورة.

 عمليات بناء الثقة: دخول الانتخابات وصناعة الضمانات: نعم أركان الثقة بين أطياف المجتمع وقواه السياسية قد تضررت وقد تتداعى، ومن المهم تدارك ذلك كمقدمة تأسيس لما ندعوه بالمصالحة الكبرى، على المعارضة أن تعلن بوضوح ومن دون إبطاء دخولها الانتخابات المقبلة وأن يصطحب ذلك نزول حقيقى لجماهير الناس وحياة الناس وهمومهم ومعاشهم، وعلى الجانب الآخر لابد أن تنظر السلطة إلى قضية الضمانات الانتخابية بالجدية الواجبة وبالإجرائية اللازمة لتوضح للجميع بالأفعال وليس بالأقوال أنها راغبة فى إدارة انتخابات حرة ونزيهة آمنة وعادلة، وأرى أن دخول المعارضة بكامل قواها هو أكبر ضمانة ليس فقط فى الانتخابات ولكنه ضمانة التأسيس للنظام السياسى الجديد وتوازنه بين سلطة راشدة فاعلة وعادلة ومعارضة متزنة موزونة وازنة.

أصول تعاقد سياسى ومجتمعى جديد: إن عمليات بناء الثقة هى المقدمة الضرورية التى تجعلنا مرة أخرى على طريق يبنى على قاعدة منه أصول تعاقد سياسى ومجتمعى جديد دافعا لحيوية وفاعلية العملية السياسية، ومانعا لعودة حالة وآلة الاستقطاب بسلبياتها الحالقة للوطن والثورة معا.

المصالحة الكبرى.. الضرورة الكبرى: شعار يجب أن يرتبط بهذه الفترة الفارقة فى المرحلة الانتقالية الكاشفة لخطورة هذه المرحلة وإدارتها، إن الاتفاق والتوافق والتوفيق عمليات بعضها من بعض يمكن أن تجعل من هذه المصالحة فرصة تاريخية وطاقة إضافية تسمح للوطن الانتقال إلى مرحلة البناء السياسى والمؤسسى والانتقال المجتمعى المطلوب الذى حل أوانه وعظم مقامه.

استراتيجيات واجبة.. ولكنها غائبة: إن بناء استراتيجيات للعدالة بكل مستوياتها العدالة القضائية والحقوقية، القضاء الناجز العادل، واستراتيجية العدالة الانتقالية المعتبرة لحالة الثورة والأحداث التى ترتبت عليها وبناء استراتيجية للعدالة الاجتماعية، واستراتيجيات لمكافحة الفساد والبطالة والفقر والتعامل مع مساحات ومناطق التهميش فى الوطن بالجدية الواجبة والخطط اللازمة، كل ذلك فى حاجة لشراكة حقيقية من الجميع ولمصلحة الجميع.. هذا هو مناط الإجماع فى صورة التوافق الذى نريد. كان هذا بعض ما استقر فى ضميرى واعتمل فى عقلى إبان حضورى لمؤتمر الإجماع والوعى الجمعى.. فهل وعينا درس الوعى كمقدمة للسعى، أم أصابنا بعض العى؟!