نشر المقال فى جريدة الشروق المصرية بتاريخ: 8 سبتمبر 2012
ضمن علاقات الدولة بالمجتمع (أصاب بعضهم أعلاها وأصاب بعضهم أسفلها)، يجب التوقف عند «مجتمع السفينة» وحركته وقدراته وخريطة حاجاته وتحدياته، مجتمع السفينة يجب أن يستحضر كل المعانى التى تتعلق بركوب السفينة معا وما يقتضيه ذلك من التفكير والتدبير والتغيير والتأثير وفق منطق السفينة.
«أما الذين فى أسفلها يمرون على من فوقهم،يحصلون ماءهم» إن المعانى المتضمنة فى ذلك كبيرة وجليلة، خطيرة وثقيلة. أول هذه المعانى الكامنة مسئولية من فى الأعلى عمن هم فى الأسفل فى التعرف على كل خرائطهم من ضرورات وحاجات، من قدرات وإمكانات، من قضايا وتحديات، مسئولية المعرفة لا تتوقف عند ذلك بل تتخطاها إلى ضرورة العمل بمقتضاها والتدبير لمتطلباتها، مسئولية المعرفة غالبا ما تقترن بمسئولية الوعى والسعى.
ثانى هذه المعانى الحاملة لمغازى كثيرة أن للمجتمع القوى من الشروط الضامنة والروابط القائمة، والضوابط الآمنة، المجتمع القوى حركة علاقات إيجابية تتسم من ناحية بأنها سوية ومن ناحية أخرى بالقدرة والفاعلية، كلها تتحرك (أى الشروط والروابط والضوابط) بمنطق السفينة وضروراته وتدبيرها وقدراته ومقصدها وغاياته.
إن المنطق الذى لا يتخلف فى تكوين شبكة علاقات اجتماعية وثقافية وسياسية واقتصادية حاملة لمعانى سفينة الوطن بما تؤكده من مصالح عامة وقيم ضامة ومسئوليات شاملة تامة.
ثالث هذه المعانى وما تفرضه من مبان أن مجتمع الأسفل يشكل القاعدة لأى عملية ساسية والحامل لها، القضية لم تعد فى معنى الحاكم أبدا والمحكوم لزوما، المحكوم فى حراك مجتمعى يصير فيه حاكما ويصير الحاكم مفتقرا إليه فهو مقياس الرضا القائم ومحك الشرعية الدائم، هو لا يفقد قوته وسلطانه. السلطة لم تعد هرمية الشكل فحسب، أو أنها من نصيب من هم فى الأعلى، بل هى شبكة كلية تتحرك بفاعلية من خلال من هم فى الأسفل، إذا أردت أن تعرف سلطان المجتمع فلتنظر إلى ثورة 25 يناير على أرض مصر الحبيبة لتؤكد أن سلطة المجتمع أعتى وأشد حينما يجد الجد ويحين وقت الحساب من شعب أعلن غضبته ومجتمع قام بثورته، وفى كل الأحوال يعبر بذلك عن كامل سلطانه وسلطته. رابع هذه التضمينات فى بطون هذه الكلمات أن مجتمع الأسفل، تحكمه شبكية نظرية انتشار السلطة، إن شبكية المجتمع قادرة فى وقت ما أن تواجه هرمية السلطة خاصة إذا ما فسدت أو استبدت. انتشار السلطة قائم على مبدأ الرعاية المتكاملة والمسئولية الكاملة «ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته»، وذلك مناط قوة المجتمع وفاعليته، قدرة المجتمع وجامعيته.
أما المسألة الخامسة فهى تشير إلى أن مجتمع السفينة يجعل من الأمن وشروطه أولى أولوياته، وقاعدة انطلاقاته، شروط تحقيق المجتمع الآمن يأتى من علاقة تبادلية بين الأساس المادى لعملية «أمن المجتمع» وتأمين قدراته وأمان مواطنيه وسياقاته.
والأساس المعنوى فى كرامة مواطنه ومكانة وطنه، إن المادى والمعنوى يتحركان فى منطق إنسان السفينة من خلال القاعدة الذهبية: «أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف»، يولد المفهوم الشامل للأمن، ألا وهو الأمن الإنسانى الجامع لكل خير، المانع من كل ضر أو شر.
إنها حقائق المجتمع القوى المتماسك المستندة إلى أصول أمنه وأمانه من خلال رؤيته لإنسان مكرم فى أصل كيانه، مؤمن فى حركة معاشه، قاصدا إلى كل ما يؤدى إلى رقيه ونهوضه، إنها خريطة الضرورات الأساسية الحافظة للكيان الحامية للإنسان.
وسادس منظومة المعانى يؤشر على أن العقد الاجتماعى والمجتمعى أصل كل علاقة ومدخل لكل تنظيم، وأن هذا العقد المتكامل يشتمل على معانى الحراك المعيشى لمن هم فى الأسفل بين بعضهم البعض، وبين من هم فى الأسفل والأعلى.
الحراك المعاشى يشير إلى «يمرون على من فوقهم»، «يحصلون ماءهم»، إنه الفعل الضرورى لتحصيل القوت الضرورى، إنه يشير إلى أكثر من معنى فى هذا الحراك العمليات الحراكية، والعلاقات الضرورية، والآليات التنظيمية.
وسابع المقتضيات يرتبط بما يمكن أن يترتب على العقد الاجتماعى من جهة والحراك المعاشى من جهة أخرى، إنها نظرية الحقوق والواجبات، فى تبادل يشير إلى معانى المسئولية والعدالة وأصول المساواة.
إن حركة الحقوق والواجبات وحركة المسئولية والالتزامات إنما تشير إلى تمكينها من خلال ما يمكن تسميته آليات الحراك المعاشى والاجتماعى والوظيفى، والقدرة على بناء علاقات فاعلة وسوية، مؤثرة ومواتية، إنها دستور حياة السفينة المسكون بمنطقها (دستور العلاقات، دستور الحراك وتنظيمه، دستور الموارد وتوزيعها، دستور التخصيص وتقسيم العمل وتوزيع الأدوار وإسناد الوظائف)، إنه الدستور الحاكم الكامن فى حركة الناس والعلاقات النافعة لمعاشهم الدافعة لرقيهم ونهوضهم.
إنها منظومة المشترك بين الناس والمختلف بين أطيافهم وتنوعهم والمؤتلف بين طاقاتهم وتكاملهم، إنه البناء المجتمعى فى حركته وتحريكه صوب التماسك المنتج والتكامل الفعال، إنه قانون الجماعة الوطنية ولحمتها والتيار الأساسى وتجلياته، إنه يقوم على قاعدة أنه «لا استبعاد ولا تخوين، لا نفى أو تناف، لا هيمنة أو تغول، فى مصر «سفينة الوطن» متسع لعمل الجميع وإسهامهم وفى قضايا مصر وتحدياتها ميدان لفاعليات كل فرد أو قوى أو كيان، إنه الأصل الذى لا يتخلف فى إمضائه ولا يختلف عليه فى مضمونه.
وثامن هذه المعانى إنما يتعلق «بالارتفاق الجماعى والاجتماعى والمجتمعى» حقوق الارتفاق هى من أصول التكافل والتكامل المجتمعى وحقوق المرور المعاشى، لسد الضرورات وبلوغ الحاجات الأساسية، لا حق لأحد منع القائم به، إنه أصل المعاش الضرورى وتحصيله، الحافظ للكيان المكرم للإنسان الحارس للأمان، المؤكد لشبكة علاقات اجتماعية وارتباطها بأصول الوظيفة فى بذل جهد وفاعلية وعناية، ووضع من الجميع وللجميع يتسم بالرعاية، وعوائد عادلة لتحقيق غاية.
ليس لمن فى الأعلى بحكم اعتلائه المكان الأعلى أن يتحكم فى ضرورات الناس، أو يستأثر هو بالعوائد ينهبها ويجعلها وكأنها ملك خاص له ولأسرته، فى إطار إفقار متعمد ونهب ممتد، وفساد عميم، واستبداد مقيم.
إنه النظام البائد الذى منع الناس من طاقاتهم وجفف منابع الفاعلية فى نشاطهم وأفسد نظام أخلاقهم وقيمهم وجرف كل الإمكانات والمهارات والخبرات وضيق عليهم المعاش، وأطلق زبانية استبداده وسوس فساده ينخر فى بنيان المجتمع وإنسانه وكيانه. وأوهم الناس بغطاء زائف من دولة مؤسسات «كأن»، ودولة قانون «الهوى والمزاج».
وتحت دعوة تنظيم الحقوق جعل الناس فى سجن كبير فى وطنهم، وتلاعب بذلك متجاهلا القاعدة «أن تنظيم الحق ركن فيه، لا ينقضه ولا ينفيه»، فنقض منظومة الحقوق إلا من مصالحة الأنانية، ونفى كل حقوق إلا من معانى استبداده وحركة فساده.
وفى نهاية هذه المعانى والمبانى نؤكد أن استلهام هذه جميعا أمر ضرورى لا فكاك منها ونحن نرسم خريطة حاجات الناس ومعاشهم وخريطة تحديات المجتمع وقضاياه، وبعد ثورة عظيمة كثورة 25 يناير يجب أن نقف عند أمرين لابد أن تهتم بها مؤسسات الدولة وعلى رأسها مؤسسة الرئاسة:
أداء الخدمات والجهاز الإدارى المترهل والمتكلس، الفاسد والخامل، برز ذلك فى مشاكل تحصيل الماء فى قرية «صنصفط»، وهو ما يبرز الخلل فى منظومة الأمن المائى الإنسانى، وحفظ المصدر المائى، والنيل وإهانته بالتعديات والتلوثات، وحصة المياه وحروبها والزراعة فى مصر وارتباطها بمنظومة الميا والأمن الغذائى والاكتفاء الذاتى والعلاقة بين القوت والقرار، إنها قضايا أمن قومى يتعلق بالوطن والمواطن وإدارة الحياة اليومية والحراك المعاشى.
الحد الأدنى والحد الأعلى للدخول والأجور وخريطة المعاش الضرورى بعد خطة النظام البائد فى تكريس الإفقار فى بر مصر، خطة النهوض بالناس ومعاشهم، وحمايتهم من غول الأسعار وزيادتها العشوائية.
على من فى الأعلى أن ينظروا إلى شقاء الناس ومعاناتهم ويقومون بالحركة الواجبة حركة عادلة فاعلة، فيحفزون الناس فى نشاطهم ويحصلون حاجاتهم ويواجهون تحدياتهم ويؤمنون معاشهم.
قانون مجتمع السفينة لا يتخلف عن أحد ولا يختلف عليه أحد.