نشر المقال في جريدة الشروق المصرية بتاريخ: 29 سبتمبر 2012

نصل إلى نهاية قراءة حديث السفينة والذى نلحظ فيه تلك الحالة التمثيلية التى يحملها ضمن كلمات قليلة فى مبناها، عظيمة فياضة فى معناها ومغزاها، بحيث ترشد وتسدد الرؤية لعملية حفظ المجتمع وحمايته وفعل الأجهزة المنوط بها ذلك كعملية كلية ترسم صورة مجتمعية متكاملة لجهاز المراجعة والحماية المجتمعية وصيانة أنساقها المتكاملة، ما بين إدراكات أولية تستند إليها، ومفاهيم وأنماط وأساليب فى التفكير والتدبير تشير إليها، ومظاهر سلوكية تترتب عليها، وعلاقات إنسانية تفرزها، وقوانين وسنن تحكمها، ومقاصد كلية ترعاها وتتغياها، وعواقب مصيرية تتحسب لها وتتصور مآلاتها ضمن رؤية مستقبلية بصيرة ورصينة.

«فإذا تركوهم وماهم فيه، هلكوا وهلكوا جميعا، وإذا أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا»، إنها ثقافة النجاة والإنقاذ فى مواجهة ثقافة الهلاك والغرق، أجهزة الإنقاذ ومتطلبات النجاة من أهم آليات حفظ وتأمين وحماية المجتمعات، تقع هذه الأجهزة جميعا على قمة هذا الاهتمام ليشكل بذلك نموذجا فيما لو فهمناه ضمن مقتضيات حديث السفينة ومتطلباته الأساسية، وتحريك الوعى والسعى نحو مفرداته الأساسية التى تشكل منظومة متكاملة فى بناء المجتمعات وتجديد الأمة وجدل النسيج الاجتماعى وشبكة العلاقات الاجتماعية التى تهدف الى ترسيخ ثقافة السفينة ضمن رؤية مجتمعية وحضارية وإنسانية.

وهو أمر قد يشير ومن كل طريق الى التفكر والتبصر فى سنن الأفراد والمجتمعات والعلاقات والسياسات ووضع الاستراتيجيات والاهتمام بسنن التربية ومتطلباتها وعمليات الإصلاح والتغيير ومراعاة سنن التدرج والتدريج فى التطبيق والتنزيل على أرض الواقع.

هذه هى الاستراتجية السفنية فى عملية الإصلاح تستلهم كل متطلباته ليس فقط إلى تكوين الإنسان الصالح فى ذاته ولكن الساعية الى تفعيل طاقات الإنسان المصلح لغيره ومجتمعه وأمته فلا تقوم لعموم الناس والمواطنين قائمة إلا بذلك، فى صلاح نفوسهم وإصلاح غيرهم.

فعندما يكون الشاهد حاضرا يمكن لحضوره فحسب أن يغير من سير الأحداث وأن يجنب الوقوع فى المحظور، وعلى هذا فإن رسالة المواطن لا تتمثل فى ملاحظة الوقائع ولكن فى تبديل مجرى الأحداث بردها إلى اتجاه الصواب ما استطاع إلى ذلك سبيلا.

نموذج المشاركة المجتمعية ونماذج الاستهام والشراكة السياسية فى إطار الجماعة الوطنية، ونموذج الحراك المعاشى واليومى، السياسة هى معاش الناس تسييرا وتدبيرا وتحسينا، إدارة الحياة اليومية للمواطنين تتطلب أجهزة خدمة عامة حقيقية تتسم بالكفاءة والنزاهة والقدرة والفاعلية، إن الجهاز الإدارى بهيئته الحالية لا يمكن أن يسير أو ييسر عملية إنماء حقيقى أو نهوض، نموذج الأمن الإنسانى السفنى وتحقيقه لمن هم على سفينة الوطن ولسفينة الوطن ذاتها أمر يشكل ضرورة حياتية ومجتمعية، وهو أمر يتصل بجملة القيم السياسية والآليات التى تشكل طاقة إيجابية وفاعلية هى من صميم منظومة السفينة مثل النموذج التعددى وأهم مقتضياته ونموذج العلاقات السوية بين الدولة والمجتمع وفاعلياته والنموذج الشورى والحوارى والنموذج الاتصالى وقنواته الدافقة المنسابة والفاعلة، إن ذلك فقط هو الذى يحقق نموذج المجتمع والرابطة السفينة، ويتوج ذلك نموذج صنع القرار والمساهمة فيه.

وضمن هذا التصور المنظومى يقع حديث السفينة كرؤية متكاملة بين الفقه والتربية والاجتماع والنفس والمجتمع والسلطة وعملية تأسيس المجتمعات وبناء الحضارة، إن أى نظام اجتماعى لا يمارس دوره فى فراغ وإنما يتجسد فى كائنات بشرية وعلاقات قائمة بينهم وهو من هذه الناحية تتحدد درجة نجاحه وقدرته على تعبئة إمكانات المجتمع وتفجير الطاقات الصالحة فى أفراده ومواطنيه تبعا لمدى انسجامه إيجابا أو سلبا مع التركيب النفسى والتاريخى لهؤلاء الأفراد والمواطنين.

 ولا نقصد بذلك أن النظام الاجتماعى والإطار الحضارى للمجتمع يجب أن يجسد التركيب النفسى والتاريخى لأفراد المجتمع ويحوّل نفس ما لديهم من أفكار ومشاعر إلى صيغ منظّمة فان هذا لا يمكن أن يكون صحيحا بالنسبة الى مجتمعاتنا التى تشكو من أعراض التخلف والتمزق والضياع والتجزئة، وتعانى من ألوان الضعف والهوان النفسى والوهن الحضارى لأن تجسيد هذا الواقع النفسى المهزوم ليس إلا تكريسا له واستمرارا فى طريق الضياع والتبعية، وإنما الذى نقصده أن أى بناء حضارى جديد لمجتمعات التخلف هذه إذا كان يستهدف وضع أطر سليمة لتنمية الأمة وتعبئة طاقاتها وتحريك كل إمكاناتها للمعركة ضد التخلف فلا بد لهذا البناء عند اختيار الإطار السليم أن يدخل فى الحساب مشاعر الأمة ونفسيتها وتركيبها الثقافى والتاريخى، وذلك لأن حاجة التنمية الحضارية إلى منهج اجتماعى وإطار سياسى ليست مجرد حاجة الى إطار من أطر التنظيم الاجتماعى، لا يمكن لعملية البناء أن تحقق هدفها فى تطوير الأمة واستنفار كل قواها ضد التخلف إلا إذا اكتسبت إطارا يستطيع أن يدمج الأمة ويتفاعل معها، فحركة الأمة كلها شرط أساسى لإنجاح أى عملية بناء حضارى جديد وأى معركة شاملة ضد التخلف لأن حركتها تعبير عن نموها وإرادتها وانطلاق قدراتها الذاتية والداخلية، وحيث لا تنمو الأمة لا يمكن لأى منهج أو صيغ محنطة أن تغيّر من الواقع شيئا. (إنّ الله لا يُغيّر ما بقومٍ حتى يُغيروا ما بأنفسهم).

 فنحن حين نريد أن نختار منهجا أو إطارا عاما لبناء الأمة، مركبا حضاريا قادرا على تحريك الأمة وتعبئة كل قواها وطاقاتها للمعركة ضد التخلف أو الفرقة أو الفساد. إن شعور الأمة بكل ذلك يعتبر عاملا مهما جدا لانفتاحها على عملية البناء الحضارى التى تقوم على أساس الإسلام وثقتها بهذا البناء وبالتالى تحقيق المزيد من المكاسب فى المعركة ضد التخلف.

ومن هنا فمن الأهمية أن نشير فى ختام هذه الرؤية الى قانون العاقبة الذى يرتبط بتلك الرؤية المنظومية الشاملة كعملية مجتمعية وحضارية، فالتخلى عن مسئولية جهاز التأمين أو التقصير فى تفعيله يؤدى إلى الانقلاب والتراجع، حيث تنقلب المفاهيم والقيم، وتنقلب مقومات الشخصية الإنسانية وينقلب كل شىء فى حياة الفرد والمجتمع.

أنه يُمثل جهاز المناعة والقوة فى الأمة والشعوب وعلى قدر قوة هذا الجهاز فى الأمة على قدر ما يكون ذلك علامة على القوة والصحة والسلامة.. وكلما كانت عصيَّة على الغزو والفساد والتخريب والدمار بكل أنواعه؛ المادى منه والمعنوى، جهاز المناعة فى الأمة والمجتمع هو كذلك يمثل جهاز المناعة عند الأفراد، يمنع من تسلط المستبدين والفاسدين وتعميم الظلم والجور والاعتداء على الأنفس والأعراض والأموال، والاعتداء على جميع الحرمات والمقدسات، وانتشار فساد الاَخلاق وتحلّلها، وضعف العلاقات الاجتماعية والسياسية، وتفكك الكيانات، وإذ تُرِك الأمر ترتب على تركه خراب العمران ووقوع الهلاك الحضارى (بفعل السنن). آفة المجتمعات الترك لأنه مدخل للغرق والهلاك، إنه قانون العاقبة الذى لا يتخلف، غاية الأمر أن الإنسان يجب ألا تنفك أنشطته وفاعلياته عن الإصلاح أبدا، بالاعتبار الذى يؤكد على تنمية أجهزة المجتمع الإصلاحية وقدراتها فى ترشيد واستمرار عملية الإصلاح الشاملة والحضارية.

كل هذه المعانى التى ترتبط بثقافة النجاة وثقافة الهلاك بدت لى واضحة وأنا اتتبع سجالا حول الجمعية التأسيسية للدستور وحول الدستور ذاته، وهنا وجب علينا أن نشير إلى أن دستور السفينة لا يمكن أن يجد مدخله إلا فى سفينة الدستور، التفكير بمنطق السفينة يعنى أن يشكل الحوار حول دستور مصر الثورة مختبرا حقيقيا لخياراتنا الجوهرية فى هذا المقام، هل نختار الدستور بحيث يشكل صورة تعاقد مجتمعى وسياسى جديد بعد ثورة؟، أم أننا سنضع دستورا وفق حسابات سياسية واعتبارات أغلبية لا تعكس حقائق التوافق والتمثيل، الدستور فى هذا المقام لابد أن يشكل وثيقة تعكس حال مصر وحال أهلها وخرائط تنوعها وتبرز قدرات الحوار والتوافق المجتمعى، لهذا جعلت الدساتير لتشكل سفينة النجاة للوطن لأنها بمثابة خريطة وبوصلة للجميع.