نشر المقال فى “عربي21“ بتاريخ: 13 فبراير 2018
في هذه السلسلة التي تتعلق بالكتابة في النقد الذاتي، من المهم أن نبدأ بالنقد الذاتي الحقيقي في ما يشكله علم السياسة ومعالجته للثورة والثورة المضادة. وبما أن وظيفتي في حقل العلوم السياسية، فقد قررت أن أبدأ بسلسلة من المقالات تنتقد حال العلوم السياسية، على الاعتبار الذي يؤكد أنها المقدمة الأساسية التي يمكن الانطلاق منها لنقد هؤلاء الذين يقومون بدرس العلوم السياسية وتدريسها، وكيف أن علم السياسية قد تلقى عدة صفعات، سواء من الثورة وموقفه منها أو من الثورة المضادة والانقلاب، والموقف المتهافت من كثير من هؤلاء الذين ينتمون إلى دائرة علم السياسة.
أول نقد يمكن أن نوجهه؛ حينما يتعلق بعدم قدرة من ينتمي إلى دائرة هذا العلم أن يتنبأ بحدث الثورة، وأن هؤلاء الذين وجب عليهم دراسة تلك الظواهر والتنبؤ بها؛ قد تلقوا ذلك الحدث بنفس المفاجأة الذي تلقى بها عوام الناس هذه الظاهرة، وبدا هؤلاء في غاية الارتباك من أول تسمية هذه الظاهرة إلى الحد الذي جعل هؤلاء قد ينكرون حدوث ثورة أصلا. فربما يعود ذلك ليس فقط إلى حالة عدم التوقع والغفلة عن ممهدات الحدث، ولكن بطول الفترة التي عاشها هؤلاء طيلة فترة حكم مبارك المخلوع كنا بين ثلاثة أصناف:
صنف انخرط في تلك السلطة يخدمها ويبرر لها، ويضفي شرعية على منظومة طال أمد استبدادها ما يقرب من ثلاثين عاما، وبدا هؤلاء يتحدثون عن قوة النظام ومؤشرات استقراره، ورادفوا بين هذا الاستقرار الكاذب ومفهوم الشرعية الذي يشير إلى رضى المحكومين الحقيقي عن حكامهم، وبدا هؤلاء يتربعون في أفنية لجنة السياسات التي ترأسها ابن المخلوع ليجرب فيها حكم البلاد والعباد، بعد أن طلب من أبيه أن يحكم، فأجابه المخلوع باختراع لجة للسياسات تحاكي كل الوزارات؛ ليحكم بها ويتحكم بها ليتدرب المحروس على حكم مصر.
وأسموا ذلك من التسميات الخطيرة، فهي مرة تجديد للدولة والحزب، وهي مرة أخرى إبراز لجيل الشباب، وما أرادوا بالشباب إلا ابن الرئيس “المحروس” ولا شباب غيره، بل إن هؤلاء في مؤتمر أخير للحزب الوطني؛ تحدثوا عن حقوق الإنسان الفائضة في منظومة مبارك وبفضل تجديدات ابنه المزعومة، حتى أن بعض هؤلاء من أساتذة العلوم السياسية الذي كان ينتظر كلماته ويتلمس همساته ليؤكد في النهاية أننا قد وهبنا ذلك الشعب حقوقا لا تحصى.
فأما من أراد أن يطالع تلك الحقوق، فليدخل على صفحة الحزب الوطني الجديد، ومن أراد أن يتعرف ويتأمل تلك الحقوق فعليه أن يضرب على حاسوبه ويدخل على موقع الحزب الوطني ليجد تلك الحقوق تنتظره ليتهلل المواطن بتلك الحقوق متفرجا عليها، فالحقوق للفرجة وليست للممارسة، فمن دخل على الموقع وجد من الحقوق الكثيرة والكبيرة، ولكنها فقط لم تكن إلا حقوقا على موقع الحزب الوطني في موقعه الإلكتروني الافتراضي.
حقوق افتراضية متوهمة في “دولة كأن” التي خرجت من ثوبها من انتخابات برلمانية أخذ فيها الحزب الوطني من المقاعد ما يفوق التسعين في المئة، وحينما قاطع البعض الانتخابات فقرر بعد بروز هذه النتائج الزائفة؛ أن يقيم برلمانا موازيا، كانت عبارة المخلوع الشهيرة “خليهم يتسلوا”. وبدا النظام في قمة جبروته وطغيانه يؤكد على استمراره، ولكن شبابا من أهل مصر الذين أقاموا مجتمعا افتراضيا لهم من أجل التغيير؛ أراد أن يترجم هذا المجتمع إلى مجتمع واقعي، سخر أستاذ العلوم السياسية من “شباب الفيسبوك”. وفي الخامس والعشرين من يناير، نجح هؤلاء في ترجمة مجتمعهم الافتراضي، بينما أصيب سدنة مبارك المخلوع وابنه بالذهول والدهشة مما حدث من احتجاجات واسعة.
أما الصنف الثاني من أساتذة العلوم السياسية، فقد ظل رهين محبس فكرة الإصلاح، ولم يعد يفكر في معنى الثورة. ذلك أن كان من هؤلاء الذين يستبعدون حدوثها، وأقصى أمله أن يتحدث عن عيوب ومعايب، وعن محاولات إصلاح هنا وهناك جزئية مهما كانت ضئيلة ومهما كانت قليلة، وباتت فكرة الثورة مستبعدة، فلا دارس لها ولا طالب لها. وحينما أتت الثورة أُسقط في يد الجميع، فأصابتهم الدهشة وذات الذهول، ولكنهم طفقوا يدرّسون للطلبة معنى الثورة التي لم يتوقعونها، ولم يقم هؤلاء أي دور يذكر سوى أنهم بحثوا ونبشوا عن كل مقال يتعلق بالثورة وكل كتاب يتعلق بتلك الظاهرة، وصار الجميع يلهثون في مشهد يحاول اللحاق بالظاهرة بعد أن تخلفوا عنها واختلفوا عليها.
أما الصنف الثالث فبدا له يحاول من خلال الإنكار أن يكون موضوعيا.. هكذا قال، والموضوعية لديه أن لا تدرس الظاهرة وهي ثائرة فائرة، ولسان حاله يقول دعها تبرد، ولتفرض على نفسك سياجا من البرود العقلي؛ لأن ذلك هو صميم الموضوعية، فأراد أن يضع الحدث مجمدا في ثلاجة موضوعيته مجمدا إياه معتذرا عن دراسته، كأنه لا يجوز دراسة الظاهرة، وهي ثائرة رغم أن الباحث في حقل العلوم السياسية يتميز عن باحث التاريخ؛ بأنه يمسك بتلابيب الظاهرة وهي قيد الاشتعال وفي حال ثورانها، وأن مهارة الباحث السياسي ليس في تبريد الظاهرة، ولكن في التعاطي معها وهي ثائرة.
وفي المقابل، طفق البعض يقلب في الظاهرة، فقد وجد شبابا يتوق لمعرفة أوسع حول تلك الظاهرة التي لم يتوقعها الكبار من علماء السياسة، وبدت من الطلاب أسئلتهم عن الدولة وعن الاستبداد وعن التغيير والثورة، أسئلة زاعقة يحار فيها الاستاذ لأنه لم يتجهز نفسيا أو ذهنيا أو معرفيا لمعالجة هذه الظاهرة، وظل البعض منزويا في الزاوية يتحدث عن وظيفة أستاذ وعالم السياسية الكفاحية يتذكرون كلمات أستاذتهم حامد ربيع ومنى أبو الفضل؛ ليؤكدوا من خلال منظور ثقافي وحضاري كان هو الأقرب لدراسة ظاهرة الثورة والتغيير، ولكنه كذلك لم يتوقعها، فاستحضر بعضهم معاني كلمات “الدكتور ربيع” عن الوظيفة الكفاحية في علم السياسة، وعالم السياسة الذي يلتزم بقضايا أمته وأشواق التغيير لدى المواطن وعمليات التغيير والتثوير داخل الدولة والمجتمع.
بدا الأمر لدى هؤلاء فريدا في بابه، مغامرة علمية كان عليه الخوض فيها، وبات قسم العلوم السياسية في كلية الاقتصاد في العلوم السياسية في جامعة القاهرة معملا لذلك الارتباك والإغفال، وأُسقط في يد هؤلاء الذين كانوا جوقة في خدمة المستبد. وانتظر الجميع مشهدا بين جماعة علمية لم يتوقع الداعمون للمستبد ولا المناهضون له حدث الثورة، فكانت تلك أول صفعة لعلماء سياسة دندنوا كثيرا حول التغيير، فإذا بكثير منهم يصنف لدى الطلبة من الشباب بالمنافق الذي يقول ما لا يفعل ويبطن ما لا يظهر، وبات الحديث عن الديمقراطية مجرد حلية. فكيف استطاع هؤلاء أن يتحدثوا ليل نهار عن الديمقراطية، وهم يعملون ويخدمون في دولاب المستبد ليحكموا مفاصل استبداده ويجملون سياسات طغيانه ويزينون قضايا فساده، بينما الآخرون يتوقون للإصلاح وهو أضعف الايمان لديهم، أتت الثورة والكل مندهش والكل ذاهلون.