نشر المقال في “عربي21” بتاريخ: 1 مايو 2018
ثمة مشكلة يشعر بها جيل الشباب من الباحثين في العلوم السياسية، وتتعلق بانفصال مجال العلوم السياسية عن واقع الحركة المتغيرة، وبالأخص في زمن الثورات والانقلابات الممتد منذ سبع سنوات أو يزيد، وما زال مستمرا إلى حين في عدد من الدول العربية. فقد كشفت التطورات المتلاحقة خلال تلك الفترة عجز المتخصصين في مجال العلوم السياسية عن تقديم أطر تحليلية وتفسيرية قادرة على في فهم الظواهر المحيطة، إضافة إلى العجز عن تقديم سياسات عملية قادرة على انتشال الدول من أزماتها المتراكمة منذ عقود، فضلا عن انتشالها من مجال التبعية للخارج على كافة المستويات.
مع تزايد ضغوط الواقع، وما تكشف من حقائق كاشفة عن الدول العميقة في بلادنا العربية والإسلامية، فقد وجد الباحثون أنفسهم أمام حالة مراجعة اضطرارية لحالة العلم وأجندة قضاياه السابقة وخريطة الأولويات، وصولا إلى الحالة الراهنة وما كشفته من مساحات لم ينلها من البحث ما نال أمور أخرى في أقصى هامش الواقع السياسي، فكان حديث الأزمات والحوار حولها.
– كشف حدث الثورات بتعقيداته وتركيبته؛ عن أزمة عميقة في تدريس العلوم السياسية والبحث في الظواهر السياسية المختلفة، مما انعكس في التأشير على أزمة أخرى تابعة لهذا الأمر تتعلق بالتكوين العلمي الضعيف للباحثين. فالباحث غير المتعمق في الاقتصاد والقانون والتاريخ والجغرافيا والعلوم العسكرية، كالميكانيكي الذي تنقصه كل معدات الفك والتركيب، ومن ثم تبدو الحاجة ملحة إلى الدعوة لإعداد جيل جديد متسلح بكافة الادوات المعينة على الفهم والتفسير.
– وانشق عن ذلك واشتق منها أزمة أخرى تتعلق بأزمة إعداد باحثين أقرب للتعامل في قاعات الدرس ومقارعة الخصوم؛ منه إلى إعداد أجيال قادرة على فهم واقع الدول وأزماتها وخرائط المجتمعات وإمكانياتها وعمليات التغيير ومتطلباتها وتعقيداتها وآلياتها.
– أزمة إعداد جيل زاهد في ممارسة السياسة والانخراط في الحياة السياسية، سواء الحزبية أو غيرها، وذلك من خلال استبطان مقولة الحياد الخادعة. فباحث العلوم السياسية البعيد عن ممارسة الحياة السياسية، أقرب إلى الطبيب الذى لم يمسك مشرطا في حياته، قد يكون ممتازا على المستوى العلمي والبحثي النظري، لكن الإمساك بالمشرط شيء آخر. ومن ثم تبدو الحاجة ملحة إلى انخراط الباحثين في العمل السياسي (الحزبي – البرلماني – التنفيذي) ولو على مراحل، بحيث يكون هناك حالة من الوصل والفصل الدائمين بين العلم والحركة. وظل الشباب بعيدين عن معامل السياسة الحياتية لم يمتلكوا الخبرة الكافية في الخبرة والحالة الثوريتين، وتعامل الشباب بالتلقائية والعفوية مع عالم أحداث الثورة، فبعد إنجاز سقوط المخلوع قفلوا الى بيوتهم عائدين في مشهد شديد الرومانسية، وشأن الثورات والتغيير ومعامل الحياة أمر آخر شديد الاختلاف.
– أزمة الاهتمام بظواهر فرعية والابتعاد عن دراسة ظواهر مركزية مثل (الظاهرة الأمنية – الظاهرة العسكرية – الظاهرة الاستخباراتية)، وقد كشفت الثورات العربية والانقلابات المضادة مدى مركزية تلك الفواعل، المتمثلة في الجيوش وأجهزة الأمن والاستخبارات، في فهم وتفسير كثير من التفاعلات وأسباب النصر والهزائم والانتكاسات.
– أزمة الاهتمام بالكليات وإهمال الجزئيات والتفصيلات المعملية، كحقل السياسات العامة على سبيل المثال؛ الذي يشكل ميدانا رحبا للفعل السياسي ومساحات وساحات التغيير الفعلي، والعمل الحركي الذي يفكر في قضايا المجتمع بطينته منخرطا في التعامل معها. إن معامل الإدارة المحلية ومراكز الشباب لتعبر عن حالة نموذجية في نظرية الملف المضغوط، وبرنامج فكه في ميادين المجتمع المختلفة.
– أزمة الوقوع في فخ الحالة الدفاعية رغم التحذير منها، إذ يغلب على أطروحات الباحثين استحضار الغرب دائما في الخلفية للمقارنة أو المقارعة، وهو ما جعل معظم الجهود تنصرف للدفاع على البناء، وهو ما أنتج علوما يمكن تسميتها بعلوم “الحالة السجالية” والتراشق الكلامي.
– يتفرع عن هذه الأزمة، إهمال الدراسات البينية المقارنة بين الحالات العربية وفي الدول الإسلامية باعتبارها صاحبة الأولوية البحثية، والتركيز دائما على مقارنتها بالغرب، مع تهميش الاهتمام بدراسة بقية التشكيلات الحضارية في العالم، سواء الآسيوية أو الأفريقية أو في أمريكا اللاتينية. خبرات وحالات كانت جديرة بالتوقف والتعلم منها وعليها، سواء في شأن الثورات أو الانقلابات.
– أزمة انحسار الخيال السياسي في سقف الدولة الحديثة، وللأسف الشديد فقد وقع في هذه الحالة معظم الباحثين، بمن فيهم المتبنين لمقولة الأمة، فحتى هؤلاء تتسم أطروحاتهم بالطابع الإصلاحي التي تستبطن سقف الدولة القومية، على الرغم من نشأتها المشوهة في بلادنا، ولا يتحداها في كثير من منطلقاتها ومفاهيمها المركزية.
– أزمة إهمال دراسة المجتمع وخرائط تكويناته وتنويعاتها في العالم العربي والإسلامي، وكذلك تبني مقولات غربية بشكل قسري لفهم وتفسير ما يجرى بتلك المجتمعات. وفي هذا السياق، يمكن الإشارة إلى سقوط مفهوم القبيلة من المعجم التحليلي العربي لمعظم الباحثين في مجال العلوم السياسية، على الرغم من انتشار الظاهرة القبلية في معظم البلاد العربية والإسلامية. وقد نتج هذا بسبب استبطان الخيال التحليلي للباحثين لمقولات غربية ليبرالية بالأساس، مثل “مقولة المواطن” و”مقولة الفرد”، الأمر الذي أنتج دراسات يمكن وصفها بـ”الدراسات الهجائية للحالة العربية”، والتي لا هم للباحث فيها سوى كيل السباب واللعنات لمجتمعاتنا وهجائها بأشد التوصيفات الحداثية. مثل هذه الدراسات لا تقدم فهما ولا تفسيرا لتلك المجتمعات.
– أزمة غياب دراسات المراحل الانتقالية بين التصورات الكبرى الكلية للمشروعات المختلفة أو البديلة، وواقع الدول الحديثة في بلادنا وعملية التحديث والتغريب الممتدة منذ أكثر من قرن على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والمجتمعية، العسكرية والأمنية، التشريعية والقانونية، (ما زال السؤال: كيف ننتقل غائبا؟). وعلم دراسة المراحل الانتقالية الذي يهتم بإدارة مراحل استثنائية بما يرتبط بها من موجبات، وما تستلزمه من متطلبات.
– أزمة غياب دراسات الظاهرة الثورية أو الانقلابية فى تاريخ الأقطار العربية الحديثة، وهذه المساحة البحثية في منتهى الأهمية؛ نظرا لمركزية دور الجيوش فى الحالة العربية منذ الاستقلال.
– أزمة افتقاد “الحالة الكفاحية”، وفقا لتوصيف استاذنا الدكتور حامد ربيع، إلا ما ندر. فقد كشفت السنوات الماضية عن افتقاد معظم الباحثين لهذا الحس المتعلق بمسؤولية” الكلمة”، خاصة في هذا المجال المختص بالتعامل المباشر مع ظاهرتي الفساد والاستبداد. ولم يبق للأسف الشديد سوى بعض الأسماء المعدودة التي اختارت خانة المقاومة بكل ما تملك، وتحمّلت في ذلك مشقة وتكلفة كبيرة.
– لا أدرك هل يمكن التماس الأعذار لمن كانوا أسودا جسورة في النقد والمعارضة والتفنن في فترات سابقة أم لا، لكن الأكيد أن ثمة مشكلة تتعلق بضعف التربية الأخلاقية للأجيال القديمة والحديثة، وبالأخص في هذا المجال الحيوي. ويمكن اعتبار مقولة “ادخل كلية الاقتصاد عشان تبقى سفير”، واحدة من المقولات التفسيرية المهمة لفهم تلك الحالة التي يستبطنها الطلاب كدافع لدخول المجال “الحصول على وظيفة مرموقة في خدمة النظام”. شتان بين تلك الحالة وبين الحالة الكفاحية التي كتب عنها الراحل أستاذنا الدكتور حامد ربيع.. بين هذه الحالة وتلك تكمن أزمات الباحثين الكبار والصغار.
– اقترح أستاذنا الراحل حامد ربيع تأسيس ثلاث, علوم فرعية في مجال العلوم السياسية، الأول “علم التدبر السياسي”، والثاني “علم التدبير السياسي” أو “علم الحركة السياسة”.. هي أليق بالظاهرة الثورية والظاهرة الجماهيرية المتعلقة بها، وعمليات إدارة التغيير والانتقال آن الأوان لتفعيل هذه الاقتراحات وبلورتها في شكل مداخل علمية رصينة لفهم الواقع وتفسيره.
كان هذا بعض ما دار من حوار بيني وبين أحد طلابي من الباحثين النبهاء؛ نعدد الأزمات، ونبحث عن الحلول في إطار ممارسة واسعة للنقد الذاتي لحال العلوم السياسية، أساتذة وطلابا.