نشر المقال في “عربي21” بتاريخ: 15مايو 2018
أشارت ثورة يناير، حينما رفعت الشعار “عيش.. حرية.. كرامة.. عدالة اجتماعية”، إلى تقديم كلمة العيش عما عداها من متطلبات.. يحمل ذلك من المعاني الكثير، فمفهوم العيش مفهوم أساسي يرتبط بحياة الناس وضروراتهم الأساسية وحاجاتهم المعيشية، والذي يشكل اهتماما كبيرا حينما ينحاز عموم الناس لعملية التغيير في احتجاجات واسعة ليؤكدوا أن ذلك هو الشرط الضروري الذي استنفر هذا الظهير الشعبي في يوم جمعة الغضب؛ وانضم إلى شرارة الشباب في ثورة أطلقوها في يوم الخامس والعشرين. ورغم أن البعض قد يقلل من أهمية ذلك، إلا أن هذا الحث الاحتجاجي يشير إلى أن ذلك المطلب المعاشي هو مطلب جوهري، ويؤكد بعد ذلك على تمكين مفهوم الكرامة الإنسانية والحرية الأساسية والمعاني التي تتعلق بالعدالة الاجتماعية، ومن دون هذا الأساس المعاشي لا يمكننا بأي حال من الأحوال أن نحقق قاعدة راسخة لذلك المربع المهم بكل كمالاته وامتداداته.
وربما حاز الشعار بتركيبته تلك حينما يقدم نقدا غير مباشر للباحثين في علم السياسة والعلماء حينما يجعلون هذا الأمر شأنا ثانويا أو ينظرون إليه نظرة هامشية، ولعل هؤلاء حينما يركزون على مفاهيم سياسية تعلموها من مثل السلطة والانتخابات وعمل البرلمانات والدستور والأحزاب.. كل تلك المفردات ربما كانت محط الاهتمام من جانب بعض أهل الثورة، وهؤلاء الذين اهتموا بالسياسة بمعناها الضيق. ولعل عالم السياسة “آصف بيات” حينما كتب عن سياسات الشارع لم يكن يقصد إلا ذلك الاحتجاج؛ مشفوعا بمطالب معاشية واجتماعية قبل تلك المطالب السياسية المعتادة.
ولعلنا نذكر بتلك المعركة المفتعلة التي كانت بداية استقطابات خطيرة، وكانت افتتاحا لهذا الباب في معركة قبل الاستفتاء.. هل يكون الدستور أولا أم البرلمان أولا؟ بدت القوى السياسية تتشاجر بدلا من أن تتحاور حول هذين الخيارين: الدستور أم الانتخابات؟ وظل هؤلاء يتراشقون ويواصلون بالاتهامات المتبادلة التي تحرك كل نوازع الاستقطاب والانقسام، حتى سماها البعض بتعبير غير موفق، وكأنها الحرب (غزوة الصناديق)، ولم يفطن هذا الفريق أو ذاك إلى مواطن التنافس والتدافع الحقيقي داخل مساحات السياسة الضيقة، ولم يعرف هؤلاء أن ذلك التوافق الذي صنعه الميدان كان لا بد أن ينتقل من إدارة التنافس والصراع إلى إدارة التوافق والإجماع، ذلك الذي برز واضحا في الميدان ليعبر عن خطوط عريضة لهذا التوافق، ويحدد الطرائق التي يجب أن تسلك من هذا المقام لتحافظ على فرصة الإجماع الثوري والتوافق الوطني، إلا أنه تم استدراج هؤلاء وهؤلاء إلى دائرة السياسة الضيقة الدستور والانتخابات؛ متناسين وغافلين عن دائرة المعاش الواسعة.
هذا الأمر كان لا بد أن يفطن له الجميع، وعلى رأسهم الباحثون والدارسون والذين يدرسون في مجال السياسة، وانحصر النزاع في دائرة السياسة السلطة من دون الفطنة إلى السياسة المعاش. نعم إن تعريف السياسة الحقيقي أن السياسة هي معاش الناس، وأن معاش الناس هو مجال الخدمات والسياسات العامة، والذي يجب أن يتطرق كل صاحب سلطة ليتفهم وصفه بأنه “الخادم العام”. لم يفطن الجميع إلى أن هذه الساحة والمساحة هي الأجدر بالإجماع والابتعاد عن كل مكامن الصراع والنزاع، ذلك أن السياسة لا تنحصر في الاختيار بين الدستور والانتخابات، ولكنها تشير الى الطريق الثالث الذي يهتم بعموم الناس، وهو الأولى بكل اهتمام ونشاط وسياسة وقرار. ولعل أحد الشباب، حينما فطن إلى تلك المعادلة بين هؤلاء الذين يطالبون بالدستور أولا وهؤلاء الذين يناجزون عن الانتخابات أولا، قد كتب على صفحته يلفتهم بحدة وبشدة إلى أن الغلابة الفقراء أولا..؟!
أردنا بهذه المقدمة أن نتحدث عما فعل السيسي المنقلب بهذا الشعب الذي لم يجد من يحنو عليه، حسب تعبيرات مأثورة له وكلماته الخادعة؛ التي لم تكن تعبر سوى عن عملية خداع استراتيجي يتلهى بها الناس، بالحديث عن سياسة ليست هي جوهر السياسة. فحينما يتبع هذا المنقلب استراتيجية الترويع مشفوعة باستراتيجية التجويع، فإنه يضمن بذلك إحكام قبضة الاستبداد على طريق التركيع والتطبيع وتطويع هؤلاء ضمن تشكيل عقلية القطيع، وهو أمر يفعله المستبد في محاولة لتجويع يفرض حالة من التبعية ومنع الكلام أو الاحتجاج، حتى لو وصلت أمورهم إلى حالة من إفقار متعمد لا يطاق، ووضعه في خانة المعدمين، فيترك فريسة لتدبير معاش لا تنتهي حلقاته، وتبدو تلك المتتالية خطيرة بينما ينتقل الانسان المهضوم والمقهور من فقر إلى فقر ومن جوع إلى جوع، ولذا فقد أشار هؤلاء الذين درسوا الثورات إلى أن الحرمان المطلق لا يصنع الثورات، إنما الحرمان النسبي المقترن بالوعي هو الذي يشكل شرارة الاحتجاجات ومعامل الغضب في الثورات، على أن يقترن ذلك بالوعي القائم والرفض القاطع.
لعل هذا الأمر يحيلنا إلى عملية الاستخفاف الممنهجة التي يمارسها المستبد وزبانيته في متوالية الإذلال وصناعة حالة العبيد، وعلى هذا وجب أن نتطرق إلى هذا المشهد الخطير وما ترتب عليه مشهد رفع تذاكر المترو، والذي يشير إلى ثلاث علامات:
الأولى هي استخفاف المستبد بكل عموم هذا الشعب وضروراته الأساسية، ومحاولة إقناعه بالتحمل، وأن ذلك “يصب في مصلحته”، بل إنه لا يتوانى عن اقتناص كلمات ليؤكد أن هذا الرفع بشرائح متفاوتة ليس إلا تعبيرا عن العدالة الاجتماعية. أخطر من ذلك أن يشير الوزير إلى راحة ضميره فيما اتخذ من قرار.
الثانية ترتبط برد فعل الناس العفوي بحركة غضب فطرية واحتجاجات عشوائية؛ أرادوا بها أن يعلموه أنهم لن يتحملوا كثيرا وأنهم لن يحتملوا طويلا، وأن تلك السياسات مست عظام الأبدان وأعصاب الفقر الانسان، فقفزوا في تحد على بوابات الدخول لركوب عربات المترو، وقد حشدت السلطات الأمنية عرباتها المدرعة تخويفا وترويعا وتفزيعا.
الثالثة تتعلق برد فعل السلطة المستبد التي نشرت قوات الأمن في محطات المترو وقامت بقمع المحتجين، وكذلك بالقبض العشوائي على بعضهم وانتقت باعتقال بعض الشباب، كل ذلك في محاولة منها لتأكيد بطشها واستبدادها، ففي عرف هذه السلطة المستبدة الفاشية ليس للعبيد أن يحتجوا وليس للقطيع أن يخالف.
علامات ثلاث يتأكد منها أن شأن الثورة والاحتجاجات ومعامل الغضب، إنما ترتبط بجوهر معاش الناس. دعونا مرة لا ننتظر أن يأتي الناس، بل نذهب نحن للناس فنتفقد أمورهم وأحوالهم وضرورات معاشهم، فـ”السياسة معاش الناس”.. هكذا يجب أن نتعلّم ونُعلّم.