نشر المقال في “عربي21” بتاريخ: 29 مايو 2018

وصلنا إلى واحدة من أهم المحطات التي نتوقف عندها بهذا الحديث المطول حول النقد الذاتي؛ ما نتوجه به وإلى من نطالبه، وإلى بعض القضايا التي ترتبط بذلك، فهذا باب طويل وفصل مهم في ثورة يناير من الواجب أن يُكتب. وقد آثرت منذ البداية أن أبدأ بالنقد بالمجال الذي تخصصت في تدريسه والبحث فيه، ألا وهو السياسة وعلم السياسة. أصل إلى تلك المحطة التي أختتم فيها البداية حول النقد الذاتي في علم السياسة بالحديث عن نفسي والنقد الذي أراه جوهريا في ما أتوجه به إلى ما قمت به من أدوار وما تناولته من قضايا وما كونت فيه من مواقف وما أبديت فيه من آراء.

كنت في البداية أتحدث عما يمكن تسميته “بتنازع الأدوار” تخصصي في هذا الباب يعني أنني صاحب دور أكاديمي وعلمي وبحثي. هذا هو الدور الأول، أما الدور الثاني، فعالم السياسة لا بد وأن يقوم بدور سياسي يمارس من خلاله وظيفته الكفاحية، ينخرط في مجتمعه وأحداثه الكبرى، ومن ثم يشير هذا إلى الدور السياسي. والثالث هو دور تكتمل فيه حلقة الاتصال بعموم الناس، يتم ذلك إذا انفتحت ساحة إعلامية للكتابة في الصحافة أو في مساحة إعلامية، حينما يمكننا المشاركة في برامج إعلامية تناقش حالة الوطن وتتحاور حولها. أما الدور الرابع فهو دور حركي يتحرك بما يقتضي المقام، ينشط حيث يجب أن تتحول الفكرة لفعل وممارسة.. هذه الأدوار الأربعة هي أدوار قمت بها ما استطعت إلى ذلك سبيلا على تعددها وتنوعها، رغم أن بعضها قمت به بحكم الوظيفة والمهنة، والبعض الآخر وجدت الأحداث تسيّرني للقيام بدور ما، فهو دور في بعضه مفروض، ولكنه لم يكن من مثلي دورا مرفوضا، ومع هذا التعدد كان التنازع واردا والحيرة واقعة.

جاءت الثورة وكنت قبلها أقوم بدوري الأكاديمي داخل الكلية بكل جدية واعتزاز، أتفاعل مع طلبتي رغم أنني كنت أدرس مادة من تخصص دقيق وعميق، ألا وهو “النظرية السياسية”، وهو تخصص يصفه بعض الطلبة من باب استصعابه بأنه من المواد “الغلسة” التي قلما يتفاعل معها الطلبة التفاعل الواجب والتعاطي المطلوب. وقد عاهدت نفسي منذ أن وقفت موقف المدرس والأستاذ؛ أن أحرّض طلبتي على النقد وأن أوطن نفسي على قبوله. كان ذلك أهم تدريب عملي على النقد، وكنت أنقل عن أحد الأساتذة الذين درست لهم أن النقد فضيلة والنقل خطيئة. كان هذا التحريض بمثابة طاقة تحمل من جانبي لتحريض الطلبة على التفكير والنقد، بما فيها انتقاد كتاباتي وآرائي.

ربما أكون قد نجحت في ذلك، وربما كان الطالب أسير منهج من التلقي والتلقين، وكنت أحرضه على عكس ذلك. وإذا كان البعض قد فهم ذلك أنه مدخل للهجاء أو التجاوز، فكنت أوطن نفسي كذلك على قبول بعض من ذلك، متسامحا ما استطعت. واستمرت تلك المسيرة العلمية؛ أفعل ذلك بكل صدق، ولا أعرف مرة أنني هددت طالبا، بل إن أحد الطلبة قد تهجم عليّ ذات مرة وعذرته، وعرفت بعد ذلك أن هذا الطالب يمر بحالة نفسية.. رأيت الطالب كابن لي، لكنني أبدا لم أمارس سطوة أبوة، ومن ثم فإن نقطة ضعفي في تاريخي العلمي هي طلبتي عندما أردتهم أحرارا، وحينما أقابلهم وأراهم بعد ذلك في كل مكان أقدرهم وهم يقدرونني مساحات من الاحترام؛ ربما شابه بعض التجاوز.

مكمن النقد الذاتي في هذا الدور أن الطالب ربما كان يحس بأنني كأستاذ ما زلت أتحكم فيه من خلال عملية الامتحان، وهي في الحقيقة كنت أكرهها، وكنت أشعر بحال الإكراه والجبر في مثل هكذا عملية، فكان من المهم بالنسبة لي أن أدرب الطالب على التخلص من شعور الخوف والقهر الامتحاني؛ إلى حالة من التفاعل مع المادة في إطار حر يعرف فيه مسبقا أسئلة الامتحان، وممارسة الامتحان كأنه بحث. كان ذلك أمرا غير مألوف أو معتاد، حتى أن البعض قد اتهمني بأنني أقوم بتسريب أسئلة امتحاناتي للطلبة، ولم يكن يعرف أن ذلك أسلوبا تربويا، ولكنني أشهد أن تلك الطريقة جعلتني حرا أعلم الحرية لطلاب أحرار. هذا ما أردت وما استطعت، ربما يكون ذلك قد صادف نجاحا في بعض الأحيان وإخفاقا في أحيانٍ أخرى، لكنني تمسكت بهذه الطريقة على ما جرّته عليّ من مصاعب ومتاعب ومن استنكار البعض.

أما الدور الثاني فهو ذلك الذي يتعلق بمساحة السياسة والدور السياسي، وقد تربينا جميعا، بمن في ذلك الطلبة الذين أقوم بتدريسهم، أن باب السياسة محفوف بالعواصف، وأن المقولة الذهبية الحكيمة التي كان يرددها على مسامعنا الآباء والكبار، ممن اقتنصوا معنى الحكمة، هي “الباب الذي يأتي منه الريح سده واستريح”.. باب السياسة في عرف هؤلاء باب مسدود من الواجب أن يُغلق دون عموم الناس؛ لأنه لا تأتي معه إلا المتاعب وربما المصائب، وبدا لي أن هذا التحدي تحدٍ كبير، خاصة أنني من رُبيت على ذلك، إلا أنني بشكل مبكر تمردت على كل ذلك، خاصة أنني دخلت إلى الجامعة كطالب في أزهى عصور ازدهار الحركة الطلابية وامتداد مساحة تدافع الأيديولوجيات والاتجاهات السياسية، وصحف الحائط التي كان يكتبها الطلاب، يناقشون كل شيء وينتقدون أكبر رأس، حتى لو كان الرئيس السادات آنذاك.

بدا هذا الأمر بالنسبة لي تربية سياسية جديدة، حتى إنني أقول لكم وبصراحة أنني تعلمت من صحف الحائط شأن السياسة وممارستها أكثر مما تعلمته في قاعات الدرس ومواد الدراسة. وكان ذلك إيذانا بممارسة واسعة في ساحات السياسة، وذلك الدور السياسي الذي تعلمته وأنا طالب ضمن مدرسة الحركة الطلابية التي امتدت وازدهرت وكوّنت حالة من النشاط السياسي الواسع الذي كانت فيه الجامعات – بحق – مدارس للممارسة السياسية؛ لشباب واعد وناشط يعرف أن السياسية هي المعاش وأن السياسة هي القدرة على التأثير، وأن الشباب بما يشكله من طاقة إيجابية لا بد وأن يستثمر استثمارا طويل الأجل في عمليات تغير جذرية حقيقية وفي بناء مجتمع ونظام حكم أفضل. ومن هنا كان ذلك التحيز للطلبة، من خلال هذا الوسط الذي نشأت من خلاله أمارس حق الحرية وأقصى المعاني التي تفرضها قيمة الحرية، ومن هنا كنت لا أتوانى لحظة أن أعبّر عن ذلك المعنى حينما أتذكر أستاذي الدكتور حامد ربيع وتحريضه لعالم السياسة على ممارسة وظيفته السياسية الكفاحية.. أشكره؛ لأنه علمنا قيمة الحرية، وصرت أردد: “من علمني حرفا صرت به حرا لا لأكون له عبدا”.

يتوقف بي القلم عند هذا الحد لأستكمل مسيرة النقد الذاتي لأحوالي وأدواري.