نشر المقال في “عربي21” بتاريخ: 17 يوليو 2018
من المهم أن نؤكد أن الأدوار التي قمت بها أثناء الثورة لم تكن بشكل من الأشكال امتيازا لسلطة ما أو انتماء لحكومة أو نظام سياسي، ولكن من المهم أن تكون في كل مهمة عينك على المجتمع وطاقاته وشبكة علاقاته وتماسكه، ولذلك حينما عرض عليّ أن أكون منسقا لـ”لجنة العدالة الوطنية والمساواة” كان من المهم أن أستجيب لهذا الأمر؛ باعتبار أنه يقوي ما يمكن تسميته “العلاقة بين الدولة المجتمع”.
حينما عرض عليّ أن أكون منسقا لـ”لجنة العدالة الوطنية والمساواة” كان من المهم أن أستجيب لهذا الأمر؛ باعتبار أنه يقوي ما يمكن تسميته “العلاقة بين الدولة المجتمع”
ولا شك في أن شأن العلاقة بين الدولة والمجتمع وصياغة تلك العلاقة على نحو سوي؛ إنما يشكل أحد أهم الملفات المهمة حينما تكون هناك بوادر تغير كبير بعد حدث ثوري. الأمر المؤكد كذلك؛ أن هذا الملف يشكل معملا غاية في الأهمية لصياغة علاقات سوية وقوية بين الدولة والمجتمع. ومن هنا كان هذا الأمر الذي يتعلق بتشكيل تلك اللجنة التابعة لمجلس الوزراء، وذلك حينما أثيرت هنا وهناك ما سميت في ذلك الوقت تارة “فتنة طائفية” وما أسميناه بحق على مستوى حيادي وموضوعي “ضرورة مواجهة بؤر التوتر الديني”.
العلاقة بين الدولة والمجتمع وصياغة تلك العلاقة على نحو سوي؛ إنما يشكل أحد أهم الملفات المهمة حينما تكون هناك بوادر تغير كبير بعد حدث ثوري
كان ذلك الأمر في ذلك الملف يشير – وبحق – إلى إمكانات كبرى في إطار استراتيجية لعملية تغيير ممتدة تتعلق بهذا الموضوع الذي تناوله البعض من مدخل “الأقلية المسيحية”، وتناوله البعض الآخر في إطار “العلاقة بين المسلمين والأقباط”، ولكنه برز في وقت سابق وفي فترة سابقة عمل تراكمي في ما سُميّ “مشروع الجماعة الوطنية” الذي تبناه كل من المستشار طارق البشري والمستشار وليم سليمان قلادة، اللذان شكلا في هذا الوقت جناحين لمشروع الجماعة الوطنية، وضرورة البحث في كل ما يؤدي إلى التماسك والالتئام، وتنحية ذلك المدخل الاستفزازي الذي يتعلق بمفهومي الأقلية والأغلبية وسحبهما من مجال السياسة إلى نسيج المجتمع. ظلت هذه المفاهيم التي تستخدم وتفرق أكثر مما تجمع وتستنفر معاني الاضطهاد في الأقلية ومعاني التغول من الأغلبية، بل إن ذلك انتقل من مجرد طرح مسألة الأقلية في الداخل إلى عملية الاستقواء بالخارج في ما أسمي “أقباط المهجر”، وبات هذا مدخلا للهجوم على كل ما يتعلق بالحقوق المتعلقة بالثقافة السائدة التي تمثل قواعد لنظام عام داخل المجتمع.
ظلت هذه المفاهيم التي تستخدم وتفرق أكثر مما تجمع وتستنفر معاني الاضطهاد في الأقلية ومعاني التغول من الأغلبية، بل إن ذلك انتقل من مجرد طرح مسألة الأقلية في الداخل إلى عملية الاستقواء بالخارج
باتت هذه الرؤية المريضة من خلال مفهومي الأقلية والأغلبية أفكارا ترعى في نسيج المجتمع، وتؤدي إلى تمزيق أوصاله وتفكيك كل ما يتعلق بعناصر تماسكه ضمن شبكة علاقاته الاجتماعية، وباتت أحداث الفتنة الطائفية تقوم بأدوار متكررة في هذا المقام ضمن علاقة مشوهة بين السلطة والمجتمع.. ليس ذلك فقط، بل بين الكنيسة والدولة والمجتمع، وشكّل كل ذلك مساحات سلبية في تقوية علاقات الاستنفار للأقلية ومناهج العزلة واستنكار ثقافة الغالبية. وكان مشروع الجماعة الوطنية دفعا وتنحية لتلك الرؤية، وتأسيسا لرؤية جدية وجديدة تؤسس لجماعة وطنية تقوم على قاعدة مجتمعية؛ لا مفاهيم الأقلية والأغلبية، ومن ثم كان هذا المشروع الذي يتعلق بلجنة العدالة الوطنية والمساواة، وتدشينها من كل هؤلاء الذين اهتموا بهذا الملف تحت هذا العنوان الكبير؛ لإرساء إستراتيجيات العدالة وسياسات المساواة. وبالفعل شكلت تلك اللجنة مختبرا غاية في الأهمية للتمكين لهذه الرؤية، ضمن قيام هذه اللجنة بعمل مستقر ومستمر في هذا المقام.
وأصر هؤلاء، على اختلاف رؤاهم وأديانهم وتوجهاتهم السياسية ومواقفهم الفكرية، على أن يرسموا رؤية تتلاءم مع ذلك الاجتماع في الميدان في ثورة الخامس والعشرين من كانون الثاني/ يناير، فكان استلهاما من داخل الميدان من علاقات لا تميز بين المسيحي والمسلم ولا بين العلماني وأصحاب المشروع الاسلامي ولا بين الشباب والكبار.. مثّل الميدان بوتقة جمعت بين كل هؤلاء، وقدمت لهذا رؤية كامنة ناضجة في تأسيس لتلك العلاقات وفق أصول جماعة وطنية اجتمعت في الميدان على تنوع تكويناتها ومشاربها وتوجهاتها.. ثورة مصر في الخامس والعشرين من يناير في الميدان وسعت الجميع، واتسع الميدان ليجتمع فيه المجموع على تنوع كل من شارك، كان ذلك مشهدا استطاع أن يؤصل معنى ذلك المشروع وما تضمنه من استراتيجيات وسياسات. استلهم هؤلاء الذين كانوا أعضاء داخل هذه اللجنة هذه المعاني.. صحيح أنه كانت تطفو على السطح بعض الخلافات الشديدة والحوارات المحتدة، ولكن ظل الميدان برؤيته ملهما لمشروع الجماعة الوطنية ولحركة لجنة العدالة الوطنية.
مصر في الخامس والعشرين من يناير في الميدان وسعت الجميع، واتسع الميدان ليجتمع فيه المجموع على تنوع كل من شارك، كان ذلك مشهدا استطاع أن يؤصل معنى ذلك المشروع وما تضمنه من استراتيجيات وسياسات
انتقل ذلك الملف من كونه ملفا أمنيا اعتاد الأمن على أن يحتكره ويسيره كيفما شاء في عصر السادات ومبارك، وضمن علاقات غير سوية بين مؤسسات الدولة والمؤسسات الدينية، فكان من شأن تلك اللجنة إعادة صياغة هذا الملف وتسكينه؛ لا باعتباره ملفا أمنيا، ولكن بحسبانه ملفا مجتمعيا وتنمويا؛ يؤكد على الحقوق والمساواة أمام الدستور والقانون من دون أدنى تمييز. وأكثر من ذلك، إن هذا الملف بهذا التكوين قد حدد بدقة كل مصادر التوتر الديني وخريطة بؤره المختلفة، سواء في محافظات الصعيد أو محافظات الوجه البحري.. لجنة أساسية قامت بأهم رسالة ووظيفة في ما يتعلق بعمليات الإنذار المبكر، وعمل الشباب المسلم والمسيحي ومن التيار الإسلامي والتيارات الأخرى السياسية في هذه اللجنة؛ بأريحية تمثل كل معاني الميدان في الاجتماع والجامعية، وكأنهم كانوا يقلبون صفحات مشروع الجماعة الوطنية في كتابها المعتمد، ليجعلوا ذلك واقعا مترجما على أرض مصر بمختلف محافظاتها. وتدخل هؤلاء بأحداث قد تقع بكل رشد وحكمة.. حكمة الشباب التي فاقت كل التوقعات للعمل في هذا الملف.
بل إن هذه اللجنة في الإنذار المبكر شكلت بتقاريرها المتوازنة والمعتدلة؛ البحث في عمق الظاهرة والإشارة إلى مداخل لحلها، ليس فقط في أرض الواقع ولا في ميادين التوتر الديني، ولكن أيضا ضمن المسار الحقوقي والتشريعي، ومحاولة جبر قصور العلاقة بين الدولة والمجتمع والمؤسسات الدينية؛ بحيث عولجت هذه القضية من كافة جوانبها.. من جانب السياسات والمؤسسات والعلاقات، وشكلت بذلك وعاء ممثلا في لجنة العدالة الوطنية والمساواة في الإطار المبكر عملا اجتماعيا متميزا عملا ناجحا على خطورته وحساسيته، وانتقل به من دائرة الأمن وتحكم السلطات إلى دائرة المجتمع وصياغة العلاقات وفق أصول الجماعة الوطنية قيما ومبادئ وفي إطار من الفاعلية المجتمعية.
أردت من هذه التجربة أن أؤكد على القدرة على التعاطي مع تلك الملفات على نحو يتسم بالفاعلية والقدرة على مواجهة الأزمات، ليمثل ذلك صفحة في نجاح مشروع الجماعة الوطنية
أردت من هذه التجربة أن أؤكد على القدرة على التعاطي مع تلك الملفات على نحو يتسم بالفاعلية والقدرة على مواجهة الأزمات، ليمثل ذلك صفحة في نجاح مشروع الجماعة الوطنية، وهو ما يشير ومن كل طريق إلى كيفية نجاح الشباب والكيفية التي توضح من جانب معاكس فشل الكبار، وكذا المؤسسات الدينية، بعد ذلك، والذين قاموا – للأسف الشديد – ليس فقط بمحاولات تعويق ذك النجاح، بل في أحايين كثيرة بالعمل على إفشال ذلك المشروع، ليتوج ذلك – للأسف الشديد أيضا – في حالة استقطاب حاد وانقلاب عسكري متكامل الأركان. فما الذي حدث بعد كل هذه الفاعلية والنجاح؟!