نشر المقال في “عربي21” بتاريخ: 14 أغسطس 2018

في مقالات سابقة، أشرنا إلى أن رابعة كاشفة فارقة.. كاشفة عن نظام انقلابي فاشي، وعن نظام يتحكم فيه العسكر لا يتعامل إلا بلغة السلاح ولا يعرف غيرها. السياسة لديه أن يلوح بسلاحه ويوجهه إلى صدور شعبه.. يفعل ذلك لأن تلك مفرداته، لا يعترف بصناديق الانتخاب ولا نتائجها، ولكنه فقط يعرف لغة صناديق الذخيرة وبنادقها.. لا مجال لمخالفة أو احتجاج، من مارس ذلك لقي حتفه إما حرقا أو خنقا أو بإصابته في رأسه أو سويداء قلبه، يقتنصون البشر وكأنهم أهداف يتدربون عليها، يقومون بكل ما من شأنه أن يشكل استخفافا بالنفس الإنسانية ولا يقيمون لها وزنا..

ورابعة أيضا فارقة.. فارقة بين من يدخل في جنس الإنسانية، ومن خرج منها فصار كالأنعام بل هم أضل، وكالحجارة بل هم أقسى، ذلك أن هؤلاء الذين حرضوا على الدماء، وأغروا بالنفوس وقدموا التفويض للتصريح بالقتل تحت دعاوى كاذبة زائفة، قد فقدوا كل معاني الإنسانية، فكان ذلك فارقا وفرقانا بين هؤلاء الذين يدخلون في جنس الإنسانية، وبين هؤلاء الذين فقدوها وفقدوا كل ما يتعلق بتكريمها، وشكلوا غطاء للمستبد لاستباحة النفوس وقتلها.. رابعة أيضا، وفي سلسلة النقد الذاتي ناقدة، شكل هذا الحدث الكبير نقدا بيّنا واضحا لكل أحوال الاستبداد، وكل عورات المجتمع وكل تغولات الدولة، وأوضح أيضا أن بعض هذه النخبة أو معظمها رسبوا بامتياز في اختبار الإنسانية، وكشف كذلك عن بعض قصور يتعلق بتفكير الحركة الإسلامية وممارستها.

أما عن نقد المجتمع، فقد كشف عن أمراضه وعن توتر شبكة علاقاته المجتمعية، وترهل كثير من قيمه التأسيسية بفعل ما اصطنعه المستبد من صناعات الاستقطاب والفرقة، ومن صناعة الكراهية التي مزقت كثيرا من خيوط شبكته المجتمعية ومست أعصابه الاتصالية، وقطعت كثيرا من روابطه المجتمعية، فاستبدل كل عناصر التماسك بكل مسالك الفرقة، وصادر لحمته في اختبارات شتى، وبات هؤلاء بعد كل مجزرة بشرية يشمتون في بعضهم البعض وينتظرون قتلهم، بل قد يفرحون ويمرحون، في حالة مرضية خطيرة طالت هذا المجتمع، فأورث كثيرا من الإحن ومظاهر الانتقام.. وبنى المستبد جُدرا من الكراهية ومن الآلام لا يمكن أن تلتئم بيسر ولا أن تندمل بسهولة.. صار المجتمع في حالة بائسة يمرح فيه المستبد كيفما شاء، ويؤكد أنه قد نجح مع كل عناصر الإرهاب المحتمل الذي أراد اصطناعه، فضرب كل قيم المجتمع التأسيسية في مقتل وانقسم الجميع إلى شعوب شتى وأحزاب متفرقة ورؤى متصارعة، وبات المجتمع بعضه يمزق بعضه.

فكانت رابعة بكشفها عن كل ذلك وفرقانها بين قيم المجتمع الأساسية وبين أخلاق الاستبداد الضالة ناقدة بحق بل ناقضة لكل ما يتعلق بتماسك الجماعة الوطنية وشبكة علاقاتها الإنسانية، وأورثنا كل ذلك حالة من الكراهية وانتظار الثأر والانتقام وانتشار روح الشماتة التي بدت معملا لفرقة المجتمع وقواه، ليمكن المستبد لنفسه في مساحات فرقة هذا المجتمع وتشرذمه، فهل آن للمجتمع أن يعيد تشكيل أجهزته بما يحقق لحمته ويمكن لعناصر تماسكه؛ حتى يستطيع أن ينتقم من خصمه الحقيقي الذي يتمثل في ذلك المستبد الذي اصطنع هذه الحال، وأوصل المجتمع إلى أخطر مآل ووضعه على حافة الحرب الأهلية والاقتتال؟ هل يستطيع هذا المجتمع أن يستعيد منظومة قيمه وفضائله ليعالج كل ما فعلته دولة الاستبداد وطغيان المستبد من أخطاء وخطايا؟

رابعة ناقدة لكل صنوف النخبة التي مكنت للمستبد ولتحكم العسكر بدعوى الحفاظ على الشرعية والمجتمع، فداسوا على كل شرعية ومزقوا المجتمع بكل قواه وكياناته، وقاموا بما هو أخطر من ذلك؛ بالتبرير للعسكر قتلهم وللاستبداد طغيانه وللدبابة أحكامها، فساعدت للأسف الشديد بقتل بعض قواها المدنية وشجعت المستبد بعد ذلك للتغول على كافة القوى المدنية على اختلاف توجهاتها، وصارت معملا لعسكرة المجتمع بأسره وكافة مؤسساته، بل وفتحت الطريق واسعا للمستبد العسكري الفاشي أن يختطف مؤسسات المجتمع، وأن يوجهها كيف شاء لمصالح مقيته وأغراض دنيئة معتمدا على فساد الدولة العميقة، فتحقق له ما أراد، وخرجت النخبة خالية الوفاض، وطال بعضها قانون العكسر، فألقى ببعضهم بعد أن وظفهم في صناديق القمامة مطبقا نظريته في “الكيلنيكس”. وأخطر من ذلك، أن تدور الدائرة فيطول بعضهم القتل ويهجم على بعضهم بالاعتقال، وتمخض الأمر عن حالة كراهية متبادلة، وبدت النخبة في أسوأ أحوالها، إذ بدلت الثورة ومعطياتها، والمجتمع وقيمه، ومكنت لكل صنوف الاستبداد وطغيانه، فاستحق هؤلاء “لعنة رابعة” حينما برروا المجزرة أو حرضوا عليها، وباتت النخبة لا تستحق هذا الاسم، فلم تعد تستأهل من بعض اسمها إلا ما تبقى من حال انحطاطها.

رابعة ناقدة لهذا القضاء الذي سوغ لكل ظلم وجور، ولكل قهر وطغيان، فقد صار جهاز القضاء بكل تشكيلاته أداة من أدوات الاعتداء والعدوان على حياة الإنسان. وإذا أردت على ذلك دليلا، فإن من قام بمجزرة رابعة حر طليق من عسكر وأجهزة شرطة، وأن من يحاكم في قضية رابعة هم من نجوا من القتل فيها، فما مارس القضاء إلا عملا خطيرا حينما يوطد للظلم أركانه ويترك القاتل ويصدر أحكاما بالإعدام على من تبقى من الضحايا. إنه القضاء الذي شكل أحد أركان الطغيان، وحرّض على قتل الإنسان وأعدم العدل في كل مكان. رابعة ناقدة كذلك لإعلام حرض على الكراهية، وبرر لكل طاغية، ونشر الفرقة في كل ناحية، وبات يحرض ويمكن للاستبداد من خلال خطاب يقوم على النفاق والتطبيل، حتى لو أن المشهد لم يكن إلا مزيدا من إراقة دماء وقتل أبرياء، وبات هؤلاء تلعنهم رابعة من قبح أداء، وأدى بهم ذلك إلى إراقة مزيد من دماء.

رابعة ناقدة حتى لهؤلاء الذين أرادوا أن يحموا المسار الديمقراطي، فاجتمعوا في رابعة وتركوا السلطة لأهل السلطة.. يعبثون بها، يقومون بمذابح شتى ومجازر متفرقة، وفي كل مرة كان هؤلاء يستعدون ليكونوا ضحايا في مشهد قادم.. لم يديروها معركة حقيقية مع هؤلاء الذين كشروا عن أنيابهم وأرادوا أن يجهضوا ثورتهم، فانشغلوا بأفعال عن أفعال، وبعمل عن عمل أولى، وعن مواجهة للخصوم، وبات كل هذا عنوان غفلة وتقصير.. رابعة تقول لكل هؤلاء: كونوا من المهارة والفطنة للتعرف على الخصوم، والخصوم في عسكر فاشي وطاغية مستبد.. رابعة تذكرنا بتضحياتها أن علينا أن لا ننسى القصاص، وأن نقوم بكل ما من شأنه الحفاظ على إنسانية مجتمع وعلى قدرة أمة، فلن يفلت المستبد ولن يفلت القاتل، نداء رابعة لا يموت، كاشفة فارقة ناقدة.