نشر المقال في “عربي21” بتاريخ: 19 أبريل 2019
تقوم الأنظمة المستبدة بكل عمل يرسخ مسار استبدادها وطغيانها، وكأن هؤلاء المستبدين يقرأون من كتاب واحد “كتاب الطغيان والاستبداد”. وهم إذ يقومون بذلك، لا يستنكفون أن يتخذوا من مسائل تتعلق بالديمقراطية أغطية زائفة؛ يحاولون من خلالها أن يزوّروا إرادة الشعوب، وأن يقوموا بكل عمل ما من شأنه تكريس شبكات الطغيان والفساد. ومن الخطير حقا أنهم يجعلون من المسألة الدستورية مساحات لفعلهم الاستبدادي، رغم أن الدساتير، باعتبارها عقودا اجتماعية وسياسية، جُعلت وصيغت من أجل أن تشكل قواعد وحدود وكوابح على كل طغيان واستبداد.
فهؤلاء جعلوا حتى من الدستور ألعوبة في منظومتهم الطغيانية، وصار العبث بالدستور طقسا متكررا يقوم به المستبد وقتما شاء وأنى شاء وكيفما أراد. والمستبد يرى في نفسه أنه جدير بحكم شعبه أبد الآبدين، وكأن حياته خالدة لا تنتهي، ومدته مدة مطولة لا يمكن لأحد أن ينال من حكمه طالما أراد. هذا هو التصور الذي يتعلق بتعديات دستورية يقوم بها المستبد، عبثا بكل قواعد الدستور، في محاولة منه لأن يجعل حكمه مزيدا وممددا مؤبدا، ثم يقوم بعد ذلك زبانيته من “ترزية الدساتير” (وهم أعتى وأشد من “ترزية القوانين” الذين يقومون بتفصيل قواعد قانونية على مقاس أشخاص)، بتصميم الدولة ونظامها على مقاس شخص بعينه، وفق أهوائه ورغباته، ووفق قاعدة المستبد “أحلام سعادتك أوامر”. هذا هو حال الدستور الألعوبة الذي يعتبر المستبد أن كلمته هي الدستور، وأن مشيئته فوق القانون.
يحاول المستبد أن يمكن لكل أمر يتعلق بسياساته ومواقفه بما يؤكد تفرده وبما يرسخ وجوده على كرسي السلطة، لا يأبه بأحد، ويستخف بكل معارض، ويعصف بكل كلمة احتجاج تحاول أن تعبر عن احتجاج أو الصدع بكلمة “لا” في مواجهة هذه الأهواء الباطلة والأفعال الباطشة، فيزداد أمره بطشا، ويزداد حاله استخفافا. ومن هنا، تبدو كل عملية من المقاومة الفاعلة التي تحاول أن تجعل من اصطفاف الناس في مواجهة المستبد الطاغية؛ عملا جوهريا في صياغة أي فعل تحرري وأي عمل تغييري. في هذا السياق، تأتي حملات عدة، وتأتي حملات التطمين (اطمن أنت مش لوحدك) لكل مواطن بعد محاولة الطاغية أن يكرس جمهورية الخوف وحالة من التفزيع والترويع وصناعة حال القطيع. ولكن الأمر قد لا يقف عند هذا، فإن كسر جدار الخوف من عموم الناس هو عمل سياسي ومجتمعي؛ يقوم على قاعدة من الوعي بعملية التغيير والتعبير والقدرة على ممارستهما، ومن ثم فإن إطلاق حملة “باطل” في ما يتعلق بمواجهة التعديات الدستورية ومسألة العبث بالدستور؛ إنما هي من الأمور المهمة التي تؤكد على حقائق كثيرة.
إن الثورات التي تفجرت في موجتها الثانية كحراك رأيناه في السودان وفي الجزائر؛ إنما يشكل في حقيقة الأمر أهم سند وداعم لحملة “باطل” التي تؤكد أن إرادة الشعوب هي التي يمكن أن تواجه المستبد؛ وكل أهوائه التي يحاول من خلالها أن يجعل عموم شعبه عبيدا له، وأن التعبير عن هذه الحراكات إنما هو عملية تحرير لمواجهة ذلك المستبد وإسقاطه والتأكيد على ضرورة التخلص من كل منظوماته التي تحاول أن تمكن لاستبداده وطغيانه. ومن هنا، فإن هذه الثورات التي رفعت شعار “النصر أو مصر” إنما تشير في حقيقة الأمر إلى حالة البطلان والخسران التي ترتكبها مسيرة الانقلاب في مصر، وكتاب انقلاب العسكر الذي صار أمثولة في هذا المقام، والذي يحاول من خلال هذه التعديات الدستورية أن يؤبد حكم المستبد حتى العام 2034. بل هذه من المسائل التي تؤكد أن النظام المستبد يستخف بإرادة الناس وحقهم في المعرفة. فالتعديلات وحتى هذا التاريخ، والتي ربما سيستفتى عليها بعد أقل من عشرة أيام، لم تعلن صياغتها النهائية بعد.. وخرجت الحملات لتقول نعم لهذه التعديات الدستورية من غير معرفة بها.
إن هذه التعديات الدستورية في جوهرها ليست إلا انتهاكا للأصول والقواعد التأسيسية الدستورية، في إطار التأبيد والتمديد لصاحب سلطة، خروجا على مبدأ تأقيت السلطة وتداولها، وكذلك انتهاكا لكل المبادئ التي تتعلق باستقلالية مؤسسة القضاء وهي محاولة تسويغ حكم العسكر وانقلاباتهم ضمن نصوص دستورية تعطي للعسكر حق مراقبة وتقييم الحياة السياسية والمدنية. ومن السخرية، بل والمسخرة، أن يقوم العسكر بمراقبة الديمقراطية. أخطر من ذلك، أن هذه المادة التي تتعلق بمدة السلطة هناك مادة أخرى لا تجوز تعديلها، ولكنها حال عبث المستبد بكل أمر والاستخفاف به، من قواعد دستورية أو إرادة الشعوب.
ومن هنا، فإن حملة “باطل” التي أتاحت لهذا الشعب أن يعبر عن إرادته بكامل حريته، للتصويت والاستفتاء على تلك التعديات ورفضها، والتأكيد على بطلانها وبطلان كل عمليات المستبد، وكل ما تقوم به المؤسسات المختطفة تحت إمرته.. كانت هذه الحملة، وقد جمعت حوالي 300 ألف صوت للتأكيد على بطلان هذه التعديات، لتعطي للنظام درسا واضحا فاضحا حول قيامه بعمليات تزوير كبرى لإرادة الشعب والتعبير عنها. إن هذا النظام المزور يقوم بعملية تزوير كبرى من المنبع إلى المصب، بدءاً بصياغة هذه التعديات والاستفتاء عليها، وصولا إلى التزوير لكل الإجراءات الاستفتائية، وبلا أي ضمانات حقيقية. ولا يمكن بأي حال من الأحوال لهذا الوضع وعلى هذا النحو؛ إلا أن يجابه بكلمة واحدة هي “باطل”، لتشكل صفعة لهذه المنظومة الاستبدادية وتلك السياسات التزويرية التي صار يحترفها ذلك النظام المستبد وزبانيته ومؤسساته المختطفة.
إن “باطل” ككلمة تسع الجميع، وتسع اصطفاف إرادة الشعب في التعبير عن حقه في رفض المستبد ومنظومته والتعديات غير الدستورية التي يحاول تمريرها والتغرير والتزوير في عملياتها.. تأتي “باطل” لتفضح هذا النظام وتؤكد للجميع أن هذا النظام يتملكه الرعب والخوف من أي عملية احتجاج، ومن كلمة “لا” التي تدور على الألسنة وتشكل حقيقة كبرى في مواجهة طغيان هذا النظام، فقام النظام بحجب موقع الحملة لأكثر من خمس مرات، وهذه هي المحاولة السادسة، لنخوض معركة نفس طويل مع هذا النظام الذي يحاول أن يكبت كلمة تعبر عن إرادة شعب، فيكون هذا الكبت من جملة بطلان هذا النظام الذي لا يتحمل أي اجتماع أو تجمع شعبي أو اصطفاف الناس حول كلمة “باطل” التي تعبر في حقيقة الأمر عن منظومة باطلة، وهو ما يؤكد أن “باطل” التي تتردد في جنبات البلاد ومن كل فرد يصدع بها؛ تقض مضاجع النظام، وتجعل هذا النظام المرعوب في حال ارتباك.
ولا يقولن أحد أن التعديلات “التعديات” الدستورية ستمر أيا كانت الأمور، ولكن التعبير عن إرادة الشعب بقولة “باطل” لا يرتبط بتعديات دستورية ولا بموعد استفتاء، وستظل الحملة شاملة مستمرة دائمة تعبر عن معركة نفس طويل مع هذا النظام، وعن بطلان تأسيسه ابتداء وعدم شرعيته انقلابا، وبطلان سياساته بيعا وتفريطا، فهي سياسات استبداد فاشي تتعلق بالترويع والتفزيع والإفقار والتجويع.. حملة باطل مستمرة ما استمر هذا النظام الباطل.