نشر المقال في “عربي21” بتاريخ: 1 أكتوبر 2019
إن هذه الأحداث والاحتجاجات التي تمر بها مصر في الجمعتين الماضيتين، وتفاعل الجماهير مع خطاب المقاول والفنان محمد علي، ما هي إلا تتابع لأحداث الثورة التي انطلقت في 25 كانون الثاني/ يناير 2011 وحتى الانقلاب العسكري في 3 تموز/ يوليو 2013، فهي ليست حالة منفصلة بل هي استمرار لهذه الروح.
فالفترات الانتقالية التي مرت بها مصر بين فترة حكم المجلس العسكري وحتى فترة حكم الدكتور محمد مرسي تؤشر على ثلاث ملاحظات مهمة، أولاها أن الحالة الثورية أو الاحتجاجية في مصر هي حالة مستمرة وغير متوقفة، ذلك أن أشواق التغيير لم تنته وجذوة الثورة لم تنطفئ. أما الملاحظة الثانية فهي أن المضادين للثورة فعلوا كل ما بوسعهم لطمس ذاكرة ثورة الخامس والعشرين من يناير، ومارسوا أقصى درجات الحصار والتشويه، إلا أن ذلك لم يفلح في وأد هذه الحالة الثورية أو كتابة صحيفة وفاتها. فالاحتجاجات باقية تقض مضاجعهم، وهتافات الثورة لا زالت تطلقها الحناجر ممتلئة بالإرادة وبالإصرار.
وحينما أكدنا بعد أن خرج علينا المنقلب ليسمي ثورة يناير بالأحداث، تقليلا من شأنها وتهوينا من آثارها، فإنه اليوم يطلق عليها وصف المؤامرة إيذانا ببدء معزوفة من إعلام إفكه بوصفها بالمؤامرة وأحداث الفوضى. وقال المنقلب بملء فيه أنه لن يسمح بتكرار ما حدث في العام 2011 مرة أخرى، فكان ردنا عليه سريعا “الثورة ليست بسماحك”. وكان هذا الشعب باحتجاجاته مؤكدا أن إرادة الشعب في التغيير لن يطمسها أحد ولا يقوى على ذلك، وهو ما يؤدي بنا الى الملاحظة الثالثة، وهي أن الاحتجاجات غير الخائفة والتي تشكل حالة صمود؛ تعطي مجموعة من الرسائل المهمة، وهي أن جموع الجماهير لا تزال موجودة ويمكن أن تخرج وتستأنف ثورتها، وقادرة على مواصلة الخروج للتعبير عن إرادتهم في أمل التغيير.. وفي نفس الوقت هذا أصاب المضادين للثورة بالهلع من معادلة التغيير التي لا تزال تطل علينا وتؤكد وجودها.
فعلى الرغم من كل ما قاموا بفعله وأقدموا على الإنفاق عليه بلا حساب، إلا أن الجماهير لا تزال قادرة على الخروج للتعبير عن إرادة الأمل والقيام بفعل التغيير. صحيح أن استئناف الثورة قد يكون أمرا أصعب في الآونة الراهنة من ابتداء الثورة، إلا أن الاحتجاجات الأخيرة في جمعة العشرين من أيلول/ سبتمبر كانت بمثابة صفعة لكل هذا الحلف المضاد للثورات في داخل مصر وللداعمين لها من الإقليم والخارج.
ونود هنا أن نشير إلى أمر غاية في الأهمية في ما أطلقنا عليه “نظرية الساقين”، والتي تعني ضمن ما تعني؛ كيفية صناعة عمل متلائم ومتناسق بالجمع بين الساحة الثورية والساحة السياسية، وكيف يمكن أن تخدم الساحة السياسية وتدعم وتساند الساحة الثورية لبلوغ أهدافها الكبرى ومقاصدها العليا، وهي بذلك تدشن العمل المستمر للقيام بكل ما من شأنه تمكين عمليات إحياء الثورة.
صحيح أن قائد الانقلاب (المنقلب السيسي) استطاع أن يصنع حالة من الخوف الشديد بين المعارضين وعموم الناس في الداخل، وذلك عبر تبنيه استراتيجيتين؛ استراتيجية الإفقار والتجويع واستراتيجية التخويف والتفزيع، بما يهدف في النهاية الإبقاء على حالة القطيع، واستطاع خلال الست سنوات الماضية أن يصنع شرعنة زائفة قد تمكن لمنظومته الطغيانية والفاشية لنظامه. فالشرعنة الزائفة هنا ليست أبدا كالشرعية الحقة والمستحقة.. الشرعية الحقيقية تستند على الداخل، فتنال رضا الناس والمجتمع من المواطنين والمحكومين. أما الشرعنة الزائفة فتستند على الخارج والانبطاح لتحقيق مصالحه، حتى لو كانت على حساب جملة مصالح الوطن الأساسية والجوهرية، فإن قام الإقليم وكذا الخارج بدعمه وشرعنة نظامه، في إطار منحه قاعدة من الثقة مع الخارج على حساب الداخل، والتمكين لنفسه ونظامه، بالرغم من حالة الفاشية التي ينتهجها.
بداية الأحداث في مصر منذ حوالي شهر تقريبا كانت بخروج شخص مقاول وفنان؛ كان يتعاون مع قادة البيزنس في الجيش لفترة طويلة في المشاريع الإنشائية، ورتب لعملية خروجه، وقام بممارسة خطاب فضح فيه الفساد الذي يقوم به قادة الجيش والمقربون من السيسي وزوجته.. وقد اتسم خطابه بيسر وصوله للجماهير، وبلغته السهلة والبسيطة التي تفاعلت معها كل أطياف الشعب، مستلهما التركيز على معاش الناس وتحقيق ضرورات حياتهم وعلى أنماط من همومهم، وكأنه استقر في وجدانهم. وما أراه صحيحا ومهما أن معنى السياسة هو معاش الناس، هذا أصل السياسة؛ التركيز على شارع الناس والانخراط في مشاكلهم والاهتمام بآلامهم وآمالهم.
نظام السيسي أحدث قاعدة واسعة من الغضب، فتلك القاعدة هي ليست فقط من المنتمين للثوار أو المعارضين، بل امتدت أيضا لقطاعات ورجال أعمال كانت محسوبة على النظام في يوم من الأيام، وهذه دلالة ومؤشر على أن سياسات النظام قامت من خلال سياسات الاستحواذ والاحتكار بتشكيل “مصانع الغضب” في جهات مختلفة ومساحات متنوعة؛ قد تنفجر في أي وقت.
وعند قراءة المشهد بعمق نستطيع أن نقول ببعض من الاطمئنان إن هناك صراع أجنحة داخل النظام قد اندلع، على الرغم من أنه لا يزال مستترا في مكوناته وغائما في أهدافه، إلا أن الأمر الأقرب لتفسير هذا إنما يكمن في أن السيسي ربما أصبح عبئا على كل هؤلاء، فالفاعل الأول في المشهد هم زبانية السيسي والمقربون إليه والمنتفعون من بقاء السيسي، وكذلك المشاركون معه في جرائمه. أما الفاعل الثاني فهم ممن كانوا محسوبين على النظام وتضررت مصالحهم؛ والتي تمثلت ولا تزال في توسع الجيش في المجال الاقتصادي، مما انعكس سلبيا على مصالح الكثير من رجال الأعمال، وهو ما ولد حالة من الاحتقان والتذمر من حالة البلطجة الاقتصادية التي يمارسها قادة البيزنس في الجيش، وهو ما يمكن أن يعتبر أحد المؤشرات على وجود قطاعات كانت تعمل من داخل النظام أصابها حالة من عدم الرضا، وطالها أمر غير يسير من الإضرار بمصالحها.
أما الأمر الجلل فهو اختطاف السيسي لمؤسسات الدولة، بما فيها القوات المسلحة. فالسيسي اختطف مؤسسات الدولة وجعلها تعمل لصالحه وتمكينه على كرسي فاشيته وطغيانه؛ فانتقل من مؤسسات الزينة (دولة كأن) الى مؤسسات الضد لخدمة مصالحه الآنية والأنانية على نحو خطير على هذه المؤسسات ومستقبلها، مما كرس إدراكا لدى البعض في تلك المؤسسات أن السيسي قد أصبح عبئا عليهم وتهديدا لهم.. هذا الفاعل الثاني في المشهد، أما الفاعل الثالث فإنما يتمثل في الإقليم والخارج الداعمين لموقف السيسي المضاد للثورة، إذ يقوم بالحفاظ على مصالحهم الاستراتيجية. وعلى رأس هؤلاء الكيان الصهيوني وأمريكا والإمارات والسعودية، دون اعتبار لمصالح مصر وأمنها القومي. أما الفاعل الرابع، فهم الناس والشعب، وهو الفاعل الذي إذا تحرك سيتحول إلى رقم صعب، والمحرك الرئيسي في المشهد الذي لا يزال شبابه، بل والذين كانوا أطفالا عندما اندلعت ثورة يناير وشبوا عن الطوق، يحملون ويحلمون بأمل التغيير والتخلص من حال بؤسهم.
هذا هو مسرح المشهد بكل عناصره ومقوماته لحراك الجمعتين.. وعن الجمعتين حديث آخر يحمل في طياته المعنى الأكبر بأن عجلة التغيير قد دارت، وأن حاجز الخوف على فاشية النظام قد كُسِر، وأن الشعب أكد أن الثورة لا زالت تسكن بين جوانحه، وأن استئناف الثورة أمر صعب وليس باليسير، ولكنه ليس مستحيلا، وأن إحياء الثورة قابل للاستئناف.. ولحديث الجمعتين مقال قادم في جملة الأحداث الكاشفة الفارقة.