نشر المقال في “عربي21” بتاريخ: 10 ديسمبر 2019

من الأهمية بما كان أن نشير إلى أن المستبد قد يحاول من خلال معان معينة يقوم على بثها ونفث سمومه فيها، ليؤسس لكل ما يؤدي إلى تمكين سلطانه وتثبيت كرسيه. وهو في هذا الشأن لا يستحي أن يقوم بقلب الكلمات أو التلاعب بمعانيها أو وضعها في غير سياقها أو مقامها، فهذه من ألعاب المستبد وزبانيته؛ يقوم بها ما استطاع وتقوم عليها أجهزة إفكه ومن حملة المباخر لديه، لترويج خطاباته الذي لا تتعدى في حقيقة الأمر أن تكون إلا كلاما خبيثا مسكونا بفائض السلطة، أو كلاما مسموما يبقى في جوفه السم القاتل الذي يقوم بقتل الكلمات بتزييفها وتشويهها، قبل أن يقتل النفوس من خلال هذا الاستخدام الزائف والمعاني المزورة.

أقول ذلك بمناسبة كلام المنقلب السيسي عن “المناعة” ومناعة المجتمع والدولة. فالمناعة التي يريدها بالنسبة لهذا البلد ويروج لها، ليست إلا كلمات من فائض قوله لتعبر عن فائض سلطانه وقبيح طغيانه وصناعة استبداده.

إن مفاهيم مثل المناعة، كمفاهيم عضوية، تشير إلى أن الجهاز المناعي أو جهاز المناعة هو منظومة من العمليات الحيوية التي تقوم بها أعضاء وخلايا وجسيمات داخل جسم الكائن الحي، بغرض حمايته من الأمراض والسموم والخلايا السرطانية والجسيمات الغريبة. وكذلك الأمر الذي يتعلق بالخلايا العادية الحية والخلايا السرطانية، والتي تتحول مع خبث المرض إلى افتراس كامل للكيان وإنهائه وموته.

إن ضعف جهاز المناعة يؤدي إلى الإضرار بالجينات المسؤولة عن نمو الخلايا، وهذا بحد ذاته يكون أحد الأسباب التي تحفز ظهور الخلايا السرطانية.. سرطنة الكلمات إنما تعبر في حقيقة الأمر عن عملية تزييف كبرى تستخدم كل الأساليب الاستبدادية في وضع الكلمات في غير موضعها، والمعاني في غير مقامها. فالحديث عن المناعة على سبيل المثال وعلى لسان المستبد ليس إلا حديثا إلا عن التمكين لانهيار المناعة، والحديث عن الخلايا الحية في واقع الأمر ليس إلا استبدالا من جانبه بالخلايا السرطانية التي تفتك بالإنسان وبالأوطان حتى تجعلهما في النهاية جثة هامدة.

إنه فعل المستبد في مجتمعه، ها هو السيسي الطاغية يتحدث حديث المناعة الزائف في مؤتمر للشباب، ومن قبل ذلك في جولته لافتتاح بعض المشروعات في محافظة دمياط في محاولة منه أن يزيف رسائل يوصلها لعموم الناس؛ ويجعل من حدث الثورة انهيارا للمناعة، رغم أنه في حقيقته هو عنوان المقاومة وجوهر تحصين المناعة للكيان والمجتمع، وحركة التغيير المعبر عن الأمل وصناعة المستقبل.

ومن هنا يبدو لنا ذلك الخطاب من المستبد الطاغية كعملية ممنهجة ومنظمة، والذي يتحدث عن مفردات تتعلق بالوطن والوطنية والحفاظ على البلد والدولة، والكلام عن مقاومة الإرهاب ومواجهته..

قال المنقلب الطاغية “إنه لا يوجد تحد بالخطر على مصر إلا من داخلها، مشيرا إلى أن الإرهابيين قادرون على تدمير وتهديد بلادهم.. أنا مش هستنى يبقى عندي خطر وأنبهكم بيه. وهفضل أكرر الموضوع دا علشان يكون عندنا مناعة إن حد يخلينا نهد بلدنا وندمرها”.. “مناعة الدولة المصرية ستبقى دائما تحت أعيننا.. لن ينسينا فيها أحد.. سنبقى حريصين على مناعتنا.. مناعة الدولة المصرية في 2011 تأثرت.. ستقولون إنه كان حراكا شعبيا، صحيح، لكن الحراك الشعبي هذا هدفه إضعاف قدرة الدولة الوطنية. أقول للمصريين: إما الاستسلام للإرهابيين من أجل تحقيق غرضهم بالوصول لحكم مصر، أو الوقوف في وجههم.. هكذا هو الصراع بينا وبين الإرهابيين”، إلا أن ذلك الخطاب ومعانيه لم تكن في حقيقة الأمر إلا تعلقا باختطاف مؤسسات الدولة، والقيام بتقويض وظائفها باسم حمايتها؛ وهو في واقع الأمر يجعلها في حالٍ من انهيار المناعة أو عدم قيامها بوظائفها الأساسية، ويجعل من الاستبداد وطغيانه حماية للدولة ومقاومة للإرهاب، والحفاظ على الوطن والتعبير عن الوطنية.

زيف في إفك في افتراء؛ يقوم به المستبد حتى يمكنه مواجهة كل ما يتعلق بتهديد لسلطته أو الاحتجاج على سياساته. يقول المنقلب، وفي طبعة الوعي الزائف الذي يريد تمريره: “لما بنتكلم بنتكلم عشان التحدي.. ومفيش تحدى خطر على مصر إلا من داخل مصر، وأرجو أن تنظروا للمنطقة حولكم.. وعندما يتحرك الناس قادرين يهدوا بلادهم.. مفيش حاجة عندي.. وأنا هستنى عشان يبقى عندي.. وهفضل أكرر حتى يصبح عندكم مناعة ضد هدم البلد.. هفضل أكرر عشان أبقى قدام ربنا عملت اللي عليا مع الناس في مصر وفهمتهم خطورة أي تحرك”.

وكأن المناعة في عرفه أن يمنع بسلطاته كل حركة أو حراك وتمتنع كل مظاهر تتعلق بالاحتجاجات أو إبداء الرأي في سياساته الباطشة، أو ما يتعلق بتعامله الفج بارتكابه أفظع انتهاكات في حق الإنسان تحت عنوان زائف بالحفاظ على الإنسان، فيقتل ويعتقل ويختطف قسريا ويطارد ويُلجئ الناس إلى المنافي ويتابعهم بأجهزته الباطشة ويلفق لهم التهم الزائفة، هذا ديدن أجهزته الأمنية حينما تقوم بكل ذلك فيسميه هو المناعة، ويتحدث بعد ذلك عن ضرورة صناعة وعي زائف لدى الجيل الجديد، حتى لا تضيع البلد وحتى لا يتكرر ما حدث من أحداث في العام 2011، يقصد بذلك ثورة يناير.

ظننته وهو في مؤتمره المزعوم للشباب سيتحدث مثلا عن تلك المناعة التي تحصن الشباب ضد أحداث انتحار؛ إذ تتراكم وتتوالى علينا الأخبار بشكل يومي عن حالة أو حالات هنا أو هناك، ولكن ذلك لا يهمه. فمن باب عملية القتل الكبرى وتحويل الوطن إلى سجن كبير يسعد المستبد، حينما يرى هؤلاء قتلى ويرى الجميع في قبضته داخل هذا السجن وتحت تهديده وحراسته.. هكذا يرى المستبد المناعة. فأين هي حقيقة المناعة؟ وأين هو زيف الاصطناع والصناعة الذي يقوم به المستبد ليحرك وعيا زائفا ويحدث حالة من غسيل المخ الجماعي، ويقوم بعمليات ممنهجة للتسميم السياسي، فيمرر الكلمات ليقتل بها ويبطش من خلالها ويشكل طغيانه من حروفها؟

إن صناعة الزيف الاستبدادي ضمن هذا الخطاب إنما يؤكد ضرورة المواجهة لفضح هذا النظام وفضح كل ألاعيبه الكلامية وتزييفه للمعاني، واغتصابه وقتله للكلمات على نحو متعمد يستبيح فيه قتل النفوس واستباحة الأرواح من بعد، وسجن الوطن بأسره لتحويل مصر كلها إلى “مصر المغتصبة” أو “مصر المخروسة” أو “مصر المحبوسة”. إنها صنعة المستبد الطاغية تحت عنوان المناعة الذي يريد أن يروج لهذا الخطاب المغشوش.

نقول ذلك للاعتبار الذي يتعلق بصناعة الاستبداد والمستبد وأول تلك الصناعة الاستبداد بالكلمات، فيعطيها غير معانيها ويقصي منها كل معنى حر، ويضفي عليها كل غطاء زائف يتعلق بالعبودية وصناعة القطيع. إنها المناعة الزائفة التي يريد فيسهل معها انتشار السرطان الاستبدادي وانهيار المناعة الحقيقية، فيتمكن من تحويل خلاياه الحية للمقاومة إلى خلايا سرطانية خبيثة تفتك بكيان الوطن والمواطن معا.