نشر المقال في “عربي21” بتاريخ: 14 يناير 2020
يعتبر مبدأ سيادة الدول من المصطلحات المهمة في القانون الدولي العام وفي علم السياسة. في إحدى المحاضرات المهمة التي ألقاها علينا أستاذنا المرحوم الدكتور عز الدين فودة، عميد القانون الدولي في مصر وأستاذ كرسي، عن السيادة وعلاقة ذلك بالنظام الدولي والقانون الدولي في قاعات الدرس؛ حاول أستاذنا أن يصحح مفهوما قاصرا للسيادة حينما تتلاعب به القيادات المستبدة وتحاول أن تجعل السيادة كلمة المستبد، ولكنه في حقيقة الأمر يرد السيادة إلى أصلها في سياق استناد معنوي وأسس مادية.
فحينما يؤكد أن السيادة هي إرادة الدول حيال دول أخرى في إطار المنظومة الدولية؛ إنما يؤكد على معنى السيادة وارتباطها بالإرادة السياسية والوجود الكياني والأمن القومي، وهي كذلك تشير إلى عناصر مادية “أرض صلبة وعناصر مائية وموارد غازية ومجال فضائي”. فالسيادة تتأسس من تلك العناصر المادية وممارسات الحفاظ والحماية لها؛ وهي تعني ضمن ما تعني الصلاحيات التي تعد حقوقا للدولة ممارستها في النطاق الإقليمي لها، كحماية الحدود، والحفاظ على الأمن، وغير ذلك.
وحينما تأملت هذا الأمر واسترجعته ونحن بصدد أمور تتوارد على الوطن مصر، في ظل منظومة السيسي الانقلابية؛ فإن هذه المنظومة في حقيقة الأمر قد فرطت في العناصر المعنوية السيادة، كما أنها كذلك بددت وفرطت في العناصر المادية لها، ثم تمسكت بالسيادة من غير موجب تحت غطاء مفهوم زائف للسيادة؛ يدير بها السيسي معارك مفتعلة وحروبا متوهمة حتى يشرعن نظام حكمه الانقلابي، ومن ثم وإن لم أكن معنيا في هذا المقال بأن أكتب عن نقد مفهوم السيادة ضمن ممارسات حكم السيسي، وإن كان هذا أمرا من الأهمية بمكان، فإنني معني بالحديث عن مربع العناصر المادية التي شهدت تفريطا يبدو للعيان أنه تم في إطار عقد اتفاقيات ظالمة للوطن، موارد ومقدرات، وتنازل عن بعضها وفرط في بعضها استسهالا، فخان القسم وخان الأمن القومي. إن رباعية التفريط إنما ترتبط بالرباعية المادية، قد ينازعنا البعض في الحديث عن العناصر المعنوية للسيادة، ولكننا سنتحدث في هذا المقال عن مؤشرات دامغة مادية تتعلق بعناصر السيادة التكوينية، من أرض وماء وغاز وفضاء.
النظام قد فرّط في كامل الوطن بحدوده المائية والبرية وموارده الغازية، وكل ما يتعلق بهذه العناصر وارتباطها بالأمن القومي والمصالح العليا للوطن
أي أن هذا النظام قد فرّط في كامل الوطن بحدوده المائية والبرية وموارده الغازية، وكل ما يتعلق بهذه العناصر وارتباطها بالأمن القومي والمصالح العليا للوطن. أول هذه الأمور هو التفريط والتنازل عن تيران وصنافير للسعودية، وثانيها هو قضية ترسيم الحدود مع قبرص واليونان واسرائيل، فأضاع مقدرات الغاز وموارد مصر المائية، وثالث هذه الأمور هو التفريط في مياه النيل من خلال اتفاق مبادئ عقده في العام 2015، وقد طار فرحا بذلك، فلم يكن إلا مدخلا لتعنت إثيوبي أدى في النهاية إلى فشل كل المفاوضات وتهديد أمن مصر المائي. أما الأمر الرابع فهو عقد إسرائيل اتفاقا سريا (كما كشفت عنه مجلة نيوزويك) مع النظام الانقلابي المصري، لاستباحة المجال الجوي المصري فوق سيناء للقيام بعمليات عسكرية، في ما يسميه أهل سيناء بضربات “الزنانة” أو الطائرات بدون طيار، أو حتى من خلال أسلحة إسرائيلية أخرى.
ماذا يعني مربع التفريط هذا، وما يقوم به هذا النظام باتفاقات مهينة تهين كل العناصر المادية للسيادة لهذا الوطن وتستهين بها؟ وإذا أردت أن تفتش عن هذه الاتفاقيات جميعا فسترى أن طرفا وحيدا ثابتا مخفيا أو ظاهرا، وهو الكيان الصهيوني، ربما يكون خلفها جميعا. ورغم أنني لست من أنصار نظرية المؤامرة في تفسير ما يقع من أحداث، إلا أن إسرائيل تطل علينا في كل اتفاق بمشاهد من التنازل والتفريط لتكون طرفا واضحا أو مخفيا في هذه المسائل جميعا..
فإسرائيل طرف في تيران وصنافير اللتين تنازل عنهما النظام المنقلب لمصلحتها استراتيجيا وأمنيا.. وإسرائيل طرف في اتفاق الغاز؛ فبعنا لها الغاز ثم اشتريناه منها بعد تنازل مشبوه، ثم عُقد اتفاق مؤخرا لينحي مصر جانبا ويهدر مواردنا الغازية. كذلك فإن ماء النيل والحصة المائية لا يزال يلوح بنقلها لإسرائيل.
إذا أردت أن تفتش عن هذه الاتفاقيات جميعا فسترى أن طرفا وحيدا ثابتا مخفيا أو ظاهرا، وهو الكيان الصهيوني، ربما يكون خلفها جميعا
يُعلن النظام الانقلابي عن ذلك في كل مرة من طرف خفي، ولكن ذلك يبدو أنه في إطار عملية تفريط متعمدة. سيكون ذلك من الأمور المطروحة على مائدة التفاوض، وهي مقايضة ربما سيقوم النظام الانقلابي بترويجها باعتبار ذلك حلا لمشاكلنا المائية.
أما الأمر الرابع فإنه يتعلق باستباحة مجالنا الجوي في سيناء، فتتعامل النظام في صمر بالقوة الباطشة مع أهل سيناء، ويتعامل العدو الإسرائيلي بالدخول إلى مجالنا الجوي بأريحية شديدة ضمن اتفاقات سرية تحت غطاء مكافحة الإرهاب وأمن اسرائيل.. أي تفريط هذا يمكن أن يمارسه نظام في حق وطنه وحدوده ومقدراته وموارده وأمنه القومي؟
من تفريط إلى آخر تسير مقدرات مصر تحت حكم نظام لا يسعى إلا إلى تأمين مصالحه الآنية والأنانية وسلطاته واستمراره حتى لو كان ذلك على حساب الشعب المصري، مستهدفا الماضي والحاضر والمستقبل..
إن هذا النظام بالنظر الى جرائمه وفي نظر حتى مؤيديه؛ يمكن وصف إجراءاته في كارثة سد النهضة بالإهمال الذي أدى إلى إفقار مصر مائياً. وعلينا أن نذكر بتنازله عن جزيرتي تيران وصنافير رغم صدور حكم من المحكمة الإدارية العليا، ولنذكر بقصة ترسيم الحدود مع دول أخرى أضاع مواردنا الغازية بدم بارد لمصلحة دول أخرى، ولنذكر بما يحدث على أرض سيناء ضمن اتفاقات سرية أشارت إليها صحف أمريكية.. ماذا يمكننا أن نصف ذلك إلا باعتبار هذا النظام الذي عقد تلك الاتفاقيات المضيعة للحقوق والمفرطة في الموارد؛ بأنه خائن للأمانة؟ ولا يمكن لخائن أمانة أن يعمل للحفاظ على مقدرات البلاد ومصالحها الحقيقية.
ونحن على أعتاب ذكرى ثورة 25 يناير، نؤكد أن هذا النظام لو استمر ستصير مصر فاقدة السيادة، دولة مستباحة في مواردها وفي مقدراتها، بل وفي حدودها وفي عناصر سيادتها المادية
لا تزال هذه الأمور تعبر عن حالة خطيرة من خيانة الأمانة لهذا النظام؛ وهذا الاتهام يطول كل المؤسسات التي وافقت على ذلك أو أسهمت فيه، أو حتى صمتت عليه وكان من واجبها الاعتراض. ومن المهم أن نقوم في هذا السياق بعمل ملفات اتهام لهذا النظام بمعظم مؤسساته التي شاركت في تلك الجرائم التي تتعلق بالتفريط والتنازل والتساهل في عقد هذه الاتفاقات المهينة، حتى يكون ذلك الملف تحت أعين الجميع، وحتى يصدق السيسي على كلمة قالها “أنا لو ينفع اتباع لاتباع”.
ونحن على أعتاب ذكرى ثورة 25 يناير، نؤكد أن هذا النظام لو استمر ستصير مصر فاقدة السيادة، دولة مستباحة في مواردها وفي مقدراتها، بل وفي حدودها وفي عناصر سيادتها المادية.. يا سادة هذه هي القضية. وعلى كل القوى الوطنية وجموع الشعب المصري أن تجد المخرج من هذا النفق الذي أدخلنا إليه نظام السيسي، ولن نتمكن من ذلك إلا بالعمل سريعاً وسوياً على فضح هذا النظام والعمل على إسقاطه، الأمر الذي يراه الكثير من المصريين المخرج الوحيد لإنقاذ ما تبقى من مصر، أرضاً ووطنا، شعباً ومواطنا، نيلاً ومقدرات وموارد.