نشر المقال في “عربي21” بتاريخ: 6 مايو 2020
تمرّ على مصر أيام أشبه بالكوابيس المفزعة والأحداث المفجعة؛ وتتوالى علينا الأخبار دماء من بعد دماء، ومقتولا بالسجن ومقتولا في سيناء، وتبدو هذه الأخبار تتكرر بين فترة وأخرى لتشكل حال مصر المأساوي في ظل حكم هذا الانقلابي الذي لم يعد يكترث للدماء المسفوكة أو الشباب الذي يقتل هنا وهناك، فليس لديه أي مانع من أن يحدث ذلك وبلا جريرة ارتكبوها طالما أنه على كرسيه يمارس استبداده وطغيانه.
وهذا المشهد من المؤسف يأتي بذات “السيناريو”؛ فحينما تبدو هذه الحلقة المفرغة من دماء تسال من بعد دماء، لم يعد من طقس يمارس حولها إلا شارة سوداء توضع على فضائيات والحديث عن شهداء. وتأتي التصفيات الجسدية وأشياء أخرى لتؤكد على استمرار هذا الحال من المآسي المتوالية التي صرنا نتعايش معها ولا نفتح الباب واسعا لنجيب على السؤال: من المسؤول عن ذلك؟ من المسؤول عن إراقة الدماء على هذا النحو حتى تفقد الأرواح بهذه الأعداد الكبيرة ضمن خطاب يتحدث عن إرهاب وعن سيطرة عليه منذ سبع سنوات، وعن انتهائه أو إضعافه وفق تصريحات صدرت منذ قرابة السنتين ولا أحد يسأل عن تلك الدماء؟!
إن هذه الأحوال التي تتوالى علينا تترى إنما تشكل فرضا واجبا علينا أن نتبصر بالبحث عن أسبابه ودواعيه. فليس هناك أحد يعلو على السؤال والمساءلة، ومن أمن المحاسبة استهان بكل شيء حتى النفس المحرمة والروح البشرية المكرمة. نعم نقول وبأعلى صوت إن كورونا ليس الفيروس الوحيد الذي تجب مواجهته!!
يشهد المجتمع المصري منذ الانقلاب حركة واسعة من تجريف القيم، وأول قيمة يتم الاستخفاف بها والعدوان عليها هي النفس الإنسانية، وبتنا نتعامل مع هذا الأمر بأشكال مختلفة ضمن مسلسل الموت الذي لا ينقطع. وحينما أتى كورونا وحصد الأرواح انتفض الناس لمواجهته، ولكن هناك فيروسات أخرى تحصد الأرواح ولا ينتفض الناس لمواجهتها، وفي كل مرة تحدث المقتلة وتتكرر المهزلة ولا أحد يطالب بالإجابة على السؤال: من المسؤول؟!
إن أكبر فيروس أصاب هذا المجتمع وأصاب نظام الحكم فيه هو “فيروس السيسي” الذي قام بتجريف كل شيء، والتفريط في كل أمر، وتخريب مقدرات العباد والبلاد، وأخطر ما ارتكبه هذا الفيروس هو استخفافه بالأرواح طالما أمن الحساب وأمن هو من العقاب. هذا الفيروس الخطير ورثناه من حالة انقلابية وأذرعها الإعلامية التي تواصل الحديث عن قدراته الخارقة وعمله المتواصل، فتكرر على مسامعنا كل يوم هذه المعزوفة الزائفة.
فإذا كان الأمر يتعلق بفيروس كورونا بالتنبه إلى خطره وانتشاره، فإن فيروس السيسي وخطره لا يلقى نفس الاستنفار الذي يجب أن يكون؛ وهو الذي استهدف المجتمع في مفاصله وإنسانه، ومواطنه في كرامته وعزته وحريته، وبات الأمر الذي ينشغل به وتنشغل به بقية أجهزة الدولة حالة من التبرير والتزوير وصناعة الزيف الكبير، وتشكيل الرضا الكاذب في صناعة كبرى لمستبد فاشي صارت صنعته الاستخفاف بكل أمر؛ حياة إنسان، وأرض وطن، ومقدرات بلاد، وشريان حياة نيل مصر متمثلا في مياهه.
كل ذلك يجتمع وفيروس السيسي لا يزال يمرح ويسرح من غير تنبيه عن خطر يمكن أن يهدم المجتمع في بنيته وقيمه ومقدراته. بل إن هناك من يزين لهذا الفيروس ويؤكد أنه المنقذ والمنجز، فيقلب الأمور ويمرر الخطر ليسري في كيان المجتمع، وهو يعمل على إفنائه وتخريبه.
وها هو فيروس الفرقة والاستقطاب صنعة المستبد يقوم عليها ليرسخ أركان طغيانه وسياسات استبداده، فبيئة الفرقة هي خير وسط يرعى فيه المستبد ويمرح. إن الاستبداد لا يتمكن إلا من خلال مساحات تفرقنا وتشرذمنا وتمكن فيروس الاستقطاب منا، وضمن هذه الحال يكون لهذا الفيروس وفيروسات أخرى نشر الكراهية وخلق حالة من حالات الوطنية الفاشية القائمة على التزييف؛ وهو أمر أدى إلى المساس بلحمة الجماعة الوطنية وتماسكها.
ومس هذا الفيروس عصب المجتمع في الصميم، وفتك بشبكة علاقاته المجتمعية، ووطّن للأمراض المقوضة لمناعة الكيان ومقاومته. يرعى فيروس الكراهية في المجتمع إلى الحد الذي قسم الشعب شعوبا؛ وحاول تصنيف الناس في هذا المجتمع وفقا لمعايير وأوصاف تحاول التبرير لمقتلة مستمرة؛ من أهل الشر الذين يستهدفون الوطن.
وفي حقيقة الأمر إن التنبه إلى حال العصابة التي اختطت عسكرة المجتمع أسلوبا، واختطفت الوطن رهينة وهيمنة على مؤسساته، يكشف أنها الفيروس الخطير الرهيب الذي تفشى في الكيان الاجتماعي وأصابه في مقتل. وإذا أردنا أن نعدد الذراري من فيروسات الانقلاب والفيروسات التي استهدفت المجتمع والدولة معا واستهدفت الإنسان والكيان والعمران، وهدمت القيم والأخلاق، فإننا قد لا نستطيع الإشارة إليها جميعا، لأن ذلك في حاجة إلى دراسات كثيرة توضح المخاطر والأضرار التي أثرت على المجتمع ومفاصله وبنيانه، بحيث تمكنت تلك الفيروسات من عصب المجتمع وربما طالت عموده الفقري.
وإذا كانت هذه الأمور جميعا تشكل جملة من فيروسات تستحق المواجهة، فإن المؤشرات الدالة والحوادث المختلفة التي تفوح منها الرائحة الموت؛ من جراء تلك الفيروسات التي تمكنت من المجتمع وفتكت به، شاب قضى في سجنه في مقتبل شبابه (شادي الأحزان)، مات في زنزانته، وما خاف من سجنه بقدر ما خاف من وحدته، مات نتيجة إهمال طبي متعمد ومتكرر.
فالسيسي لا يأبه لشباب مُلئ بالأمل واستهدف التغيير؛ فذهب يطارد هذا ويعتقل ذاك ويصفي هؤلاء. فماذا ارتكب شادي إلا أنه مخرج فني وُضع في سجنه الاحتياطي حتى قتل قتلا بطيئا متعمدا في زنزانته بسجن طرة؟
وها نحن نواصل مسلسل الموت فيموت ويصاب من ضباط وجنود في سيناء في بئر العبد، ويتكرر المشهد بشكله المعتاد بلا أي إجراءات تتعلق بالحماية والحفاظ على الأرواح، وكأن هؤلاء أرسلوا إلى حيث يلقون حتفهم. فمن يحاسب ومن يتحدث عن المسؤولية عن هذه المقتلة؟
ومن عفن هذا النظام الانقلابي الذي يفضح ويكشف سوءات وطنيته الفاشية المزعومة، أنه استبعد أحدهم وطرده من الشهادة لا لشيء إلا أنه أشير إلى أنه له رأي مخالف، فنزعوا عنه التكريم بعد أن قُتل. هكذا يتصور هؤلاء ضمن سلوكيات فاضحة لوطنية فاشية مزعومة مفزعة، فتدور دائرة القتل الجهنمية من خلال تصاعد اتهامات بالفشل. وبشهادات موثقة، يُجمع معتقلون في سيناء ويصفون جسديا؛ فهم الإرهابيون، قد انتُقم منهم هذا النظام الانقلابي حتى يداري فشله في مواجهة هذه العمليات في سيناء. وها هم أهل سيناء ومن أبنائهم ومعتقليهم من يُقدَمون قربانا في محاولة لتغطية هذا الفشل، وها هو الانقلاب قد جعل من سيناء وأهلها ضمن ممارسات نظام فاشل وفاشي؛ أرضا للمظالم والمظاليم، وصارت سيناء خارج التغطية.
إنهم يقتلون سيناء ويجعلون أهها يكفرون بالوطن! من إذا يمكنه أن يُوقف دوامة الدماء المحمومة؟ من يمكن أن يواجه تلك الفيروسات التي تفتك بكيان الوطن والمجتمع؟ ماذا عن شأن هذه العصابة التي تحكمت وصارت فوق الحساب؟ فيروسات كثيرة لا تزال تفتك بهذا المجتمع، فكورونا ليس الفيروس الوحيد الذي يجب أن يقضي عليه المجتمع. فالسلطة المستبدة تظهر عوارنا وعوراتنا، والفيروسات تفتك بكياننا، والمجتمع العتيد الرشيد هو الذي يحفظ قيمنا وفضائلنا.. “طول ما الدم المصري رخيص يسقط يسقط كل رئيس”.