نشر المقال في “عربي21” بتاريخ: 26 مايو 2020
المواطنة من أكثر المفاهيم تعلقا بصياغة العلاقة السياسية بين الحاكم والمحكوم، بين العلاقة بين السلطة والمواطن، بين مسألة هي ركن ركين في صياغة العلاقة السوية بين الدولة والمجتمع، وصياغة مفهوم للسلطة يتعلق بوظائفها وجوهر أدوارها، ومفهوم للمواطنة يتعلق بكامل حقوقها والتعبير عن التزاماتها.
ومن ثم فإن محاولة صياغة مفهوم للسلطة ومفهوم للمواطنة وممارسات وسياسات تتعلق بهما في إطار علاقة السيد بالعبد؛ والتغول المستمر والمستقر والدائم من السلطة على المواطن، إنما تشكل في حقيقة الأمر صياغة المفهومين ضمن حالات وسياقات وممارسات ومؤسسات وعلاقات، وقبل كل ذلك مفاهيم وإدراكات لصياغة وترجمة حالة من العلاقات الاستبدادية والفسادية والإفسادية، وتوابع ذلك من تمكين شبكات الاستبداد ومؤسسات الفساد.
ومن المسائل التي تشيعها السلطة المستبدة لتمكين طغيانها وسياسات استبدادها؛ خلط متعمد بين مفاهيم الدولة والسلطة والنظام السياسي والحكومة وجهات ومؤسسات الإدارة العامة؛ والتماهي المتعمد بين تلك المفاهيم ومؤسسات وممارسات السلطة القابلة للمحاسبة والمساءلة.
ومن ثم بدا لي أنه من الضروري قراءة المجتمع كنص؛ نص الإدراكات، ونص المفاهيم، ونص الخطابات، ونص السياسات، ونص المؤسسات، وأخيرا نص شبكة العلاقات على تنوع مستوياتها وتعدد أطرافها.. وإن قراءة النص المجتمعي يمكن أن تعكسه مصادر غير تقليدية ومادة معلومات مختلفة، يغلب على معظمها فكرة “اللقطات” أو “المشاهد” من خلال حادثات تبدو فردية، ولكنها بالنظر العميق غير ذلك، وبالنظر الدقيق فهي إن لم تمثل ظاهرة فإنها تؤشر عليها، وهي لقطات كالبؤرة المجمعة للصورة والعدسة اللامة للحدث وبلُّورته.
قد يقول البعض إنها أحداث فردية؛ ولكن المواطنة تشير إلى نماذج تكرارية داخل نص المجتمع، وهذه الأحداث تعد أحداثا كاشفة وفارقة على فرديتها، قد لا يماثلها حتى لو قام الباحث ببحث ميداني مع اتساع مساحته أو عينته. الأحداث الكاشفة أو “اللحظة النماذجية” كما يسميها أستاذنا المرحوم الدكتور “عبد الوهاب المسيري”، إنما لا تشكل مجرد حادث عابر، بل هي تعبر عن حدث كاشف وفارق واضح وربما فاضح، يميط اللثام عن المستور وربما المكبوت من باب القهر على المسكوت والإجبار على الصمت. وهو شعبة من المسكوت عنه؛ تقوم في مسألة الخطاب على ساقين تحكم بهما سلطة الاستبداد: توزيع الكلام والسكوت قهرا وجبرا بشكل مباشر أو غير مباشر؛ أم الساق الثانية فإنها تتعلق بالرقابة أو الإيحاء بها على الخطاب والكلام.
نعم قلت إن الأمر في بحث المواطنة لا يحتمل تلك الرطانة المعتادة التي تستر حال المواطن والمواطنة أكثر مما تكشفهما. كيف نبحث إذن عن الزحف، وممارسات السلطة باعتبارها تشكل احتكارا لتمثيل الدولة فيه، وتأميم الدولة لأي مساحات من الفاعلية المحتملة والتغول عليها ضمانا لسيطرتها وهيمنتها؟ وكيف نبحث عن حال المواطن في كل هذا؟! كيف تمارس هذه الأمور ضمن فكرة “المعرض” التي أشار إليها تيموني ميتشيل في كتابه “استعمار مصر”، حينما يشير إلى أن الدولة القوية قد لا تكون ورثت الدولة في الغرب، بل ورثت بنية الاستعمار التنظيمية والنظامية. وهذه مفارقه جعلت الدولة في فاعليتها الاحتكارية لا قدرتها على استيعاب عناصر الإرادات المتعددة والقوى المتجددة من دون عنف، وكل الأمور التي تشير إلى استيعاب الصيغ التقليدية والصيغ الحديثة في التعددية السياسية.
فكرة المعرض فكرة رئيسية يستكشف من خلالها ميتشيل المناهج الخاصة للنظام والحقيقة.. هو عام يبدو كل شيء فيه منظما ومرتبا كما لو كان شيئا معروضا أمام مراقب، يترافق معه تمثيل واقع خارجي. لا يشير الاستعمار في حركة المعرض إلى مجرد واقع وجود استعماري أوروبي، بل إلى تطور مناهج جديدة للسلطة السياسية. ويبين الكتاب أن هذه المناهج الاستعمارية هي جوهر كل سلطة سياسية حديثة، ويقوم الكتاب على تحليل لطبيعة هذا النوع الجديد من السلطة..
إن جميع التحولات الاستعمارية التي يعد بها إدخال “النظام” و”المعنى” كانت في الوقت نفسه مجالات لخلق هذا الواقع الجديد للسلطة. إن إعطاء مفهوم للسلطة ربما سيكون أكثر سلطوية؛ لأنه سيدّعي لا محالة أنه القويم والسليم، بذلك سيضمن بل ويمارس قهرا ملحوظا. فالتعريف ليس فقط هو تحديد العلاقات بين الدال والمدلول، وإنما هو فرض المفاهيم على الأشياء، وحينما نقول إن المفاهيم تبنى على الأرض لا نغادر الحقيقة.
إن خطاب السلطة ونصوصها لا يشكل الوضوح الهدف الأساسي له، بل على، العكس يسعى إلى تعتيم وتضبيب الرسالة عن طريق خلق الصيغ اللغوية المضادة والملتبسة، من أجل قطع الطريق على كل جدل عقلي أو معارضة منطقية؛ وذلك لأن هدفه الرئيس ليس الإقناع والمجادلة وإنما الانصياع والخضوع والطاعة العمياء لصالح المتكلم.. فخطاب السلطة شامل ونهائي ولا يحتاج إلى تعليق، فكلما “تقلصت قيمة الرسالة الدلالة، زادت قدرتها عن الإقناع”..
ولذلك، كانت السلطة مؤسسة على السكوت أو ما هو في حكمه لا على الحوار؛ ويبقى السيد “صاحب السلطان” (في النهاية) دائم الحضور والمراقبة لتوزيع الكلام، وتحديد المواطن الصالح، وشكل العملية السياسية والتعامل. حضور القائد رمزيا في كل مناسبة يزيد من وزنه، ويجعله أكثر قدرة على السيطرة والاستمرار. صاحب السلطة لا يمنع أن ينظر إلى أولئك الذين هم أدنى منه أنهم مجبرون على التوسل إليه وسؤال خاطره في كل لحظة؛ “بمعنى أنهم لا يتعين عليهم وحسب أن يفعلوا ما يأمرهم به، بل عليهم كذلك أن يفكروا كما يريدهم هو أن يفكروا، وفي أغلب الأحيان يكون من الواجب عليهم أن يستبقوا أفكاره استجلابا لمرضاته”..
وضمن هذا، فإن السلطة تطلب من المواطن “التمثيل” الذي فُرض عبر مجرى التاريخ على الأكثرية الساحقة من البشر، ونعني بهذا “الأداء العلني الذي يفرض على أولئك الأشخاص أن يؤدوه..”. إن “فكرة التمثيل” تكمل فكرة “المعرض” في الظاهرة، لكنها تفرز أيضا عملية الخطاب المستتر لوصف الخطاب الذي يدور خارج إطار خشبة المسرح؛ أي فيما وراء الرقابة المباشرة التي يمارسها أصحاب السلطة. وأحيانا يبرز خطاب يُحدث شرخا في سطح الصمت والتوافق في عملية التمثيل.. إنه خروج على النص؛ نص السلطة المفضل وربما المعتمد والوحيد بحيث تجعله “كتالوجا للمواطنة الصالحة” كما تتصورها السلطة، وتحاسب من خلال ذلك المواطن على ممارساته ضمن علاقة مفترضة تقوم على العلاقة بين السيد والعبد.
إنها أمور من الأهمية بمكان حينما ندرس خطاب السلطة والمجتمع كنص بصدد موضوع المواطنة، والذي يعبّر عن الإطار القانوني والسياسي لممارسة حقوق المواطنة وتحمُّل واجباتها على أرض الواقع.. ومفهوم المواطنة يتطلب وجوده إقرار مبادئ، والتزاما بمؤسسات، وتوظيف أدوات وآليات تضمن تطبيقه على أرض الواقع. المواطنة (وفق هذا التصور) بنية من المستلزمات والمقومات، وبنية فكرية وقيم، وبنية حقوقية ودستورية وقانونية، وبنية مؤسسية، وكذا بنية تتعلق بالسياسات والممارسات. وهي من المفاهيم الشاملة، والتي تستدعي غيرها من مفاهيم حقوقية وسياسية.
المفهوم بهذا الاعتبار “مفهوم منظومة” يشير إلى الحقوق الإنسانية الأساسية، والحقوق المدنية والسياسية، فضلا عن الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وكذا الحقوق الجماعية، وهي تتعلق بكافة مجالات النشاط الإنساني (الشخصي والخاص والعام والسياسي)، وهو أمر نتابع فيه المقدمات المهمة في النظر المتجدد لمسألة المواطنة.