نشر المقال في “عربي21” بتاريخ: 10يونيو 2020
ضمن هذه المقدمات الأساسية التي نهتم بها في قضية المواطنة، والتي سنجعلها (بحول الله) عشر مقدمات أساسية لتحديد منهج النظر لقضية المواطنة في نظر متجدد ومستأنف؛ فقد أوردنا في المقال الأخير عن مفهوم الدولة القومية والأزمة التي تشهدها بما يشكل في حقيقة الأمر أحد مظاهر أزمة الدولة القومية في العالم العربي والإسلامي؛ التي نشأت نشأة مشوشة ومشوهة.
إذ صار مفهوم الدولة في عالمنا مفهوما مربكا على غموضه الأساسي؛ فيما تعرض له الكثيرون من المفكرين في الفكر السياسي والذين توقفوا عند مفهوم الدولة. وحقيقة الأمر أن المسألة إنما تنشأ من مسألة خطيرة تتجلى في تلك الرؤية للدولة المركزية وفكرة السيادة، بالإضافة إلى “التصور الدولتي”.
هذه التصورات الخطيرة قامت على خلط متعمد بين مفهوم الدولة و”الدولتية”؛ وبين مفهوم السلطة المستبدة ومحاولة مرادفته بالدولة، وكذلك الخلط الفاضح والفادح بين الوطن وفكرة الوطنية، وما تبعه من أوصاف حول التخوين الذي صار مقولة تطلق من البعض، وباستخدام متساهل من جانب الإعلام الدولتي. إن كل من اختلف مع السلطة هو في التحليل الأخير لديهم “خائن” و”عديم الوطنية”.
ربما سيكون لنا حديث مفصل حول مفهوميّ الوطن والوطنية، لكن وجب علينا أن نتفحص ونتوقف عند مفهوم المواطنة الصالحة الذي اخترعته السلطة المستبدة وروجت له، حتى تجعل من المواطن الصالح على مقاس تلك السلطة ومطالبها؛ وعلى مقاس رؤيتها الدولتية للوطن والمواطن.
ورغم أن مفهوم المواطنة الصالحة استُخدم ضمن بعض الكتابات الغربية للتأكيد على الحالة الإيجابية لمفهوم المواطنة؛ إلا أنه في واقع الأمر يمكننا أن نؤكد أن الانحراف والتزوير والتزييف لمفهوم السلطة كان من جانب الدولتية الفاشية، فكان ذلك أمرا يسيرا وموظفا ضمن إحكام القبضة المركزية والحكم السلطوي والحالة الاستبدادية.
وفي هذا المقام فإن المواطن الصالح هنا صارت له مؤشرات سلطوية؛ فصار المواطن بين مطرقة وسندان استبداد داخلي واستبداد دولي، فضاع مفهوم المواطنة المرتبط ببنيات وبينات من الواجبات والحقوق. وتبدد هذا المفهوم وصار مفهوما افتراضيا حينما تم ربطه بحقوق الإنسان ضمن رؤية انتقائية تبرر الحيف والجور على حياض الإنسان وحقوقه، وهو ما أفرز أمرا خطيرا يتعلق بأن المطالبة بالحقوق أو البحث فيها إنما يشكل وفقا لذلك المنظور الدولتي خيانة عظمى، وأن على المواطن أن يأخذ ما تلقيه له السلطة وكما أرادت، لكن إن هي أعطت له شيئا أصلا فسلطة الاستبداد غالبا ما تتحرك ضمن عقلية جباية لا عقلية عناية وخدمة ورعاية.
هذه “الدولة- السلطة” احتكرت مفهوم “المواطنة الصالحة” ومعنى “المواطن الصالح”؛ حيث جعلت لذلك شروطا وأوصافا مسكوتا عنها، لكنها مرغوبة في الممارسة وتتعلق بمصلحة بقائها في السلطة لا المصالح الكلية الأصيلة التي تتحرك صوب تأصيل “المواطنة الفاعلة” في السعي والوعي، وجعلت مؤسساتها تُرَدِّد على مسامعنا أن من مهامها تشكيل “المواطن الصالح”، واستولت (ومن طريق أمني ضيق) على مفهوم المواطنة الصالحة والمواطنة الطالحة كما في رؤيتها. وضمن هذا كله بدت الدولة-السلطة تمثل تلك المقولة الشهيرة “أسد عليّ”، أي على المواطن “وفي الحروب نعامة” في مواجهة التبعية والاستباحة من قِبل الدول المتحكمة.
وبرزت هذه المفارقة أكثر، حينما برزت ضمن متغيرات حادة في العلاقات الدولية وكذلك في النظام الدولي؛ ضمن قطب أعظم أراد أن يفرض كامل هيمنته على المعمورة ضمن سياسة كونية ومتنافسين تتقاطع مصالحهم بل ربما تتضارب، فاجتمع على المواطن عُسْران: عسر الدولة المستأسدة (داخليا)، وعسر الدولة المستباحة (خارجيا). وبدا المواطن بين مطرقة وسندان، وصار الزحف الخارجي على الدولة من خلال “الدولة العظمى” مدخلا لزيادة عملية الاستئساد، وزحف الدولة على المواطن وفعالياته المتعلقة بالدين. هذا يبدو خاصة إذا ما رأينا كيف أن أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر أوجدت البيئة المناسبة لهذه الاستباحة، فاختلطت الأوراق، وصارت هناك مؤشرات لفرض “ثقافة”، “سياسة”، “تعليم”، بالإضافة لـ”رؤية دينية”، وصارت الدولة التي كانت تحتكر الحديث عن صحيح الدين ولا تسمح لأحد منازعتها؛ تُنازَع في هذا المقام من “دول عظمى” متفردة ومتألهة، وصار المواطن بين إلــهين(!!)، وصرنا أمام منظومة “الإلهية أو تعدد الآلهة”، ولكن ليس على نمط الأساطير اليونانية، ولكن في إطار القصة الجديدة المرسومة على أرض الواقع ما بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر.
وصارت المواطَنة وإنتاجها (المواطن) ضمن عملية “تنازع” كبرى، هذه المنازعة جعلت حال المواطن الممزق بين استبداد داخلي، واستبداد خارجي، لكنه في الحالين بدا المواطن مضرورا في الأمرين؛ حتى ولو بدا الخارجي يزين ما يفعل ضمن غطاء يتعلق بتحقيق عملية التحول الديمقراطي في الشرق.
وبدت المفارقة أكثر، حيث المواطن يحتاج من الدولة براءة ذمة من خلال ما تحدده من عناصر وشروط للمواطنة الصالحة، فيما صارت الدول في حالة هرولة لدى الدولة العظمى المتفردة، التي صارت توزع ألقاب “محور الشر” و”الدول المارقة”، وأطلقت معايير “العدو” و”الصديق” كيفما أرادت، وبدت الدول الرخوة التابعة التي أسست لتابعية المواطنة، هي في ذاتها تابعة لمتبوع أعظم، وصار المواطن ضمن تبعية مركَّبة، وتنازع مركَّب، واختلطت عناصر التابعية المواطنية للدولة، بالمواطنة العالمية، وبدا الدين مجالا للزحف من الاثنين.
فماذا إذاً عن حال الدولتية الذي شاع وذاع ضمن خطاب شعبوي إعلامي يحاول أن يمرر ذلك المفهوم من غير عنت شديد؛ وإلا أُتهم من تحفظ أو اعترض بالخيانة؛ وهُدد بسحب المواطنة والحرمان من أوراقه الثبوتية؟ ولا بأس أن يقوم البعض برفع قضايا لنزع الجنسية عن هؤلاء!
هذا الأمر الذي يتعلق بالفهم الدولتي الفاشي إنما شكل مصادرة حقيقة لكل أمر يتعلق بحقيقة المواطنة ضمن سياقاتها التعاقدية، في سياق بنية الحقوق والواجبات. ومن هنا فإن الأمر الذي يتعلق بالتوقف عند دراسة هذا الأمر ضمن اغتصاب مفهوم المواطنة الصالحة، ضمن رؤية سلطوية دولتية واغتصاب مفهوم الدولة وخلط متعمد بين كل ما ذكرنا من قبل حتى يمكن لهؤلاء أن يمرروا حالة الاستبداد والسلطوية وحالة المواطن المقهور والمهدور، وهي أمور سنتوقف عندها ضمن الإشارة لنماذج مفهوم المواطنة وجب الوقوف عليها والحديث عن أهم تجلياتها.
ومن المؤسف حقا والمشاهد أن يستقطب هؤلاء من هؤلاء الذين حصلوا على أعلى المؤهلات والشهادات العلمية؛ ليرددوا كثيرا من الترهات أشبه بالشعارات المتداولة، بخطاب منمط لا يستند الى أي درجة من المقبولية أو المعقولية، ولا يحسنون غير الترديد والتقليد.
وقد كتب أحد الكتاب في المغرب يصف تلك الحالة الدولتية فاحصا خطابهم ومفرداتهم الفاشية؛ من مثل أن “الديمقراطية فاشلة أو لم تنجح يوما”، أو أن “الحرية تؤدي إلى الفوضى والتفكك”، أو أن “الدولة يجب أن تتحكم بكل شيء لكي تعتني بالمواطن”..
“الدولتية (Statism) أو عبادة الدولة الإله: ديانة فاشية متفشية؛ هي فكرة أو نزعة تقول بأن سلطة الدولة هي الحل الشامل، وأن الدولة يجب أن تتدخل في كل شيء وتعتني بكل شيء، وتتحكم بكل مناحي حياة المواطن وبكل المناحي من تعليم وثقافة وإعلام وترفيه ودين وخطاب ديني، وغير ذلك من مجالات ومفاصل تمثل تكوين المجتمع وتشكيله. وعبَدَة الدولة الفاشيون يرون أن الدولة بزعيمها ومؤسساتها المدنية والأمنية والعسكرية وقوانينها هي السبيل الوحيد لتحقيق الاستقرار والرخاء والازدهار للشعب، ويرون أن الديمقراطية والحرية الفردية الكاملة مضيعة للوقت ومدخل إلى الفوضى. إنه الخطاب الدولتي الذي يشكل عقيدة لمثل هؤلاء يصنفون الناس والمواطنين على قاعدة؛ على تهافتها الشديد لكنها في النهاية تؤسس وتدعم الحالة الاستبدادية والفاشية”.