نشر المقال في “عربي21” بتاريخ: 25 أغسطس 2020
من الضروري التعامل مع باب الوسائل والآليات في إطار يحفظ جامعية الأمة واعتصامها، والأدوات والوسائل بحكم هذا الفقه الذي يعد بابا مهما من أصول الفقه الحضاري والعمراني بما يشكل مدخلين مهمين:
الأول منهما يتعلق بالوسائل والآليات لمواجهة التحديات وتقديم الاستجابات، والأمر الثاني يتعلق بالأدوات التي تعين على بناء الأمة وعمرانها، في سياق يتكافل هذا النوع من الأدوات مع أخيه ليحقق عملا مثمرا يصب في عافية الأمة وكيانها.
من الممكن أن نصنف الوسائل التي يجب الاهتمام بها ضمن مشروع حضاري لنهضة الأمة وارتقائها إلى ثلاثة صنوف متكاملة ومتكافلة:
الأول منها يعنى بالأدوات المنهجية والوسائل المعرفية.
والثاني يتعلق بالأبنية المؤسسية التي يمكن أن تقوم على مهمة هذه الجامعية، فتدفع الأضرار المتعلقة بها وتجلب المصالح البانية لها.
أما النوع الثالث من الوسائل والآليات فإنه يقترن بقدرة الأمة على التعامل تدريجيا في تنفيذ سياساتها الجزئية وخططها الكلية، بحيث يحقق التواصل بين الجزئي والكلي في عمليات التكامل والتفعيل والتشغيل، وبما يؤصل معاني موصولة بفقه الحال وفقه المجال كعمليات مترابطة ومتصلة بفقه التنزيل.
إنه بناء استراتيجي أو توجه نحو بناء المواقف والقدرات المتكاملة والمتكافلة، بحيث تمثل أحد مداخل الاستجابات الواعية لمواجهة التحديات التي ترد على الأمة، ومن هنا فإن عملا ثقافيا وتربويا من الأهمية القيام به وعليه، في إطار التدريب الواعي على فنون “الاختلاف” وفنون “الائتلاف” على حد سواء، بحيث تشكل البنية التحتية لاعتصام الأمة وتعبئة قدراتها، في إطار تجميع المصالح وإمكانات تبادلها بدلا من تناقضها وتصارعها.
“بناء المصالح” واحد من أهم الأهداف المشتركة التي يجب أن تؤسس على قواعد ثقافية وتربوية واجتماعية واقتصادية وسياسية، بما يحقق “التجديد التفعيلي” على الأرض، وبما يصب في عافية الأمة وكيان وجودها وحركة استمرارها ونهوضها وعمارتها وارتقائها.
إن جهود التأصيل والتفعيل والتشغيل للمواطنة يجب أن تكون ضمن تصور استراتيجي يحقق جامعية وفاعلية الأمة، وتأهيلها لمعاني الرافعية للنهضة، والدافعية لعمرانها، وبناء المصالح المشتركة والمتبادلة، بحيث تتحرك صوب تأسيس ذلك كواجب وقت تلتزم في القيام عليه جملة الثوابت والكليات، وهو ما دعانا الى ضرورات استثمار وتفعيل وتشغيل المدخل المقاصدي، وغيره من مداخل كلية في تجديد الخطاب الديني بنية وأداء، على أن تكون عملية التجديد هادفة إلى تحقيق غاية ومقصد استراتيجي؛ من مثل الحفاظ على جامعية الأمة وفاعليتها وأن تستأنف أدوارها الحضارية ومكانتها، للقيام بهذا الدور الحضاري والاستراتيجي في آن واحد. المواطنة ضمن هذا السياق حركة المرجعية والدافعية والجامعية والشرعية والفاعلية للوطن وأبنائه.
أهمية فهم المرجعية وعلاقتها بالمواطنة أمر أساسي؛ فالمرجعية هي الأصول الفكرية والثقافية العامة التي تؤمن بها الجماعة الوطنية، وتشكل قوة التماسك الأساسية في تشكيلها بوصفها جماعة بشرية، وهي أيضا الأصول الفكرية والثقافية التي تتشكل منها هياكل التنظيمات السياسية والاجتماعية المشخصة للجماعة العامة كجماعة سياسية، أو الجماعات الفرعية التي يتكون منها المجتمع والمنظمة لأنماط العلاقات الاجتماعية السائدة.
الإطار المرجعي يشتمل على جملة الافتراضات والرؤى الأساسية والتأسيسية التي تشير إلى طبيعة الحياة وأبعادها الأساسية، وعملياتها ومسار حركتها التي يؤمن بها الإنسان أو يتخذها مرجعا ومرشدا له في رؤية الظواهر الحضارية على امتدادها وتنوعها وتشابكها. ومن هنا، فإن إطار المرجع يحدد الأنساق المفاهيمية والمعرفية والفكرية والقيمية والسلوكية التي تصف وتفسر السلوك والظواهر. والإطار المرجعي هو الذي يحدد للإنسان ما له دلالة وأهميته عند النظر إلى الظواهر الحضارية في وصفها وما يفتقر إلى تلك الدلالة والأهمية. ومن الحقائق التأسيسية في هذا المقام أن نتحدث عن المرجعية بما يتبادر إلى الذهن، ولكن أن نتحدث عنها بما يشكل رؤية متكاملة للعالم والإنسان والكون والحياة، وما يتولد عن هذه الأصول من علاقات وتفاعلات.
والجماعة المرجعية تنصرف الى الأمة خيريتها صفة، ووسطيتها منهجا، وشهودها فعلا وفاعلية وتأثيرا. وهي لا تتنافى أو تنفى جماعات مرجعية فرعية أو مشتقة أخرى، بل توظفها في كيان الأمة بحيث تصب في عناصرها المؤسسية (الخيرية-الوسطية- الشهود) من مثل الجماعات الوطنية. وشبكة الإسنادات المرجعية من جملة فكرة المرجعية متمثلة في جملة المراجع والمصادر التي يجب الرجوع إليها، من دون أن يعني ذلك انغلاقها أو الاكتفاء أو الانكفاء عليها، بل ضرورة أن تتحرك صوب أهم وصف لها، والذي يتعلق بأنساق الحضارة الإسلامية المنفتحة في أطر من المقارنة العادلة والفاعلة، وعمليات تحكم التواصل بين عناصر العلم النافع ومعاني الحكمة في كل سياقاتها وتنوعاتها.
ومن هنا فإن عناصر المرجعية التي تجمع بين رؤى التأسيس واعتبارات الواقع والجماعة الوطنية المرجعية وأصول وقواعد النظام العام، فضلاً عن السياقات الثقافية التي تشكلها اللغة والرموز وكافة العناصر الثقافية، إنما تعبر جميعها عن أعمدة في بناء معماري يشكل أصول هذه المرجعية حينما تنسجم تلك العناصر وتتكامل وتتكافل وتأتلف بحيث لا تقوض ولا تهدم. وقد تختلف هذه الأعمدة في شكلها وفي تجلياتها، ولكن لهذه الأعمدة فضل رفع الأسقف الحضارية والعمرانية لفاعلية إنسان الحضارة الذي يرتبط بها.
هذه الأعمدة وإن اختلفت في مبناها ومظهرها فإنها تأتلف في معناها وجوهرها ووظيفتها، وكأن ذلك الاختلاف في الأمة وجب على من يعيش فيها ويتعارف في ساحاتها أن يكون اختلاف الرحمة الذي يشكل عناصر الوجود الحضاري الرافع والدافع والفعَّال، والمالك لعناصر تصحيحه الذاتي وتجدده الذاتي.
ضمن هذا الإطار يمكن فهم حقيقة المرجعية ضمن هذا الاتساع والامتداد وارتباطها بتماسك الجماعة الوطنية. قد تكون هذه القضايا جميعا، خاصة في حال تشوشها وتشوهها، تعاني ضمن سياق عام من المناخات السلبية والتي تولد كثيرا من تلك الهواجس والشجار النافي لأصول الحوار. هذا السياق قد يؤثر تأثيرا سلبيا أو إيجابيا في سياق تراكمات معينة على النظر للجماعة الوطنية والسنن التي تؤدي إلى تماسكها، والنظر في تلك الأمور التي تؤدي إلى تفككها، وهو يشكل سياقا مهما يجب النظر فيه، والتعامل معه بدقة وحساسية وروية.
كذلك يجب أن يؤخذ في الاعتبار ذلك السياق الإعلامي ولغة الخطاب السائدة التي تحتوي على مفجرات ومفخخات، وكذلك البحث في السياق عن تلك المداخل التربوية والتثقيفية التي تحيط بهذه العملية التي تشكل شروطا لتأسيس الجماعة الوطنية وتشكيل وعيها.
كما أن هناك من بعض المهتمين بهذا الأمر من أضاف إلى ملف الطائفية معالجة جديدة لا تقل خطرا عن المعالجة الأمنية السائدة في التعاطي مع هذا الملف، فبعد أن كانت المعالجة الأمنية هي فقط التي تسيطر على معالجة ملف الفتنة الطائفية، أضاف البعض “المعالجة الفتنوية” والتي قد تزيد الأمور اشتعالا.
ومن هنا وجب علينا أن نضع الأمور في أحجامها الحقيقية من دون إقحام الدين في غير ميدان، واللجوء إلى خطاب الاستنجاد والاستغاثة وكأننا “نولول” على انتهاك حق هنا أو حق هناك بسبب الديانة أو ما شابه ذلك. أصبح هناك ما يمكن تسميتها “معالجة فتنوية” لكثير من الأحداث، والتي يمكن أن تنتمي إلى دائرة العلائق الاجتماعية والمعاشية، يقحم الدين فيها ومن أقرب طريق.. كل تلك إشارات وتنبيهات مهمة في قضية المواطنة وإعادة النظر فيها من رؤية إسلامية واعية جامعة.