نشر المقال في “عربي21” بتاريخ: 12 يناير 2021
كُتبت تحليلات خطيرة وكثيرة حول المسألة الترامبية التي تجلت في أعلى أشكالها حينما حدث ذلك الاقتحام لمبنى الكابيتول منذ أيام قليلة، ليعبر وفق أوصاف لم تخل بأي حال من الأحوال من غرابة عما وُصف بالحالة الانقلابية.
وقد أشرت مبكرا، مع اعتلاء ترامب عرش السلطة في الولايات المتحدة الأمريكية، أنه يمثل نذر شؤم على الحالة الديمقراطية وعلى مستقبل النموذج الديمقراطي في الغرب، ذلك أن رئيسا يصعد على هذا النحو وبتلك الشاكلة وبكل الأدوات المتاحة؛ يعبر عن أن شيئا بنيويا لا يزال يمثل اختلالا في الرؤية المعرفية للنموذج الديمقراطي الأمريكي خاصة والنموذج الديمقراطي الغربي عامة. وكان محل ذلك التساؤل أن شخصا يتسم بشخصية نفسية معينة تعبر عن حالة من النرجسية ومن خلال تعاملات كثيرة ومؤشرات خطيرة؛ يعبر عن حالة لا يمكن بأي حال من الأحوال توقع كثير من أفعالها وسياساتها.
ومن المؤسف حقا أن يبدو ذلك في جملة من القرارات والسياسات التي تتعلق بالشأن الخارجي، إلا أنها في أحسن الأحوال وجدت انتقادا هنا أو هناك، ولكنها في النهاية مررت وبشكل متساهل إنما يعبر في حقيقة الأمر عن مثل هذه الاختلالات البنيوية في الرؤية الديمقراطية. ماذا لو قررت شخصية رئاسية تتسم بـ”النرجسية” وتمثل “لحظة نماذجية” وقرر هذا الذي يعتلي سدة الحكم استغلالها بكل عناصرها وآثارها ومآلاتها؟
أشرنا في مقالات سابقة وفي مناسبات متعددة متفاوتة إلى كيف تمثل الحالة الترامبية لحظة نماذجية. واللحظة النماذجية مفهوم صكه أستاذنا العبقري الأستاذ الدكتور عبد الوهاب المسيري، حينما تحدث عن اللحظات النماذجية في الحضارة الغربية وهي لحظات نادرة، إلا أنها مع ندرتها إنما تمثل في حقيقة الأمر جوهر هذه الرؤية الغربية الكامنة، بل إنها تمثل حقيقة هذه الرؤية وإن اتخذت أشكالا حادة وتعبيرات خطيرة.
إن شخصية يمثلها ترامب تتمثل في مربع يشكل في حقيقة الأمر انعكاسا لهذه اللحظة النماذجية وهذه الشخصية النماذجية؛ فردية متمكنة تتمثل بحالة متطرفة من الفردانية والآثرة والأنانية، وإباحية منفلتة تحت عنوان الحرية بلا حدود ومن غير قيود، وعنصرية كامنة متمكنة تتخذ أشكالا في الرؤى وفي الخطاب يكون من السهل أن يعبر عنها صاحب تلك الشخصية، ورأسمالية مفترسة متوحشة طامعة جامحة تعبر عن شخصية تحاول أن تشكل رجل الصفقات الذي يخلط الصفقات الاقتصادية بالسياسة؛ ويحاول أن يمكن لها من خلال حالة من البلطجة السياسية غير المسبوقة.
إنه مفهوم السياسة في الاطار الغربي حينما يكون مسكونا بالصراع الأساسي والقوة الطاغية والمصلحة الأنانية، يغلف كل ذلك خطاب شعبوي يستثمر كل هذه الإمكانات الخطابية والاتصالية ضمن تشكيلات جديدة لذلك الخطاب، وضمن ظاهرة حشدية يتحرك الجميع للتعبير عن هذه الظاهرة في مساندة ودعم خطير يمثل في حقيقة الأمر لحظة نماذجية ويكتسب أنصارا جددا.
هذه اللحظة الترامبية ليست بعيدة بأي حال من الأحوال عن لحظة نماذجية مثلتها اللحظة الهتلرية، فاللحظة الهتلرية حالة مشابهة مثلت لحظة نماذجية في رباعيتها؛ حالة الفردانية، وحالة التوحش والاستئثار والاحتكار، وحالة العنصرية، وحالة من القيم الوطنية الشيفونية الخانقة، والتي تستدعي حالة من التعبئة شعاراتها “أن تكونوا خلفي وتكونوا معي بلا منازعة وبلا معاقبة، إنه الوطن، إنه الجنس المتميز والدم الأزرق”.
ومن هنا تبدو تلك الفجوة الخطيرة بين هذه النماذج التي تمثلها هذه اللحظة وبين ما حملته تلك الحضارة من قيم ليبرالية مسكونة في حقيقة الأمر بحالة من العنصرية الكامنة والمركزية الفجة، وتشكل القابليات المتعلقة بالمعايير المزدوجة وانتقائية المعايير أعظم بيئة ليترعرع هذا التشوه في الرؤية وفي المواقف وفي السلوك وفي السياسات بل والاستراتيجيات.
أول ضحايا هذه اللحظات معنى الإنسانية في شمولها، ومساواتها التأسيسية، كل ذلك محفوفا بخطاب شعبوي وحالة وطنية مفضية إلى حالة من الكراهية ضمن إغراءات متوالية العنصرية الخطيرة والقميئة والناسفة. تبدو هذه العنصرية مع الحشد تتحول إلى حالة مقبولة مصنوعة ممنهجة استئثارية تتسم بالمركزية والسيطرة والهيمنة، وخطاب حضاري عنصري شيفوني يدوس أول ما يدوس على معاني الإنسانية.
تتخطى هذه الحدود في اللحظة النماذجية حينما تمتد إلى أقصى مداها وعلى امتدادها بلا حد أو قيد، فتنتج أشكالا لم تكن متصورة؛ حربا عالمية يقودها هتلر، وتهديد الديمقراطية وكل القيم الممثلة لها، وربما تتخذ تحريضا على عنصرية وكراهية داخلية تقدم مشاريع وأشكالا من الحروب الداخلية، وما وصف بانقلابات في هذا المقام.
كل ذلك يقوم على تبرير الحركة المضادة الجماعية التي تشكل هذه اللحظة النماذجية – فلتات لسان للحضارة الغربية – هنا ربما تضيق فكرة الإنسانية، وتفقد فكرة السياسة، وتتوارى القيم الليبرالية والمدنية، وتطفو على سطح المشهد تصرفات شعبوية بلا قواعد وبلا ضابط وبلا حدود، تمكن للحالة العنصرية وحالة الكراهية والفرز على الهوية والمواطنة، ووطنية شيفونية؛ بل يصل ذلك في قمته إلى حالة تعريضية قد تأخذ أشكالا من العنف والقتل والخروج على كل قاعدة.
كل ذلك يستثمر حالة من التابعية شكلتها الانتخابات الأمريكية.. أكثر من 70 مليونا يشكلون قاعدة لمثل هذه الترامبية، ويبدو إغراء الكتلة المؤيدة والحشد ضمن هذه اللحظة النماذجية التي قد لا تحدها حسابات وتنفلت مداراتها إن دارت عجلتها. ومن هنا تبدو الأمور أنك لا تستطيع أن توقف متوالية الحالة الصراعية والعنصرية والقوة والمصلحة. من يوقف ذلك في ظل قيم مهددة وحشد عام وخطاب شعبوي تحريضي وحالة عنصرية تمييزية وطاقة حشدية، وكل ذلك مسكون بحالة عنصرية ضد الإنسانية غير مأمونة أو مضمونة؟
وتبدو هذه الأمور ضمن منظومة تتصاعد فيها الحالة العنصرية لتأتي على المنظومات الحافظة للفعل الليبرالي.. العنصرية تأكل الإنسانية والحقوق التأسيسية، وتزرع الكراهية، وتنقض القيم المدنية، وتتوارى فيها القيم المجتمعية والجماعية للجماعة الوطنية، وتتدهور الرؤى لكل عناصر المواطنة ومعنى المساواة. متوالية التآكل تلك إنما يحركها مفهوما للعولمة والعالمية على شاكلة الغرب، تحركه منظومات الاستغلال والسيطرة والهيمنة والمركزية والاحتكار والاستئثار، فيأكل كل ذلك مفهوم الإنسانية المسكون بحالة عالمية تؤسس لمعنى الكرامة الإنسانية وحركة الإنسانية العمرانية.
إن مراعاة الاستخلاف العمراني والقيم الإنسانية الجوهرية المتعلقة بالكرامة الإنسانية التأسيسية النافية لكل عنصرية؛ وافتقاد كل ذلك إنما يطل علينا من خلال هذه اللحظات النماذجية بأشكاله السلبية. قد يبدو في الظاهر مأمونا حينما يكون في خارج الوطن، ولكنه في حقيقة الأمر غير مضمون أن يترك آثاره حتى داخل الوطن في متوالية العنصرية المستشرية. وربما أن حالة حركة المؤسسات واستنفارها في النظام السياسي الأمريكي هي ما نراه الآن في محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، ولكنها تظل تشير إلى عوار خطير؛ أن المواطنة كمفهوم لا بد وأن يستند إلى حقائق إنسانية تأسيسية متساوية والكرامة الإنسانية الشاملة لا تحتمل الازدواجية ولا الانتقائية.
ومن هنا ستظل تلك اللحظات النماذجية في أشكالها المختلفة وبآثارها السلبية واختلالاتها الهيكلية تطل علينا من هنا أو هناك، وعلينا في الحقيقة أن نعالج الأمور من جذورها ولا نقف عند عتباتها ولا نعالج فقط ما يتعلق بداخل المنظومة الوطنية داخل الدولة فحسب؛ بل ضرورة استشراف مفهوم جديد للعالمية الإنسانية كسند لمفهوم المواطنة الإنسانية القائمة على الاستخلاف والعمران، لا الظلم والخراب والازدواجية.