نشر المقال في “عربي21” بتاريخ: 23 فبراير 2021

من المهم أن نشير إلى استراتيجيات سلطة الانقلاب ونظام الثالث من يوليو.. إنه يعتمد مثلثا خطيرا؛ أول أضلاع هذا المثلث يقع في دائرة التخويف والترويع، وهو يهدف إلى إنشاء دولة الخوف التي تشتد وطأتها على المواطن فتجعله خائفا مذعورا يصعب عليه الإنجاز والنشاط، كما تستحيل عنده حياة الأمن والأمان. وتسهم الأجهزة الأمنية كافة، التي لا تقوم بجوهر وظيفتها في إشاعة الأمن والاستقرار الحقيقي، في إشاعة الخوف والذعر لتشكيل ما تمكن تسميتها بـ”جمهورية الخوف”.

أما الضلع الثاني في هذا المثلث إنما ينصرف إلى استراتيجية الإفقار والتجويع، وهي استراتيجية يتبعها ذلك النظام بحيث يجعل المواطن فريسة لغول الإفقار المنظم والممنهج وتجفيف الخدمات وغلاء الأسعار الذي لا سقف له ولا حد، في ظل تدهور الأحوال وضيق معاش الناس. ويجعل كل ذلك المواطن في حال طلب مستمر لضرورياته وحاجياته الأساسية منشغلا بها، مرتهنا لها، وكأن هذين الضلعين مقصود بهما وضع حد لأساس حياة الإنسان ضمن القاعدة التأسيسية الضامنة لأمنه وأمانه ومعاشه “أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف”.

أما الضلع الثالث فيتعلق بمجمع التفاعل بين ضيق المعاش وشيوع الخوف، فتنتج استراتيجية التشكيل والتطبيع والتطويع، وهي مسألة أخطر ما تكون حينما تقوم سلطة الاستبداد بتشكيل العقول وتثبيت حالة من الزيف وغسيل المخ الجماعي، مستخدمة في ذلك أدوات عدة يقع الإعلام على رأسها.

للنظام الانقلابي رؤية خطيرة تتوافق مع تثبيت أركان طغيانه وتبرير سياسات استبداده في رؤية إعلامية إعلانية، ومن ثم فإنه يدشن من سدنته جوقة إعلامه التي تعزف معزوفته وتسيّر كلماته، ويشكل ذلك مدخلا لكل هؤلاء الذين يكتبون عناوين واحدة في الصحف، ويناقشون قضايا متفقا عليها، ويستخدمون ألفاظا ومفردات هي من صميم قاموسهم الانقلابي والسلطوي والفاشي.

وهم بذلك يهدفون إلى تشكيل المواطن على نحو يليق بتلك السلطة الاستبدادية، متآلفا معها وموافقا لها، فيكون بذلك في عرف تلك المنظومة مواطنا صالحا يقوم بما تمليه عليه السلطة، لا يخرج إطلاقا على نصها، ويمارس كل ما من شأنه عبودية طوعية ضمن مسار العلاقة التي تتعلق بتمكين رابطة السيد بالعبد.

وعند الانقلاب قال رئيسه إنهم يقومون بصناعة أذرع إعلامية، كل ذراع من ذلك يتطلب وقتا وجهدا ويتكلف أموالا كثيرة. فضلا عن ذلك فإن قيام بعض الأشخاص من أهل المال ورجال الأعمال، وفي زواج متعة دنيء، يقومون بإدارة الإعلام بعد الفشل الذريع لإعلام الدولة الرسمي، فيقومون بتلك المهمة بالوكالة أو إن شئت الدقة بالعمالة، إلا أنه في ظل عملية التشكيل والتطويع تلك، رأى هؤلاء أن يقوموا بالسيطرة على الإعلام من أساسه إلى رأسه (من ساسه لراسه) ومن الألف إلى الياء، وبدا أن من يرسم سياسة الإعلام في هذا المقام هي الأجهزة المخابراتية التي باتت تسيطر على القنوات والصحف.

وأنشأ هؤلاء منظومة أرادوها لتنظيم الإعلام أو للقيام بمهام دنيئة تخطط لها وتسند إليها، فتقوم بها عن رضى ومن غير إبطاء أو تأخير. المجلس الأعلى لتنظيم لإعلام، الهيئة الوطنية للإعلام، الهيئة الوطنية للصحافة.. ثلاثة أجهزة تعاونت لخدمة سلطة الانقلاب والاستبداد، وتوكل إليها مهمة لم يعلن عنها وهي عصا التأديب الانقلابية؛ ليس فقط لمن يخرج عن النص، أو يعارض أو يستعرض، ولكنها كذلك تقوم بعقاب من تريد باسم الدولة، في محاولة منها لتفادي آثار وأخطار أكبر لا يمكن للدولة والمجتمع تفاديها، غالبا ما تكون في شكل عقوبات إسمية وشكلية ما تلبث أن تزول مع صناعة الغفلة والنسيان والتناسي.

بدا هذا المشهد ينتج صورة للإعلام المطلوب، الموظف المسيس المبرر الذي يتحدث بلسان سيده. وتساعده في ذلك (حينما فطن إلى وسائل التواصل الاجتماعي) لجان إلكترونية أمنية مخابراتية، أو ما تعرف بالذباب الإلكتروني، تحاول في كل ممارساتها أن تجمل وجه النظام الانقلابي القبيح، وتشوه كل معارض وطني شريف، فبدت هذه الأدوات تعمل بكل طاقتها في محاولة لتأدية هذه الوظيفة الدنيئة بأقصى جهد للتأثير في تشكيل الوعي الزائف، وتطبيع العقول وتطويع النفوس ضمن صناعة كبرى في التلاعب بالعقول وتأسيس كل منصات الحفاظ على شبكة الاستبداد ومؤسسات الفساد. إلا أنه في ذات الوقت، تحمل وسائل التواصل الاجتماعي أولئك الناشطين الذين ارتبطوا بالثورة وأهدافها، وثبتوا على أهدافها وشعارها، فقدموا ضمن هذه الساحة إطارا مهما لرأي عام راشد وفاعل ومؤثر يقوم بأدواره في مواجهة هذه المؤامرة الكبرى على عقلية ونفسية المواطن.

نقول ذلك مشيرين إلى حادثة خطيرة ضمن تصريحات مستخفة، في حقيقة الأمر هي تمثل جوهر العقلية الانقلابية التي لا تكل ليل نهار عن اتهام هذا الشعب فرادى وتجمعات وتكوينات بعدم الوعي والغفلة، وأنها فقط وزبانية إعلامها الذين يملكون الرأي والرؤية والرشد والحكمة. وصار كل ذلك ضمن خطة كبرى يقوم بها هؤلاء بأدواتهم المتعددة، منتقين شخوصا إعلامية أقل ما يقال عنها أنها من حملة المباخر للنظام وكلاب الحراسة له الذين ينبحون على كل من يتحفظ أو يعارض، فضلا عن أنهم يدقون ليل نهار طبول النفاق التي تجعل من هذا النظام لا يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه، فهو المعصوم في شكل رئيسه، المزعوم في إنجازه، وبات هؤلاء يلحقون هذه الخطابات جميعا بخطاب يستهدف كل ناشط في الداخل أو في الخارج، فإن رُصد من هو في الداخل وُجه له خطاب تلخصه الكلمة التي وردت على ألسنتهم “إذا مكنش عاجبكم غوروا”، أما من هم في الخارج فإنهم يتهمونهم بالعمالة وعدم الوطنية والخيانة، ضمن خطاب يلخصونه بـ”تعال جوه وعارض”.

أحد المذيعين الذين اصطنعهم النظام الانقلابي على عينه وانتقاهم للقيام بتلك المهمات الدنيئة؛ خرج هذه المرة يتحدث عن فئة من مواطني مصر واصفا إياها بأوصاف غير لائقة وبكلمات مستخفة، وبأمور تقع في سياقات صناعة الكراهية والفرقة بين مكونات هذا الشعب وهذا الوطن وجماعته الوطنية، في ثوب من المعايرة والمكايدة مسكون بالنفاق الكاذب والزائد. فغالبا ما تفلت منهم الكلمات إمعانا في النفاق والاتفاق مع أهداف هذه المنظومة الانقلابية، إلا أن رأيا عاما واعيا على وسائل التواصل الاجتماعي قد يكون له من الأثر فيحدث آثارا وقتية، فلا يأبه هؤلاء بمن يضحون على مذبح هذا النظام وإنقاذ صورته القبيحة.

وهم في ذلك يتبعون ما أوردناه من “نظرية الكلينكس”، حينما يستنفد هؤلاء أغراضهم وأدوارهم، وهو ما تؤكده تصريحات أخيرة لكبيرهم المنقلب؛ من أنه يرحب بالمعارضة على مواقع التواصل الاجتماعي بشرط أن يكون باسم الشخص وصورته، وهو أمر مع استراتيجية الترويع وصناعة جمهورية الخوف يجعل من هذا النظام وقد اهتم بمثل هذه الساحات الإعلامية ليجعلها جزءا من عمله في مواجهة التغيير واستعادة الحالة الثورية، وباعتبار ذلك جزءا لا يتجزأ من المهام المخابراتية والأمنية التي جعلت من هذا الشعب موضوعا لها.

برزت هذه المواطنة الإعلامية تعبر عن صناعة مفهوم خاص للوطنية الزائفة ومفهوم الدولتية الخادع، ضمن سلطة تسلطية إعلامية ومواطنة زائفة إعلانية تتصورها تلك السلطة على مقاساتها وبقياساتها، فقام الإعلام بضد جوهر وظيفته، لا في إعلام المصداقية ولا في إعلان الحقيقة ولكن في صناعة تطبيع وتطويع وتبرير استبداد وترويع.