نشر المقال في “عربي21″ بتاريخ: 27 أبريل 2021

هناك من الأمور الأساسية والضرورية التي لا يجوز بحال أن تكون ضمن مسائل الرأي المختلف عليها، بل هي تشكل في حقيقة الأمر حقائق أساسية وخطوطا حمراء لا يمكن تجاوزها. وحينما أكدنا على أن مفهوم الأمن القومي موصول بحبل سُري بالأمن الإنساني، كنا نعني تغليظ أي تفريط في حقوق المواطن وكذلك في حقوق الوطن في إشارة أكيدة إلى الربط بين المفهومين بعروة وثقى لا انفصام لها.

من تلك الأمور ما يتعلق بالتنازل عن حياض يتعلق بالأرض أو مصدر وشريان حياة يتعلق بعموم المواطنين على أرض مصر، ويعد نهر النيل واحدا من تلك الهبات الإلهية التي لا يمكن التفريط فيها. ورغم أن نهر النيل يعد نهرا دوليا بهذا الاعتبار وأن مصر كان من نصيبها أن تكون دولة مصب، وأن هناك دولا أخرى تشكل منابع للنيل وجريانه وأخرى ممرا له، فإنه من الأمور الأساسية أن يضمن أي نظام يأتي على سدة الحكم في مصر مهما كانت تساهلاته أو إغفالاته؛ الحقوق المائية لمصر، ويدرك أنها لا تقبل التنازل أو التفريط ولا يمكن أن تقبل الإغفال أو الإهمال. ضمن هذه القاعدة يجب أن نؤكد على تلك المقولة الذهبية أن “أمن مصر يوجد دائما في خارجها”.

نتعلم ذلك من درس التاريخ تارة حينما خاضت مصر معظم معاركها في الشام وفلسطين استباقا، وكذلك درس الجغرافيا الذي يتعلق بنهر النيل فيكون تأمين المياه هدفا أساسيا واستراتيجيا في مصر، ضمانا لأمن الإنسان والمواطن فيها، والأمن القومي للوطن للحفاظ على مقدراته وضروراته.

من هنا أكدنا على أن التفريط في مثل هذه الحقوق الأساسية إنما يشكل في حقيقة الأمر مدخلا ليس فقط للتفريط والتنازل، بل هو خزي وخيانة لمصالح مصر الاستراتيجية التي تتعلق بشريان الحياة متمثلة في مياه النيل الذي ارتبط بمصر منذ بداية الدولة وبناء الحضارة، فصار النيل عنوانا لتلك الحضارة المصرية، وكذلك أساسا لمصالح مصر الاستراتيجية.

ومن هنا كان الأمر دائما بالتنبيه على ذلك التفريط من خلال توقيع اتفاق مخزٍ تحت عنوان “إعلان المبادئ” في العام 2015؛ فرط في شريان الحياة والمقدرات المائية التي ترتبط بالحياة اليومية المصرية. ولا شك أن تهديد مياه النيل إنما يشكل خطرا وجوديا على مصر وطنا وشعبا وأمنا وأمانا. ومع إعطاء ذريعة للنظام الإثيوبي من خلال ذلك الاتفاق بالاستناد إليه في كل ما يمارسه من سياسات ومواقف متعنتة وإغفال النظام المصري للمعنى الذي يتعلق بالخطوط الحمراء في الأمن القومي المصري، فلا نستطيع إلا أن نعبر عن ذلك بالخيانة الوطنية، وفي أحسن الأحوال بخيانة الأمانة.

أكثر من 10 سنوات من المفاوضات وست سنوات منذ أن كان سد النهضة بذرة ومخططا، فكان توقيع رأس النظام المصري غطاء لإثيوبيا استندت فيه إلى مواصلة بناء السد وملئه، وهو ما مثل قبلة الحياة لهذا المشروع الخطير الذي يضر بأمن مصر القومي وأمن المواطن الإنساني المصري.

وظل فعل الخيانة المقترن بالاستهانة يعبر في حقيقة الأمر عن تفريط متعمد لا نعتبره بأي حال غفلة؛ لأن خطورة التفريط في مياه النيل كان أمرا مستقرا ومقررا تحوطه التنبيهات والتحذيرات والإنذارات. أما ذلك الخطاب الذي اقترن بسياسات مفاوضات فاشلة من مثل “اطمنوا إثيوبيا مش هضر مصر” إلى “احلف وقول والله والله والله مش هضر بمياه مصر”، فلم يتبع النظام سوى سياسة التفريط ودعم إثيوبيا بشكل غير مباشر بتلك المواقف والسياسات المتخاذلة، وشرعنة التفريط في شريان الحياة لمصر، فيكون التفريط في هذه الأحوال خيانة في كل الأحوال.

ولم يكن ذلك إلا ضمن استراتيجيات للنظام المصري حينما تنازل باستهانة عن جزيرتي تيران وصنافير لمصلحة صهيونية، وكذلك التفريط حين ترسيم الحدود البحرية مع كل من قبرص واليونان في موارد غازية، ثم كانت ثالثة الأثافي في التفريط في مياه النيل باتفاق مبادئ لم يمكن مشفوعا باتفاق فني وإجرائي حول كل ما يتعلق بحصة مصر المائية وملء السد وكذلك الأمان الخاص به.

ضمن هذا نستطيع أن نقول إنه في الأفق يتردد أن تأزيم قضية سد إثيوبيا أمر مقصود ومتفق عليه حتى تبدو الوساطة بعد الوساطة وقد فشلت، فلا تكون هناك من وساطة مطلوبة إلا من الكيان الصهيوني، خصوصا وأن للمنقلب تصريحا يتحدث فيه عقب فشل الوساطة الأمريكية قائلا: “إننا قد نبحث عن وساطات أخرى”، فمن المرشح لأن يكون الوسيط المرتقب؟!

يأتي كل ذلك ضمن فرض منظومة من الإملاءات لإحياء مشروع صهيوني يتعلق بتوصيل المياه إلى الكيان الصهيوني وعلى ذلك شواهد كثيرة منها؛ من بناء السحارات أسفل تفريعة السيسي في قناة السويس، وكذا الأمور التي تتعلق ببروز الخطاب مرة أخرى على توصيل مياه النيل لمصلحة الكيان الصهيوني إحياء لذلك المشروع، وليس أدل على ذلك من تلك الندوة العلمية التي نظمتها السفارة الإثيوبية في إسرائيل عن التقسيم المتساوي، بحضور الأكاديمي “حجاي إيلرخ”، الأستاذ المتخصص في الشؤون الأفريقية بجامعة تل أبيب ومؤلف كتاب “الصليب والنهر.. مصر وإثيوبيا والنيل”. وكان من أهم الحاضرين أيضا السفير الإثيوبي في إسرائيل، وكذا سفيرا جنوب السودان وغانا.

وبدا من مسار النقاش أن هناك اتفاقا على أن القيادتين المصرية والإثيوبية تتفهمان أن مرحلة جديدة في التاريخ قد بدأت وبرزت، وأنه مهما طالت المفاوضات فإنها لا تعني شيئا بالنسبة لوجود السد وعملية الملء المرتبطة بتشغيله، وستتحكم إثيوبيا في النيل وبما يؤكد أن هذا ليس مجرد سد ولكنه أداة للتحكم الاستراتيجي في النيل.

وهناك العديد من الدراسات والبحوث التي أكدت على مطامع إسرائيل في حوض النيل. وقد أكسبتها الندوة المشار إليها سابقا حجية إضافية، فكتاب المرحوم “كامل زهيري” تحت عنوان “النيل في خطر: مشروعات تحويل مياه النيل، من هرتزل إلى بيجن (1903-1980)” الصادر عام 1980؛ تناول قضية التطلعات الإسرائيلية للحصول على حصة في مياه نهر النيل قبل تأسيس الكيان الصهيوني ذاته. ومن أراد تفاصيل ذلك فعليه أن يراجع هذا الكتاب العمدة في هذا الشأن، خصوصا لاعتماده على عدد من المصادر والوثائق المهمة، من أبرزها يوميات هرتزل الكاملة المنشورة في نيويورك عام 1960، بعد أكثر من 50 عاما من وفاته، وعلى وثيقتين مهمتين نقلهما زهيري إلى العربية لأول مرة، ألا وهما: نص مشروع امتياز توطين اليهود في سيناء الذي عرض على اللورد كرومر وبطرس غالي، رئيس النظار المصري، ونص تقرير البعثة الفنية التي أرسلتها الحكومة البريطانية إلى سيناء، بالاتفاق بين هرتزل والزعيم السياسي البريطاني “جوزيف تشمبرلين”.

كما أن لـ”هرتزل” اقتراحا على “لانسدون”، وزير خارجية بريطانيا، لمواجهة مشكلة ندرة المياه في تلك المنطقة بمد أنبوب على عمق كبير تحت قناة السويس لضخ مياه النيل إلى شبه جزيرة سيناء. وقد يشير ذلك إلى قرينة مهمة تتمثل في بناء تلك السحارات سبق وأشرنا إليها، ولعل الأيام المقبلة قد تكشف عن الارتباط الوثيق بين هذه السحارات وأزمة السد وعلاقة الكيان الصهيوني بذلك، خصوصا أن مطامع الكيان الصهيوني أكيدة وموثقة في هذا السياق، وأنه يذهب لأبعد من مجرد الحصول على المياه وإنما لاستخدامها كأحد أهم عناصر الاستراتيجية الصهيونية في صراعها مع الدول العربية. ويعد نهر النيل درة تاج هذه المعركة بعد أن استطاعت أن تستغل نهر الأردن في التأثير على الأردن وفلسطين.

إن شعار “تحيا مصر” ليس مجرد كلمات تطلق أو هتافات حنجورية تصدر، ولكن “تحيا مصر” ما دامت تحافظ على أمن الوطن وأمان المواطن وتحمي مقدرات الوطن والشعب ومستقبله، ومن ثم فإن الأمن القومي المصري لا يُهدد في حقيقة الأمر إلا ووجدت الكيان الصهيوني خلف ذلك، وهو تهديد ليس لأمن الوطن فحسب، ولكن لأمن المواطن في بر مصر.