نشر المقال في “عربي21” بتاريخ: 16 نوفمبر 2021

هناك مسائل تشكل مداخل جوهرية لنقض الأوضاع في مصر ومحاولة تلمس تلك التغيرات الكبرى التي حدثت في المجتمع وفي الدولة، خاصة بعد ثورة 25 يناير، والتي عاجلها انقلاب الثالث من تموز/ يوليو في محاولة لوأد عمليات المطالبة بالتغيير لمفاصل النظام المستبد الذي يحكم مهما اختلفت أشكاله، ومهما كانت فتراته. وضمن هذه المسائل المهمة والمفصلية نواجه في كل يوم وفقا لسياسات الاستبداد المستخف المركب؛ عمليات إلهاء هنا أو هناك، حتى لو أدت إلى تسطيح وعي المجتمع، وتزييف الوعي لعموم الناس، بل وحتى لو أدى ذلك إلى نزاعات مجتمعية، وإثارة نعرات طائفية، والإسهام في زرع وصناعة الكراهية.

عمليات كلها تدخل في سياق مخابراتي يحاول إلهاء الناس بقضايا تتسم بكثير من الافتعال الذي يستدعي حالة من الانفعال، في سبيل شغلهم عما هو أهم، أو عن نقد حقيقي لأحوال مجتمعهم. فهذه المحاولات الإلهائية التي يشهدها عموم الناس تنال من صميم حياتهم ومعاشهم، وتؤثر على حاضرهم ومستقبلهم، إنها سياسة الإلهاء حتى لو راكمت في المجتمع كثيرا من المفاسد الفكرية والأخلاقية والمجتمعية.

عمليات كلها تدخل في سياق مخابراتي يحاول إلهاء الناس بقضايا تتسم بكثير من الافتعال الذي يستدعي حالة من الانفعال، في سبيل شغلهم عما هو أهم، أو عن نقد حقيقي لأحوال مجتمعهم. فهذه المحاولات الإلهائية التي يشهدها عموم الناس تنال من صميم حياتهم ومعاشهم

ولعل هذا الأمر يتعلق بموضوع آثرنا أن يكون عنوانا لهذا المقال، ذلك أن الصحف قد طالعتنا بالإشارة إلى صدور “تقرير مؤشر سيادة القانون“، وكيف أن مصر قد وقعت في مرتبة متأخرة في ذيل تلك القائمة؛ لا تعقبها إلا ثلاث دول أخرى من مجموع 139 دولة شملها التقرير الصادر عن مؤسسة “مشروع العدالة العالمية”.

ولعله يجب أن نتحدث عن محورية الفكرة التي يعالجها ألا وهي “سيادة القانون”، وأن نشير إلى كتاب مهم لـ”دينيس لويد” اتخذ له عنوانا “فكرة القانون”، والذي يؤكد فيه أن “القانون إحدى المؤسسات الجوهرية في حياة الإنسان، بحيث إذا غاب القانون تستحيل الحياة إلى شيء مختلف جداً عما هي عليه اليوم”، مع إشارته إلى أنّ القانون وحده ليس كافياً لتحقيق التقدم المُبتغى، وإنما هناك علاقة وثيقة بين القانون والقواعد الخلقية.

وكذلك كنت قد طالعت بشكل مبكر كتابا للأستاذ الدكتور “ثروت أنيس الأسيوطي” وهو كتاب في مبادئ القانون، يتميز هذا الكتاب بإشارات مهمة استغرقت صفحات فيه حول “الوظيفة الاجتماعية للقانون”، ليؤكد أن القانون يهدف بالأساس إلى خدمة المجتمع والتأكيد على لحمته وتماسكه، وشبكة ونسيج علاقاته الاجتماعية التي تحافظ عليه وتحفظه.

بين هذا التنويه الذي يشير إليه كاتب فكرة القانون، وبين هذا التأكيد المهم على الوظيفة الاجتماعية للقانون عند الأسيوطي؛ تبدو لنا أهمية فكرة محورية ألا وهي تجسير الفجوة بين حقائق المشروعية وأصول الشرعية، أي بين ما هو مشروع قانونا، وما يشكل رضا اجتماعيا يؤثر تأثيراً إيجابياً على العلاقات الاجتماعية ولُحمة الجماعة الوطنية.

ولعل هذا الأمر الذي يتعلق بالربط بين فكرة الإلزام وفكرة الرضا؛ إنما يجد له السند الأقوى في الآية القرآنية التي تؤصل لذلك الجمع المهم بين حالة الإلزام وحال القبول والرضا الذي لا يشوبه أي إكراه: “أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ” (هود: 28).

هذه القضية الأساسية التي أشرنا إليها في تلك المقدمات تعني الكثير حينما تقوم السلطة المستبدة بإفساد هذه الفكرة الجوهرية التي تتعلق بوظيفة القانون، وتحاول بكل شكل من الأشكال أن تجعل من سيادة القانون ليس إلا ترجمة لسيادة زمرة معينة تحاول أن تستأثر بمصالحها الأنانية على حساب الدولة والمجتمع

هذا الربط المعجز بين فعل الإلزام المفضي إلى الامتثال، وحقائق الرضا النافية للإكراه، إنما يشكل قاعدة تأسيسية في إقامة المجتمعات والعمل على نهوضها ومراعاة كل ما يتعلق بأصول النظام العام والآداب العامة الحاكمة لتلك المجتمعات، وبما يشكل حالة إيجابية للمواطنة وفي علاقات الدولة والمجتمع، وبما يؤسس لعلاقة سوية بين الحرية والأمن والأمان. فممارسة الحرية لم تكن بأي حال من الأحوال خصماً من الأمن، ولم يكن تحقيق الأمن في كل الأحوال على حساب حقيقة الحرية وجوهرها، ولعل ذلك يؤكده المعنى الذي يربط بين المشروع قانوناً والمقبول اجتماعياً ومجتمعاً.

هذه القضية الأساسية التي أشرنا إليها في تلك المقدمات تعني الكثير حينما تقوم السلطة المستبدة بإفساد هذه الفكرة الجوهرية التي تتعلق بوظيفة القانون، وتحاول بكل شكل من الأشكال أن تجعل من سيادة القانون ليس إلا ترجمة لسيادة زمرة معينة تحاول أن تستأثر بمصالحها الأنانية على حساب الدولة والمجتمع ومؤسساتهما الناهضة والفاعلة. ومن ثم فإن هذا النظام المستبد يسعى ومن كل طريق لتفريغ القانون من فكرته الجوهرية والأساسية التي تحدث عنها “لويد”، ويقصي كل أمر يتعلق بتلك الوظيفة الاجتماعية والمسؤولية المجتمعية حيال إرساء القانون والتمكين لسيادته.

ويعد ذلك من شأن المواطنة وجوهريتها حينما تتعلق بالالتزامات من جانب، وبالحقوق من جانب آخر، وتجعل ارتباط الحق بالواجب والواجب بالحق عملية تبادلية وتعاقدية تُحدث كل الآثار الإيجابية في عالمي التماسك والفاعلية في علاقات المجتمعات والأمم.

ولعل المعنى البسيط الذي يكمن في حقائق القاعدة القانونية واتسامها بالعموم والتجريد والتجرد لهو من أصول المساواة العامة للحفاظ على المواطنة حقوقاً وواجبات، وبنياناً وغايات.

تطبيق القانون جزء لا يتجزأ من حقائق سيادته وجوهرية فكرته، وأصل من أصول وظيفته الاجتماعية الإيجابية الحافظة لعلاقات الدولة والمجتمع في حالة سوية، والأمن والحرية في حالة متوازنة، والالتزام والرضا في حالة تبادلية حقائق بعضها من بعض

ولذلك، فإن تطبيق القانون جزء لا يتجزأ من حقائق سيادته وجوهرية فكرته، وأصل من أصول وظيفته الاجتماعية الإيجابية الحافظة لعلاقات الدولة والمجتمع في حالة سوية، والأمن والحرية في حالة متوازنة، والالتزام والرضا في حالة تبادلية حقائق بعضها من بعض.

ومن هنا فإن المسألة التي تتعلق بالتشريع والقانون مسألة جوهرية، والتزام الحقائق المجتمعية بصددها قضية لا يجوز بأي حال نقضها أو نسخها، ولا يمكن لتنظيم الحقوق والواجبات أن يكون نفيا لها، “فتنظيم الحق ركن فيه لا ينقضه ولا ينفيه”، وإن الظلم في عملية التطبيق القانوني لهو انتهاك لأصل سيادة القانون حينما يطبق القانون بأكثر من معيار، فلا يطبق القانون إلا على الضعيف أو يستهدفه، في إشارة إلى تلك السنة السيئة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه: “كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ”، ويقسم عليه أفضل الصلاة والسلام: “وَأيْمُ اللهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا”.. إنها السيادة القانونية التي لا تفرق بين فرد وفرد، أو مواطن ومواطن، ضمن حقائق المساواة العامة، والكرامة الإنسانية التي أسبغها الله تعالى على كل إنسان.

ومن هنا فإن النظر إلى هذا التدني لترتيب مصر ضمن مؤشر سيادة القانون إنما يشكل في الحقيقة انتهاكا؛ ليس فقط للقانون بل لتطبيقه، بل استخدام القانون لأهداف معينة في تفسيخ المجتمع، وتمزيق أوصال شبكة علاقاته الاجتماعية، تحت دعاوى كثيرة.

هذا التدني لترتيب مصر ضمن مؤشر سيادة القانون إنما يشكل في الحقيقة انتهاكا؛ ليس فقط للقانون بل لتطبيقه، بل استخدام القانون لأهداف معينة في تفسيخ المجتمع، وتمزيق أوصال شبكة علاقاته الاجتماعية، تحت دعاوى كثيرة

ولعلنا هنا نستحضر المؤشر الأكبر في هذا المقام، فقد أشرنا في البداية إلى ثورة يناير التي كانت تهدف ضمن ما تهدف إلى محاولة تغيير الاختلالات الهيكلية في العلاقات المجتمعية، وكذلك في علاقات الدولة والمجتمع، ضمن حالة الاستبداد التي عمت وطمت، والفساد والإفساد الذي انتشر واستشرى.

فإذا أردت أن تتعرف على مؤشر جوهري فلتنظر أين هؤلاء الذين أسهموا بسهم في تلك الثورة؟! إنهم بين سجون الاعتقال، وعمليات قتل خارج إطار القانون، وكذلك في المنافي، حيث ضُيق عليهم وطوردوا حتى في تلك البلاد التي لجأوا إليها. وقل لي أين هؤلاء من استبدوا؟ أو من قامت عليهم الثورة؟ إنهم يرفلون في أموالهم وكلهم خارج المعتقلات والسجون؛ وقد نالوا البراءة الكاملة في “مهرجان البراءة للجميع”، بل إن بعض هؤلاء عادوا مرة أخرى يمتلكون الشركات، وتذاع لهم الإعلانات مثل “حديد عز” الذي عاد.

هنا فقط يمكن أن تعرف وتتعرف كيف سار هؤلاء بالقانون فأحكموا قبضتهم عليه وبه، وتحكموا في رقاب الخلق ظلما وعدوانا، وافتراءً وتلفيقاً، وما كانت أجهزة النيابة العامة أو القضاء إلا أدوات في إدارة هذا الظلم وانتهاك كل سيادة للقانون، فما استحقوا إلا أن يكونوا في الدرك الأسفل من مؤشر سيادة القانون والعدالة.