نشر المقال في “عربي21” بتاريخ: 21 ديسمبر 2021
كنا قد تحدثنا عن منظومة الاستبداد، وكيف تزيد حدته حينما يحاول المستبد أن يركز كل السلطات في يده، وأن يتغول بطغيانه على السلطات الأخرى من سلطة تشريعية أو قضائية، وأكدنا أنه بعد الانقلاب ونظام الثالث من تموز/ يوليو تحول الوضع في مصر إلى مشهد مأساوي شديد الخطورة؛ انتقل من تلك المؤسسات “الديكورية” التي صبغت تلك الحالة في شعار أكدنا عليه في حينه “دولة كأن”. وأشرنا إلى تحوله في إطار حالة الاستبداد المركب التي نعيشها إلى “دولة الضد”، فصار القضاء لا يقوم بمهمته الأساسية في إقامة العدل وإرساء قواعد الإنصاف، وصيانة الحقوق واقتضاء كل ما يتعلق بالمظالم؛ بل انخرط في تقديم أغطية قانونية وقضائية زائفة لحالة من الظلم في ما اشتهر من قول تناقلته الألسن “كله بالقانون”.
وضمن حالة طوارئ امتدت وما تزال حتى ولو انقضت شكلا؛ فعندما قام النظام بإلغائها، فقد حرص على يكون هذا الإلغاء شكليا، فقد عمد النظام إلى تحويل حالة الاستثناء إلى بنية قانونية وتشريعية تجعل من حالة الطوارئ عملاً قانونياً مستداما أو يكاد، فضلا عن شأن المستبد في تكريس سياسات طغيانه، وفي القيام بكل ما من شأنه مواجهة كل ما يتعلق بهواجس التغيير لتلك المنظومة الطغيانية الفاشية في سياق محاصرة كل مسالك التغيير ومشاهده، خاصة تلك التي تمثلت في حال الثورات العربية، وعلى رأسها ثورة الخامس والعشرين من يناير التي لم يتوان النظام لحظة في تشويهها وإلصاق كل السلبيات بها والتأكيد من رأسه المنقلب مرارا وتكرارا على أنه لن يسمح بحدوثها مرة أخرى.
أحكم قبضته على كافة المؤسسات ضمن عملية اختطاف كبرى، بما فيها مؤسسة العدالة التي سُلبت بكل تكويناتها ومكوناتها، وهو ما أفقد المواطنة أي سند كان يمكن لها أن تلوذ به في إطار الاستقلال القضائي والقضاة المستقلين الأحرار الذين شكلوا بحق حائط صد
ومن هنا فقد أحكم قبضته على كافة المؤسسات ضمن عملية اختطاف كبرى، بما فيها مؤسسة العدالة التي سُلبت بكل تكويناتها ومكوناتها، وهو ما أفقد المواطنة أي سند كان يمكن لها أن تلوذ به في إطار الاستقلال القضائي والقضاة المستقلين الأحرار الذين شكلوا بحق حائط صد؛ في مواجهة سلطات الطغيان والاستبداد وشبكات الظلم التي تمكنت من البلاد والعباد.
طال الاختطاف مؤسسات النيابة العامة، وجهات التحقيق، فضلا عن محاولة لمحاصرة نقابات المحامين وتقليم قواها الحقيقية في الدفاع عن وظائفها وأدوارها؛ فجرى اعتقال العديد من المحامين أثناء قيامهم بواجبهم الوظيفي، وكذا محاولة التضييق على مؤسسات المجتمع المدني خاصة المؤسسات الحقوقية، ومحاولة تقييدها وتعطيلها عن القيام بواجباتها في هذا المجال، واتهام من يقومون عليها ومنعهم من السفر ومصادرة أموالهم، ضمن خطة ممنهجة تطلق يد مؤسسات الاستبداد وسياساته في القيام بخنق المواطن في كافة حقوقه واغتصاب المواطنة في كافة أشكالها، بدءا من مصادرة حقوق ذلك المواطن التأسيسية التي تتعلق بكيانه، ومحاصرة حقوقه المدنية والسياسية؛ وضنك حقوقه المعاشية ضمن عملية جباية كبرى وغلاء في الأسعار وتآكل في الأجور والتضييق عليهم في المعاش، في سياق النيل من كل ما يتعلق بضرورات حياتهم وحاجات معاشهم وتدبير شأنهم والسياسات الممنهجة لإفقارهم.
إن مبدأ استقلال القضاء يعد من المبادئ الجوهرية التي يلوذ بها المواطن كحائط صد لكل ظلم يقع عليه، وكسند لاقتضاء الحقوق في علاقته بالآخرين وفي علاقته بالسلطة التنفيذية. ويعز هذا المبدأ عندما يفتقد من ينادي به أو يدعو إليه من داخل القضاء في الوقت الراهن، مثلما كان يفعل المستشار “الحكيم” طارق البشري الذي أكد في كتابه “القضاء المصري بين الاستقلال والاحتواء” أن “ثمة أمرين متلازمين لا يكتمل التكوين القضائي إلا بهما؛ أولهما: نظامي يتعلق بالتكوين المؤسسي المستقل للجهاز القضائي، وثانيهما: نفسي تربوي يتعلق بتكوين القاضي الإنسان. وكما أنه لا كفاءة لعالم في أي من فروع العلم الطبيعي أو الاجتماعي إلا “بالصدق”، ولا كفاءة لجندي مقاتل إلا “بالشجاعة”، ولا كفاءة لرائد فضاء إلا “بروح المغامرة”، ولا كفاءة لتاجر إلا “بروح مضاربة”، فإنه لا استقلال لقاض ولا حياد له إلا بروح استغناء”.
مبدأ استقلال القضاء يعد من المبادئ الجوهرية التي يلوذ بها المواطن كحائط صد لكل ظلم يقع عليه، وكسند لاقتضاء الحقوق في علاقته بالآخرين وفي علاقته بالسلطة التنفيذية
ويتأكد لنا افتقاد هذا المبدأ بمراجعة ما أكد عليه من قبل القاضي الجليل يحيي الرفاعي من أن “القضاء في كل أمة، هو الحصن الحصين الذي يحمي كل مواطن فيها – حاكماً كان أو محكوماً – من كل حيف يراد به في يومه وفي غده وفي مستقبله، وإذا كان القضاء بهذا مأمن الخائفين وملاذ المظلومين، وسياج الحريات، وحصن الحرمات، فإن قوته تكون من غير شك قوة للمستضعفين، وضعفه يكون إيذاناً بوهن ضمانات المتقاضين إذا لم يقم القضاء على أساس متين من الاستقلال والكفاية والحيدة، وإذا لم يتحصن بالضمانات الكاملة التي تكفل له أن يضطلع بمسئولياته الخطيرة، انهار أساس الحياة الديمقراطية في البلاد”.
ونضيف: وإذا ما استفحل هذا الانهيار ضرب أساس الحياة ذاتها، كما هي حالنا اليوم في ظل الاستهتار بحياة المواطنين داخل السجون وخارجها، والاستهتار بحياة شيوخ وشباب لا جريرة عليهم ولا جريمة ارتكبوها إلا إيمانهم بحقوق الإنسان وحرياته من عيش، وحرية، وكرامة وإنسانية، وعدالة اجتماعية.
وفي ضوء هذا يمكن تفسير الوضع الراهن في مصر ضمن ما يقوله أحد أساتذة القانون المبرزين، أنه “في دولة الأخ الأكبر، دولة الاستبداد، هناك للعدالة مصيبتان، صغرى وكبرى، الصغرى أن يعاني الناس من القهر والظلم وانتهاك المحرمات، أما المصيبة الأكبر والكارثة العظمي أن يجري ذلك باسم القانون والقضاء، هنا نكون أمام حالة من تزوير المعنى والقيمة والرمز”.
نقول كل ذلك ضمن أحكام صدرت في مصر مؤخرا، وخصوصا في قضية خلية الأمل؛ المتهم فيها زياد العليمي وهشام فؤاد وحسام مؤنس، وقضية نشر أخبار كاذبة؛ المتهم فيها علاء عبد الفتاح ومحمد الباقر ومحمد أكسجين. ورغم أن الفارق بين القضيتين عدة أسابيع، إلا أن الإجراءات المتبعة والأحكام الصادرة والتعسف القانوني مع المتهمين وأهاليهم واحدة. ومن المؤسف حقا أن تسير القضية وفق قواعد تفتقر إلى العدالة، بل إنها خارج إطار المعقول والمقبول.
رغم أن الفارق بين القضيتين عدة أسابيع، إلا أن الإجراءات المتبعة والأحكام الصادرة والتعسف القانوني مع المتهمين وأهاليهم واحدة. ومن المؤسف حقا أن تسير القضية وفق قواعد تفتقر إلى العدالة، بل إنها خارج إطار المعقول والمقبول
ووفقا للمحامين عن المتهمين وكذلك أهاليهم، فإن المتهمين جميعهم يخضعون للحبس الاحتياطي بمدد فاقت الحد الأقصى للعقوبة، كما أنهم لم يخضعوا للتحقيق إلا في جلسات محدودة للغاية ومفاجئة. وأسفرت التحقيقات عن اتهامات لا أساس لها قانونيا أو منطقيا، ومن ذلك على سبيل المثال اتهام علاء عبد الفتاح بإعادة نشر (شير) لأحد المنشورات (بوست) على فيسبوك؛ نشره أحد المواطنين عن سجين مات بسجن العقرب تحت تأثير التعذيب، وفقا لرواية صاحب المنشور، وقامت النيابة العامة بتكييف مجرد مشاركته لهذا المنشور بتهمة نشر أخبار وبيانات كاذبة داخل وخارج البلاد.
هكذا تبدو أحوال المواطنين في مصر واتهامهم بتهم مفبركة أو مفتراة، تقوم على التصيد انتقاماً من جانب تلك المنظومة الطغيانية من كل هؤلاء الذين أسهموا في ثورة يناير؛ فمثل هذه القضايا في حقيقة الأمر هي محاكمة لتلك الثورة أكثر من كونها محاكمة لأشخاص بعينهم. ومع كل معارضة يمكن أن تصدر لأي من سياسات نظام الثالث من تموز/ يوليو؛ تكون تلك التهمة الجاهزة الانتماء إلى جماعة إرهابية غير قانونية، فإن لم يكن منهم صار بذلك محرضاً ومعضداً لتحقيق أهداف هذه الجماعة. وأي كانت تلك التهمة التي في أصلها وجوهرها تشكل حالة مختلقة، فإن الأمر يجعل من هذا الاتهام اتهاما نمطيا تطلقه جهات معينة من داخل المنظومة الأمنية، في محاولة للنيل من هؤلاء الشباب الذين حدثوا أنفسهم يوما ما بالتغيير، وضرورة الإصلاح.
إنه الاختلال الرهيب الذي حدث في منظومة العدالة في مصر والذي اتخذ أشكالا لا تطاق، وتحت هذا العنوان تخرج انتقادات من هنا وهناك في الداخل والخارج قبل تلك الأحكام وبعدها، لتعبر عن خيبة أملها لحال حقوق الإنسان ومشاهد تلك الانتهاكات اليومية والشنيعة والمفضوحة للدستور وحقوق المواطنة تحت غطاء القانون والاتهامات الملفقة، لتحدث ظلماً مركباً في إطار من “الظلم بالقانون” وأحكام القضاء الموصوف زيفا بـ”الشامخ”، بين “عدالة مسلوبة” و”مواطنة مغصوبة”.