نشر المقال في “عربي21” بتاريخ: 5 يناير 2022

تهب علينا نسمات الثورات العربية بذكريات مفعمة بأجواء التغيير الذي صاحب تلك الثورات، وخصوصا ثورة يناير التي فتحت الباب واسعا للتغيير في نظام استبد بوطنه ومواطنيه. حينما تأتي تلك الأيام يستشعر المستبدون بالخطر، ويشعر هؤلاء الذين آمنوا بتلك الثورات أن التغيير آت لا محالة، وأن تلك الثورات أحدثت في عالمنا العربي متغيرات ومعطيات لا يمكن أن تعود بأي حال بالمنطقة إلى ما كانت عليه قبل تلك الثورات، حتى لو قامت أحلاف المضادين للثورات بكل عمل من شأنه أن يلتف على تلك الثورات ويحاصرها بهدف القضاء عليها قضاء مبرما حتى يفقد الناس كل أمل في التغيير، وتعشش روح اليأس والإحباط بين الشباب الذين طالما حلموا بتغيير ينشد حريات الناس وكرامة عيشهم وعدالة اجتماعهم، بينما في المقابل يستنفر المستبد للتأكيد على أن تلك الأيام التي اقترنت بالثورات لم تكن إلا جالبة للخراب، ومهددة للكيان، ومضيعة للأوطان، هذا الاستنفار من الطاغية يوجه فيه الحديث لأعوانه، ويحذر فيه من أعدائه.

ومن أهم الآليات والمداخل التي يسلكها المستبد في هذا المقام أنه يحاول دائما أن يربط هذه الثورة بكل نقيصة والآثار السلبية التي عرفتها مصر عقب ذلك، ويسند كل تلك السلبيات إلى الثورة في ذاتها لا إلى استبداده وممارساته وسياسات طغيانه، ومن ثم – ومع تكراره لتلك الأوصاف السلبية – يحاول أن يقوم بعمليات غسيل مخ جماعي لكل هؤلاء الذين انخرطوا في هذا العمل وآمنوا به، إذ أنه لا يترك فرصة إلا ويكرر موقفه من الثورة قائلاً: “أنا لن أنسى 2011.. لن أنساها والمفروض يا مصريين متنسوهاش أبدا في كل إجراء وخطوة بتتعمل.. اللي أنقذكم ربنا وحده اللي أنقذ البلد دي من مصائر الدمار والخراب لأجل خاطر الـ100 مليون والناس الغلابة ولحكمة إلهية، طيب أكرر المسار ده تاني؟ لا والله، الكلام ده يزعلكم؟ متزعلش إلا من نفسك وإنك تكون سبب خراب البلد ودمارها”..

من أهم الآليات والمداخل التي يسلكها المستبد في هذا المقام أنه يحاول دائما أن يربط هذه الثورة بكل نقيصة والآثار السلبية التي عرفتها مصر عقب ذلك، ويسند كل تلك السلبيات إلى الثورة في ذاتها لا إلى استبداده وممارساته وسياسات طغيانه

إن هذا الخطاب إنما يثبت أن السيسي وزبانيته وكامل جوقته الإعلامية وكلاب حراسة استبداده وطغيانه وحَمَلة المباخر من أعوانه؛ لا يزالون مسكونين بالخوف من هذه الثورة وما حملته من أشواق التغيير، ذلك أن تكرار هذا الخطاب على هذا النحو وبشكل موسمي وبمناسبة ومن دون مناسبة؛ إنما يؤكد هذا الهاجس الذي لا زال يسكن هؤلاء جميعا.

وضمن هذه المشاهد فإن الوسط الذي يحيط بهذا الخطاب من أخبار هنا وهناك يفيض ويفوح بأخبار من الفساد العفن الذي ساد وعم، والذي تراكم فصار ينخر كالسوس في كيان المجتمع. ولا يدفع تكلفة الفساد هذا إلا هؤلاء المواطنين الذين صاروا محلاً لجباية مستمرة تفنن فيها أهل الاستبداد والطغيان في اختراع مكوس وضرائب ما أنزل الله بها من سلطان.. هذا الفساد الذي شكل بيئة خصبة لجملة من التسريبات؛ أصبحنا نعيش فيها ليل نهار في سياق يكشف بعض المستور ليؤكد أن مساحات الفساد الكامنة والخفية لا زالت أوسع بكثير مما يعلن عنه، بل إن الحديث عن مقاومة الفساد ضمن بعض الخطابات في ظل هذا النظام الاستبدادي ليست إلا إعلانا عن تصفية حسابات بين أهل الفساد والاستبداد ذاتهم، ضمن معارك لا يعرف لها سبب ولا تتحدد بميدان؛ إلا أن تكون صراعا بين أفراد تلك “العصابة” على أنصبتهم من نهب ثروات البلاد ومقدرات العباد.

ولعل هذه الصورة التي تحمل أخبارا يومية تجعل من هذه المنظومة التي يبدو أنها صارت تعلن عن فسادها من خلال هذه الصراعات؛ إنما تشكل في حقيقة الأمر نوعاً من تصفية الحسابات، فيصير أمر الفساد مركباً حينما يكون الإعلان عن بعض هذا الفساد في حد ذاته مؤشرا على تراكم هذه الظاهرة الخبيثة التي تفعل فعلها وتسهم في خراب المواطن وتخريب المواطنة.

إن أعوان المستبد هم في حقيقة الأمر ليسوا إلا أعداء المواطنة وحقوقها، الذين لا يتحدثون إلا عن حقوق المستبد في مواجهة ذلك الانتهاك اليومي لحقوق المواطنين الأساسية والمدنية، فنرى أن تلك المؤسسات المنوطة بالعدالة تقوم في أرض الواقع بتكريس حالة الظلم من جراء منافع يحصلون عليها في مبادلة قميئة، وكأنهم يأخذون تلك الرشوة في مقابل قيامهم بظلم الناس ليل نهار.

يقوم هؤلاء من سدنة الإعلام الذي يواكب تلك السلطة الطاغية وشبكة الفساد المتفشية؛ فيسوغون كل هذه الأمور ويدافعون عن مؤسسات الاستبداد وشبكات الفساد معاً، ويحاولون إقناع المواطن ليل نهار بمشروعات إنجاز وهمية

وفي هذا الإطار أيضا يقوم هؤلاء من سدنة الإعلام الذي يواكب تلك السلطة الطاغية وشبكة الفساد المتفشية؛ فيسوغون كل هذه الأمور ويدافعون عن مؤسسات الاستبداد وشبكات الفساد معاً، ويحاولون إقناع المواطن ليل نهار بمشروعات إنجاز وهمية، وكذلك حال مصر الذي انتقل، وإنجازات زائفة يصفونها بالإعجاز، وما هي بإعجاز إلا أن تكون كما أكد عليه مرة بعد مرة “أمة العوز”، وبات الأمر من ذلك الطاغية يبشر الناس بالحرمان والفقر والخراب، مؤكداً أن “على كل شاب يريد أن يتزوج أن يتحمل مسؤوليته كاملة”، ويدعمه في كل ذلك أعوانه من وزراء لا يجيدون إلا خطاب “تمام يا فندم”. وبات كل ذلك يعبر عن حال البلاد، من تآكل الحقوق، وزيف الخطاب، ليمكّن بعد ذلك لحالة من غسيل المخ الجماعي.

وربما نشهد على ذات الصعيد الحديث عن آمال مزعومة وأحلام موهومة ومشاريع متوهمة لرفع الروح المعنوية، هكذا يقول الطاغية المستبد عن زيف مشاريعه وأنه يقوم بتلك المشاريع الفاشلة من دون دراسات جدوى؛ لأنه لا يطيق تلك الدراسات ولكنه فقط يسعه ذلك الفشل لتلك المشاريع وذلك الاقتراض الذي وصلت ديونه الداخلية والخارجية إلى أن ما فاق الحد المعقول والمقبول.

أما عن غلاء الأسعار ورفع الدعم وإلغاء بطاقات التموين فحدّث ولا حرج، ثم بعد ذلك يطلق علينا مشاريع الكباري وغيرها، وهي لم تكن بأي حال من الأحوال إلا “سبوبة فساد” استشرى، وعسكرة للاقتصاد أدت إلى هيمنة العسكر على كل ما يتعلق بمجالات الاقتصاد والعمران. هل يمكنك أن تصدق مثلا أن هذه السلطة الطاغية تفكر في وقف تصاريح البناء في بر مصر لمدة عشر سنوات لتتيح للعسكر احتكار هذا القطاع وبناء مشروعات إسكانية ينفردون بها، حتى يقوموا من خلالها بتوزيع الهبات والعطايا على شبكات فساده واستبداده؟

حينما يقوم المستبد باسم الإصلاح بأعماله الزائفة، فإنه في حقيقة الأمر يمارس خرابا لعمران الحياة سواء تعلق الأمر بحياة الناس وعلاقاتهم أو معاشهم، وأن تكلفة الظلم لحماية المستبد وتكلفة فساده إنما تشكل عبئاً يأكل كل حقوق المواطنة في أصل الوجود والكيان

قلنا مرارا وتكراراً إنه حينما يقوم المستبد باسم الإصلاح بأعماله الزائفة، فإنه في حقيقة الأمر يمارس خرابا لعمران الحياة سواء تعلق الأمر بحياة الناس وعلاقاتهم أو معاشهم، وأن تكلفة الظلم لحماية المستبد وتكلفة فساده إنما تشكل عبئاً يأكل كل حقوق المواطنة في أصل الوجود والكيان، وفي معاش كريم، وفي حريات الإنسان، وفي سياق العدالة المفقودة في كل مكان، إنها أمور تتعلق بهذا الاستبداد الذي هو أصل كل داء. وبحسب قول الكواكبي فإن “الاستبداد داء أشد وطأة من الوباء، أكثر هولاً من الحريق، أعظم تخريباً من السيل، أذل للنفوس من السؤال”.

وبدلاً من أن نتحدث عن دولة الحق والحقوق للمواطنين التي هي أساس عدلها وعمرانها، فإن هؤلاء الذين وطنوا أنفسهم على خدمة الاستبداد انتقلوا إلى الحديث عن عظمة المستبد وإنجازاته المتوهمة، فغلب طغيان المستبد ورضى عموم الناس بحقوق مسلوبة أو مغشوشة، وصار هؤلاء يتحدثون عن حقوق المستبد وأعوانه؛ لا حقوق الوطن ومواطنيه.