نشر المقال في “عربي21” بتاريخ: 1 فبراير 2022
لا يزال النظام المستبد في مصر بسياساته الاجتماعية والاقتصادية يحاصر المواطن ويكبل المواطنة ويصيب الوطن في مقتل، فلا أمن قوميا يهمه، ولا أمن إنسانيا يقيمه، بل هو تهديد للمواطن والمواطنة والوطن جميعا.. تتفاقم أحوال المواطن فتزداد سوءاً ضمن مصادرة لحقوقه التأسيسية والأساسية، فتهدر كامل حياته وتبدد كل كيانه.
المواطن الذي أصابه الوهن والهوان لا يزال يلهث لتدبير معاشه، تحوطه مؤشرات “المعيشة الضنك” التي ضيقت عليه حياته، رغم تلك الأرقام المزعومة حول قلة الفقر أو رضا كاذب من الناس، فما الأمر إلا في حقيقته من جملة ما يقوم به هذا النظام من تزوير للأرقام، وتزييف للأحوال. وأخطر ما يقوم به ذلك النظام ارتكابه لجريمة مركبة ومنكرة في حق الوطن والمواطن بمصادرة ليس فقط الواقع الآني البائس المُعاش، بل إنه يصادر المستقبل لأجيال قادمة بقروضه المستفحلة وديونه المتزايدة؛ وفوائدها المستحقة الباهظة التي لا تقف عند حد، فصارت تلك الديون أمراً يهدد برهن مصر وفتح الأبواب مشرعة للسيطرة على مقدراتها لكل من هب ودب.
ضمن صناعة المستبد الذي يصف حياة المصريين ووطنهم بـ”أمة العوز” يصرح السيسي في كانون الثاني/ يناير عام 2017: “أيوه إحنا بلد فقير.. وفقير قوي كمان”. وقد صاغ أحد المتخصصين في الأحوال الاقتصادية والمعاشية في مصر هذا التصريح في سؤال حوّله إلى عنوان لكتابه؛ الذي أكد فيه أن السيسي لا يمتلك أفقاً ولا رؤية لإخراج البلد من مأزقها الاقتصادي والسياسي الذي تسبب به أسلافه من جنرالات الجيش والمؤسسة العسكرية الذين حكموا مصر منذ عام 1952م حتى يومنا.
المواطن الذي أصابه الوهن والهوان لا يزال يلهث لتدبير معاشه، تحوطه مؤشرات “المعيشة الضنك” التي ضيقت عليه حياته، رغم تلك الأرقام المزعومة حول قلة الفقر أو رضا كاذب من الناس، فما الأمر إلا في حقيقته من جملة ما يقوم به هذا النظام من تزوير للأرقام، وتزييف للأحوال
ونؤكد أنه لعب دورا أخطر من ذلك بكثير، فقد ارتفع الدين المحلي في مصر من 1.8 تريليون جنيه مطلع تموز/ يوليو 2014 إلى نحو 4.3 تريليونات جنيه في آذار/ مارس 2020، وفي الوقت الحالي يبلع 5.5 تريليونات جنيه تقريبا. كما وصلت الديون الخارجية حتى أكتوبر 2021 م إلى 138 مليار دولار.
وبحسب العديد من الباحثين فقد وصل نصيب المواطن المصري من الديون إلى 1000 دولار، ومع ذلك فإن هذه الديون لا توجه إلى الصحة أو التعليم، فنصيبهما من الديون بحسب الدكتور خليل العناني ضعيف جدا وبالتحديد 0.73 مليار، أي لم يصل إلى المليار، ولكن بالتأكيد إلى الطائرات الرئاسية وشراء الأسلحة من أجل شرعنة النظام الانقلابي لدى حكومات الغرب، والطرق والكباري التي تستحوذ على هذه الديون بالأساس، لدرجة أن البعض يتندر على المنقلب السيسي من كثرة الجسور والكباري فأسموه “شيخ مشايخ الطرق والكباري”.
لا يمكن إنكار أن العالم يعيش حالياً في ظل العديد من المتغيرات والأزمات التي أنتجتها أزمة كورونا، وأن مصر متأثرة مثلها مثل باقي دول العالم لا شك في ذلك، ولكن تأمل السياسات الحكومية والتوجهات الانقلابية يكشف عن عملية إفقار ممنهجة، بدءا من عملية الاقتراض المسعورة، ومشاريع الروح المعنوية المغدورة، والتعويم ورفع الأسعار، وملفات الدعم المزعومة التي يتم استغلالها لسحق المواطن وتشكيل عقلية القطيع من خلال وضعه في خانة “المواطن المعدم”؛ بانتهاك حياته المعيشية، وضروراته الأساسية والتي تؤثر على أصل حياته، ومقتضى بقاء كيانه، بالإضافة إلى التفنن في الجباية ونزع الملكيات الخاصة وهدم مساكن الناس على رؤوسهم وعدم الاهتمام بحياتهم، وكأنه ينقض الأمن الإنساني عروة عروة.
فلم يعد المواطن آمنا في سربه، أو معافى في بدنه، وتتآكل قدرته على توفير قوت يومه، وذلك إشارة إلى حديث النبي عليه الصلاة والسلام عن مرتكزات كيان الإنسان الأساسية التي يستند إليها في إقامة أمنه الإنساني. مثل هذه السياسات الممنهجة تكشف عن أن هذا النظام يستغل الأوضاع العالمية كغطاء لاستنزاف المواطن، وخنق وحصار المواطنة، وترسيخ استبداد النظام وفساده والقضاء على أي حقوق للأجيال الآنية والمستقبلية. فهو يعتبر أن خنق المواطنين اقتصاديا وتكبيلهم بالقروض وشغلهم بمعاشهم اليومي من جانب، يصرفهم عن السعي لتغيير نظام الحكم من جانب آخر لانشغالهم بتحصيل ضروراتهم.
مثل هذه السياسات الممنهجة تكشف عن أن هذا النظام يستغل الأوضاع العالمية كغطاء لاستنزاف المواطن، وخنق وحصار المواطنة، وترسيخ استبداد النظام وفساده والقضاء على أي حقوق للأجيال الآنية والمستقبلية
إنها صناعة المستبد لحال القطيع والتمكن من رقابهم، والتمكين لعملية خنوعهم وخضوعهم. وهو بهذه الصناعة لا يقوم إلا باحتراف صناعة الخراب من جهة ظلمه، فينقض العمران ويهدم البنيان والأوطان بلا أدنى مسؤولية، بل إن من بعض جوقته يسمون كل ذلك “جرأةً وإنجازاً”!
إن سياسات نظام الثالث من تموز/ يوليو الاقتصادية تستهدف بالأساس انكشاف الأمن القومي، وهو الأمر الذي أكده العديد من الخبراء المصريين والعالميين، وهو أمر واضح للعيان في سياسات النظام السياسية (انسداد أفق الوضع الداخلي، وتنامي العلاقات مع إسرائيل، والتنازل عن تيران وصنافير، والتفريط في مياه نهر النيل) أو الاقتصادية (من سياسات في الاقتراض الداخلي والخارجي بشكل غير مسبوق ضمن استراتيجية لرهن مصر والتفريط في مواردها ومقدراتها. وبحسب وصف الدكتور أحمد ذكر الله في دراسته القيمة “الاقتصاد المصري 2022- 2025: قراءة استشرافية” والمنشورة في المعهد المصري للدراسات، فالصورة شديدة القتامة؛ هناك تآكل مستمر لقدرات الموازنة العامة على الإنفاق على الخدمات العامة عاماً بعد الآخر، وتزايد للعجز التجاري والخدمي، بما يشكل ضغطا على موارد النقد الأجنبي، بحيث أن استمرار تدفق القروض الأجنبية واستقرار أذون الخزانة هما الضمانة لاستمرار سداد مصر لالتزاماتها، واستقرار سعر الصرف فيها) أو الاجتماعية (استمرار حالة الاستقطاب، والتأكيد على أن مصر شعبان، واستشراء حالة الفساد).
فمثل هذا الهدف الذي لا يمكن لأي حكومة وطنية مهما بلغ فسادها واستهتارها أن تقوم به؛ هو الهدف الحقيقي لانقلاب الثالث من تموز/ يوليو الذي لا يرى استمراره إلا تكريسا لهذا الوضع من انكشاف وإهدار والتفريط في أمن مصر، خدمة لأعدائها مقابل استمراره على كرسي العرش المصري.
مثل هذا الهدف الذي لا يمكن لأي حكومة وطنية مهما بلغ فسادها واستهتارها أن تقوم به؛ هو الهدف الحقيقي لانقلاب الثالث من تموز/ يوليو الذي لا يرى استمراره إلا تكريسا لهذا الوضع من انكشاف وإهدار والتفريط في أمن مصر، خدمة لأعدائها مقابل استمراره على كرسي العرش
الأكثر دلالة على ذلك هي الدراسة التي صدرت مؤخرا للدكتور يزيد صايغ بعنوان “محاربون أم رأسماليون”، وفيها يؤكد على أن المؤسسة العسكرية تسيطر الآن على محفظة اقتصادية ضخمة، منذ أن تسلّم عبد الفتاح السيسي سدّة الرئاسة في العام 2014، حيث تدير المؤسسة العسكرية المصرية ربع إجمالي الأشغال العامة في مجالَي البنية التحتية والإسكان، وتبني مناطق صناعية ومراكز نقل، وتنتج السلع الرأسمالية والمركبات والسلع الاستهلاكية المعمّرة والمواد الغذائية، وتقوم بمبيعات التجزئة، وتمتلك شركات إعلامية وفنادق، وتتولّى استخراج الرخام والمعادن. كذلك، يسيطر ممثّلو المؤسسة العسكرية على استخدام أراضي الدولة واستيراد البضائع أو الخدمات الأجنبية من قبل الجهات الحكومية، والتوسع في نزع الملكيات الخاصة حول بحيرة قارون، بالإضافة إلى مصادرة 37 جزيرة مصرية، رغم أن بعضها مأهول بالسكان منذ عشرات السنين، ما يعني أن الأمن القومي للوطن والأمن الإنساني للمواطن لم يعد يهم ذلك النظام إلا أن يثبت سلطانه وطغيانه.
لم يعد يخفى على أحد، سواء من جهات داخلية أو خارجية، رسمية أو غير رسمية، أن المواطن الفقير الذي يزداد فقراً ويحكم الحصار على كيانه وبنيانه هو من بات يتحمل العبء الأكبر لعمليات الاستنزاف الاقتصادي الممنهجة، ديناً وإفقاراً؛ إذ يتم اقتطاع الضرائب من دخله المحدود أو من قوت يومه، أو بالتعبير الشائع عند المصريين من “اللحم الحي”، بعد أن اجتمعت عليه كل تلك السياسات التي يحترفها النظام لحصاره، فجعله بين مطرقة وسندان؛ مطرقة الحقوق التي تتآكل، وسندان الفقر الذي يتفاقم. وبات كل ذلك يصنف ذلك المواطن ويسمه بصفات منها “المواطن المدين” أو “المواطن المعدم” أو “المواطن المحاصر” لتكون حالته في النهاية بائسة يائسة، فلا يطلب التغيير، ولكنه فقط يطلب مجرد حياة يَضِن فيها المستبد بحد أدنى من الوجود.