نشر المقال في “عربي21” بتاريخ: 29 مارس 2022
أفرد ابن خلدون فصلا في مقدمته متحدثاً فيه عن تلك الأمور التي تشكل دورة فساد تأكل الحقوق وتمتهن الجهد والعمل وتنتقص من كرامة البشر. كتب ابن خلدون هذا الفصل ضمن فصول عدة يعبر فيه عن أن استبداد السلطة وفسادها يتخذ أشكالاً عديدة ومتنوعة، لا تقف عند حد، وتتفنن في أساليب طغيانها وهيمنتها على البشر والاستخفاف بهم كياناً ونشاطاً، مؤكدا أن “تجارة السلطان مضرة بالرعايا مفسدة للجباية”.
وقد أراد ابن خلدون من ذلك الفصل أن يتحدث عن الاتجار مع البشر، الذي يفسد الحالة الاقتصادية ويهيمن فيه أهل السلطة والسلطان على الأسواق ومصادر السعي والرزق، فيبطل حركة النشاط، ويحتكر كل المسالك التي تتعلق بمقدرات البلاد والعباد.
ومن ثم حينما توقف ابن خلدون عند هذا المعنى جعل هذه التجارة مضرة بالرعايا ومعاشهم وكامل نشاطهم، إذ أنها لا تترك قوانين الاقتصاد الاعتيادية أن تعمل عملها كيفما اتفق، فتؤكد على أن العمل أساس ومصدر للقيمة، فإن تجارة السلطان تجعل من تلك الاحتكارية السلطانية والسيطرة الاقتصادية في سياق استبداد السلطة الكلي بمقدرات البلاد، فيسيطر على مناحي الاقتصاد المختلفة مهيمناً عليها، أو يأذن لمن يعمل فيها وفي ساحاتها.
تجارة السلطان تجعل من تلك الاحتكارية السلطانية والسيطرة الاقتصادية في سياق استبداد السلطة الكلي بمقدرات البلاد، فيسيطر على مناحي الاقتصاد المختلفة مهيمناً عليها، أو يأذن لمن يعمل فيها وفي ساحاتها
وهنا فإن الأمر يجعل هؤلاء الذين يقومون بأعمال التجارة والسعي وطلب الرزق وتكوين الشركات والمؤسسات التي تنشط في النشاط التجاري؛ وقد ضُيق عليهم في أرزاقهم ومساحات نشاطهم.
وبدا لأصحاب السلطة يقربون من أرادوا ويبعدون من شاءوا، فيؤسسون لذلك شبكات من الفساد والإفساد تتحرك في تلك الميادين بقوانين السلطة لا قوانين الاقتصاد المحضة، وهي قوانين تقوم على الاحتكار وسرقة الجهد ومصادرة الأموال، والقيام بكل ما من شأنه أن يقبض الأيدي عن النشاط، ويضيق على الأرزاق. فضلاً عن ذلك، فإن دخول السلطان في مجال التجارة إنما يجعل من ذلك الدخول طرقاً لنهب الأموال وتوزيعها على قاعدة من المحاباة والمحسوبية، وما يمكن تسميته في اللغة العامية “شبكات السبوبة” التي تفرض نشاطاً محدداً وحركة معينة، وكذلك سيطرة على مقدرات الأسواق ومفاصل التعامل الاقتصادي.
ولعل ذلك هو في حقيقة الأمر ما يؤدي إلى التفنن في فرض المكوس والضرائب ضمن عقلية الجباية، فيجبي من هؤلاء الذين لم يتبق منهم من شيء ويزيد عليهم المغارم ويحاصرهم بالضرائب والجبايات، حتى يزهد الناس في العمل والنشاط وتتحرك المساحات الاقتصادية في مجملها ضمن أطر العطالة والبطالة، وتبقى المعادلات كلها مختلة بين قصر مشيد وبئر معطلة.. طبقة تستأثر بالأموال والأعمال والمغانم، وأخرى تلقى عليها من كل طريق كل المغارم، وعلى ذلك فيختل حتى ميزان الجباية حينما يدخل السلطان عالم الاقتصاد والتجارة، من غير أن يدفع ضرائب مستحقة أو أن يعطي أجوراً عادلة ومناسبة تكافئ الجهد، ومن ثم فإنه يقوم بعملية مصادرة أموال كبرى لمصلحته، ويسرق من الناس جهودهم وفرصهم حينما يقوم بدور التاجر المحتكر والمقاول الأكبر.
طبقة تستأثر بالأموال والأعمال والمغانم، وأخرى تلقى عليها من كل طريق كل المغارم، وعلى ذلك فيختل حتى ميزان الجباية حينما يدخل السلطان عالم الاقتصاد والتجارة، من غير أن يدفع ضرائب مستحقة أو أن يعطي أجوراً عادلة ومناسبة تكافئ الجهد، ومن ثم فإنه يقوم بعملية مصادرة أموال كبرى لمصلحته
ربما ينعى ابن خلدون على هذه الحالة وعلى ذلك المآل وما يترتب على ذلك من تصرفات وأفعال، من حالة من الإفقار وأحوال من الترف، ومزيد من مغارم الجبايات على عموم الناس، وترضية لهؤلاء الذين يسيطرون معهم ويتهربون من أداء ضرائبهم. إنها كما قلت شبكة فساد وإفساد تحكم وتتحكم وتشكل حالة محكمة في المجتمع، لا تخضع لحساب أو ضوابط أو حدود.
يقول ابن خلدون في مقدمته: “اعلم أن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها لما يرونه حينئذ من أن غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم، وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك، وعلى قدر الاعتداء ونسبته يكون انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب.. ومن أشد الظلامات وأعظمها في إفساد العمران تكليف الأعمال وتسخير الرعايا بغير حق.. فإذا كلفوا العمل في غير شأنهم واتخذوا سخريا في معاشهم بطل كسبهم واغتصبوا قيمة عملهم”.
إن المفسدة لن تتوقف عند معنى المفاسد التي تترتب كما وصفها ابن خلدون وفق هذا التحليل القيم عن “التجارة مع البشر” وفسادها في العمران، ولكن ما لم يخطر على بال ابن خلدون وهو يكتب هذه المقولة هو المعنى الذي يتعلق بالاستبداد السلطاني والطغيان الفسادي، هو “الاتجار بالبشر”، و”الاتجار في البشر”.
إن الأمر لم يعد مجرد جباية فائضة وسيطرة وهيمنة طاغية واحتكار واستئثار مستحكم على مفاصل الاقتصاد، ولكن الأمر صار يتعلق ببيع أصول مصر لكل من هب ودب في حضور رموز وقيادات الكيان الصهيوني، وكأن في ذلك رسالة واضحة عن الدور الذي يلعبه هذا النظام الانقلابي في التفريط في مقدرات البلاد، والتنازل الممنهج عن كل ما يقيم الحياة وعمرانها في بر مصر. صار كل هذا مرهوناً بتصرفات هذه السلطة حينما تحتاج لتمويل فسادها، أو مشروعاتها التي لا تعود بالفائدة ولا النفع المباشر على عموم الناس في حياتهم ومعاشهم.
الأمر صار يتعلق ببيع أصول مصر لكل من هب ودب في حضور رموز وقيادات الكيان الصهيوني، وكأن في ذلك رسالة واضحة عن الدور الذي يلعبه هذا النظام الانقلابي في التفريط في مقدرات البلاد، والتنازل الممنهج عن كل ما يقيم الحياة وعمرانها في بر مصر
كل ذلك شكَّل في حقيقة الأمر الاتجار بالبشر ومستقبلهم، بل وبيع مستقبل الأجيال القادمة من خلال دورة القروض الجهنمية التي صار فيها المواطن نفسه تحت تهديدات البيع، بيع ما يملك وما يمكن أن يملك، بيع كيانه وبيع مستقبل أولاده. كل ما هو قابل للبيع في مصر صار يباع، والكثير من مقدراتها ينهب، والبقية توزع على الفساد والمفسدين. إن هذا لو دققنا النظر ليس إلا اتجارا في البشر وبالبشر، اتجارا في مقدراتهم ومعاشهم ومآلهم ومستقبلهم.
هكذا عمد نظام الثالث من تموز/ يوليو في مصر إلى تحويل المسألة من مجرد التجارة مع البشر ومشاكستهم في أرزاقهم ومعاشهم وأنشطتهم؛ إلى الاتجار بالأوطان والإنسان والبشر، وبالجملة خراب العمران، وليس مجرد فساده كما أشار ابن خلدون: “تزداد حاجة الدولة والسلطان إلى الإكثار من المال بما يعرض لهم من الإكثار في الترف، فتكثر نفقات السلطان وحاشيته، ويحتاجون لمزيد من الخراج الوارد من أموال الناس ليفي بمتطلباتهم من بناء القصور وامتلاك الضياع. ثم لا يزال الترف يزيد والحاجة إلى أموال الناس تشتد، وينشأ عن هذا الهرج والفوضى المفضية إلى الانتقاض، حتى تُمحَى دائرة الدولة ويُذهَب برسمها”.
ولكن ابن خلدون في إشارة بديعة أخرى تحدث عن أن هذا الظلم بكل أنواعه وأشكاله والاتجار في البشر ومعاني العزة والكرامة المتعلقة بكيانهم؛ لهو الأخطر على الإنسان والكيان والمواطن والأوطان، فـ “الظلم مؤذن بخراب العمران”.
إن حالة غلاء الأسعار وتراجع قيمة الجنيه المصري وفقدانه ما يقرب من 20 في المائة من قيمته؛ يضربان في صميم أمن وأمان المواطن الذي فقد درعه الأخير في تأمين حياته والحفاظ على مستوى إنساني لائق، بعد أن سلبه الانقلاب كل ما لديه من حرية وكرامة وأمن وأمان سياسي ومدني وإنساني، في مقابل وعده له بتوفير الأمان الاقتصادي، إلا أنه فشل في ذلك أيضا، وبات الإنسان والمواطن في مصر في مهب الريح تحت هذا النظام الذي لا يهتم إلا بمصالحه الآنية والأنانية بعد أن أحكم سيطرته على مفاصل الاقتصاد، وتوسع في بيع أصول مصر، وفرط في موارد ومقدرات وأمن البلاد، وبات يتصرف وكأن مهمته الأولى والأساسية هي إفقار المصريين وإهدار مواردهم، وضياع مستقبلهم بالاقتراض؛ والتفريط في نهر النيل ومقدرات وموارد البلاد والوطن؛ ووأد الإنسان كرامة والمواطن كيانا والمواطنة حقوقا.