نشر المقال في “عربي21” بتاريخ: 13 أبريل 2022
في الأيام القليلة الماضية وقع في مصر حدثان ما زالت آثارهما مشتعلة، بل إننا لا نبالغ إن قلنا إن هذين الحدثين أو أحدهما على الأقل سيكون مؤثرا على الحياة السياسية المصرية ولن يمر مرور الكرام مهما روج النظام من سرديات متهافتة، ومهما حشد من زبانيته لتمرير هذه السرديات.
ورغم أن الحدثين مختلفان إلا أنهما يكشفان عن طبيعة نظام الثالث من يوليو الذي تأسس على الانقلاب العسكري، وسياساته الممنهجة في بطشه بالمواطنين المعارضين، والتسامح مع عناصر من جنسه حتى وإن خرج هؤلاء من الخدمة العسكرية؛ رغم قيامهم بجرائم فاضحة تكشف عن نفوس مريضة أعمتها السلطة فعميت؛ لا تترك أي فرصة إلا وترتكب مزيدا من جرائمها.
الحدث الأول خاص بالخبير الاقتصادي أيمن هدهود الذي ينتمي لحزب سياسي شرعي لديه ممثلون في البرلمان، ورئيس الحزب يحظى بعلاقات وثيقة الصلة مع المسؤولين المصريين وخصوصا في ملف المعتقلين، ومع ذلك لم يتوان الانقلاب عن التعامل مع مستشار في الحزب بالاعتقال والإخفاء القسري وتلفيق الاتهامات الباطلة في بيانات رسمية، وإحالة لمستشفى الأمراض العقلية، ومحاولة دفنه في مقابر الصدقة رغم علمهم بهويته وأهليته، كما اتضح مؤخرا أن النظام أخفاه قسريا حيا وميتا، فهو رحمه الله قد فارق الحياة بتاريخ 5 مارس 2022، ولم تعلم أسرته بوفاته إلا بتاريخ 9 أبريل أي بعد مرور شهر وخمسة أيام على الوفاة.
تفاصيل الواقعة وما يحيط بها من روايات متناثرة ومشاركة العديد من الجهات العسكرية والمدنية فيها يندى لها الجبين وتكشف عن مستوى من الانحدار والانحطاط لم يعد له قاع، وأن هذا النظام لم يعد له سقف أو “كتالوج” فلا أحد آمن على نفسه أو حياته في ظل هذا النظام الفاشي.
في مقابل هذه الحادثة المؤلمة تأتي واقعة سرقة ميدالية رياضية على الهواء مباشرة بطلها قيادي بالمخابرات الحربية سابقا وعضو ناشط في دولاب دولة 3 يوليو تقلد العديد من المناصب المهمة، وعلى الرغم من أنه لم يمر عليه في منصب نائب رئيس نادي الزمالك للألعاب الرياضية فترة طويلة إلا أنه في ما يبدو لا يستطيع العيش بشرف أو نزاهة، فهو لم يعتد على ذلك، فمتابعة الفيديو تكشف عن رجل خبير سرقات يمتلك خفة يد، ويجيد استغلال الظروف المحيطة ويمتلك قدرات لصوصية اعتاد عليها؛ ففي الوقت الذي كانت يده تدس الميدالية في جيبه، كانت يده الأخرى تظهر ميدالية ثانية للعلن لتقديمها للاعبين، واستفاد من وجود شخص طويل القامة بجانبه فاتخذه ستارا بشريا للاحتماء به والتغطية عليه.
وعلى الرغم من كل ذلك لم يقدر له الله إلا الفضيحة على رؤوس الأشهاد، هذا هو مصير هذا النظام الفاشي الفاسد مهما طال الوقت أم قصر، إلا أن الأقسى من اكتشاف سرقته محاولات التبرير من بعد ذلك سواء من النظام أو من ناديه ورئيسه، أو من أجهزة الإعلام بل وأجهزة الدولة في تبرئته وفي محاولة نفي هذه الفعلة الشنيعة عنه، فهو منهم، ويعرفون أن ما يمسه يعرضهم للفضيحة معه، ومن ثم فهم يدفعون عنه من كل طريق، بل رصدت تقارير صحفية تعيينه مستشارا أمنيا لنادي الزمالك، وكان رئيس النادي قد أشاد به ووصف ما قام به بأنه مجرد خطأ، الأمر الذي يؤكد أن هؤلاء جميعا مكانهم الحقيقي السجون بما يقترفونه من جرائم يومية في أي موقع يحتلونه من المواقع المدنية والرسمية.
تفاصيل واقعة الباحث والخبير الاقتصادي أيمن هدهود تكشف عن وجود عصابات مسلحة داخل هذا الكيان الذي يسمي نفسه نظامًا، فكل عصابة تعمل بطريقتها الخاصة، وبدون أوراق رسمية أو محاضر وفق شعار “الورق ورقنا”، وعندما يضطرون إلى ذلك تأتي الروايات المتناقضة التي لا تعبر إلا عن حالة الاستخفاف الشديد بالوطن والمواطنين، والاستبداد في سردياتهم مهما كانت غير مقبولة أو معقولة؛ يلجأون في ذلك إلى مسلك كذبهم من لجان إلكترونية لتسويق هذه الروايات المفضوحة في الشارع المصري.
الخبير الاقتصادي الذي اختفى منذ مطلع شهر فبراير ولم تعلم أسرته شيئا عن مصيره رغم محاولاتها المكثفة واتصالاتهم المتكررة؛ كانت تصلهم تطمينات في الوقت الذي يقبع جثمانه داخل ثلاجة الموتى، كل ما يُستغرب في هذه القصة؛ كيف أن رئيس حزبه لم يظهر له صوت، ولم يكن له موقف، وقد أسهم من قبل في تبييض وجه النظام الفاشي والفاشل بل والقاتل المفضوح؟!.. هل يمكنه الآن أن يواصل مسيرته في الذهاب إلى الدنيا ليقنعها بأن قتل أيمن هدهود ضمن سرديتهم القميئة التي تحاول إبراء ذمة هذا النظام الفاشي؟!
هكذا ضاعت المواطنة جوهرا وحقوقا بين “هدهودين”؛ “هدهود اللص” (سارق الميدالية) الذي التمسوا له كل المبررات لتبرئته، و”هدهود المواطن” (الباحث والخبير الاقتصادي) الذي لفقوا له كل الاتهامات وقتلوه، رحم الله أيمن هدهود، واقتص له من قاتليه وساجنيه، إنه من كلام النبوة الأولى “إذا لم تستح فافعل ما شئت”.
أي إجرام وصل إليه أفراد تلك العصابة ضمن حالة الإنكار التي يفتعلونها والاستخفاف بالعقول عند كل حدث، فتلقى الاتهامات جزافا، فتارة يتحدثون عن المدعو ـ وفق تعبيرهم ـ أنه حاول اقتحام شقة ليست ملكا له، وتارة أخرى يقولون إنه غير متزن نفسيا مما اضطرهم أن يذهبوا به إلى مستشفى الأمراض العقلية، وكذلك اتهامه بسرقة سيارة في إحدى المحافظات التي تبعد عن القاهرة أكثر من 150 كيلو متر، فهدهود الأول يريدون أن يبرروا له فضيحته تبرئة له رغم ضبطه متلبسا بالصوت والصورة، وهذا البريء ألبسوه كل اتهام بعد أن قتلوه وأخفوا جثته أكثر من شهر، وحينما برز الخبر على وسائل التواصل الاجتماعي لم تكن لديهم رواية واحدة، كما حرصوا على حشد قواتهم الأمنية في محيط المشرحة بالتزامن مع إجراءات تسليم جثمان هدهود لعائلته، كما ذكر مصدر من مصلحة الطب الشرعي لموقع المنصة الإلكتروني أن ضابطا من قطاع الأمن الوطني تواجد قبل تسليمه في المشرحة وقبل بدء تشريح الجثمان، نتذكر كيف تعامل النظام مع مقتل ريجيني وكيف أنكر ولفق الاتهامات لآخرين وأودعهم السجون، وكيف قتلهم، قتلوا حتى يخفوا قتلِهم، لا يتورعون عن ذلك فحياة الإنسان لديهم رخيصة، قتلوه كما لو كان مصريا، فماذا لو كان مصريا مستباحا؟!!
تكشف رواياتهم المتناقضة والمتضاربة عن تحريهم الكذب، كذبة بعد أخرى، فهل يمكن أن يكون هؤلاء الذين وطنوا أنفسهم على الافتراء والتلفيق والكذب الممنهج أن يكونوا مصدرا لسردية عن وطن في دراما زائفة ملفقة، في سردية عن مواطن مقتول طالها كل ذلك الغموض والتعتيم والتضارب والتناقض والاضطراب والخلل، فما بالك عن سردية الوطن التي عشنا أحداثها في الأمس القريب، صار هذا النظام يتحرى الكذب في كل موطن، عن كل مواطن قتلوه، وعن وطن اغتصبوه، واغتصبوا بالجملة تلك السرديات حتى يقنعوا الآخرين أن أياديهم لم تلوث وهي تقطر بالدماء.
وأي سلطة باتت تمتلكها الأجهزة الأمنية التي لا تأبه بقيم أو أخلاق أو دستور أو قانون أو حتى معارف وعلاقات، كيف يمكن لأي مواطن أن ينجو من براثن الأجهزة الأمنية في مصر، فالرجل الذي قتلته هذه الأجهزة له حيثية كباحث، ويعمل في مؤسسة مهمة وينتمي لحزب سياسي يحظى رئيسه بعلاقات لا حد لها مع هذا النظام، وينتمي لأسرة ميسورة الحال ومع ذلك تم إخفاؤه قسريا حيا وميتا (بعد إخفاء جثته لمدة تزيد عن شهر صدرت شهادة الوفاة وفيها أن سبب الوفاة قيد البحث رغم أن شقيقه رأى جثمانه رأي العين وفيه كسور في الجمجمة حاول تصويرها عبر هاتفه المحمول، لكن العاملين بالمستشفى منعوه وأجبروه على حذف الصور التي التقطها مقابل تسليمه جثمان أخيه)، الأمر الذي يؤكد أن هذا النظام قد وطن نفسه على القتل من دون حساب أو عقاب، ومن أمن العقوبة قتل من شاء أنَّى شاء وكيف شاء.
هكذا ضاعت المواطنة جوهرا وحقوقا بين “هدهودين”؛ “هدهود اللص” (سارق الميدالية) الذي التمسوا له كل المبررات لتبرئته، و”هدهود المواطن” (الباحث والخبير الاقتصادي) الذي لفقوا له كل الاتهامات وقتلوه، رحم الله أيمن هدهود، واقتص له من قاتليه وساجنيه، إنه من كلام النبوة الأولى “إذا لم تستح فافعل ما شئت”.