نشر المقال في “عربي21” بتاريخ: 3 أغسطس 2022

حينما نتكلم عن حقوق الإنسان فإن الأمر لا يقتصر على هذا الانتهاك اليومي الذي تمارسه الأجهزة الأمنية ونظام الثالث من تموز/ يوليو، كطقس يومي يحاول أن يئد أي معارضة في المهد، ليعلن في كل مرة ذعره الدائم من أي معارضة مهما كانت بسيطة أو قليلة. بل إن الأمر لا يتعلق بتلك الانتهاكات الفردية لحقوق الإنسان، ولكن يقدم هذا النظام بإجرامه ليرتكب سلسلة من المذابح والمجازر قبل رابعة وبعدها، أخوات رابعة سابقتها ولاحقتها، ليعبر بذلك عن ديدن هذا النظام في تنفيذ استراتيجيته الكبرى ضمن عملية إجرام فادحة تعبر عن ممارسة نظام فاشي مستبد، فيقوم بهذه المجازر بلا حساب.

وهو في ذلك يؤسس لهذه الاستراتيجية ذات الساقين، الساق الأولى تتعلق بالإفقار والتجويع المتعمد ليجعل المواطن العادي منكبّا على تدبير أمره ومعاشه، لا يرفع رأسه ولا يطلب كرامة أو تكريما، بل هو فقط يطلب قوت يومه، وضرورات حياته. أما الساق الثانية في تلك الاستراتيجية فهي الترويع والتفزيع في صناعة جمهوريته الجديدة التي تقوم على قاعدة من بناء جمهورية الخوف والتخويف، وينهض بكل أمر يتعلق بحماية زبانيته في “كانتونات” عن حياة الناس منعزلة، مثل العاصمة الإدارية المزعومة، وكذلك يجعل البقية من الشعب المصري ضمن كل المسالك التي تجعله عبيدا وقطيعا.

هكذا يبدو الأمر في سياق سياسات أخرى لبيع كل شيء في مصر والتفريط في مقدراتها الأساسية، إنها جمهوريته الجديدة التي يدعي تدشينها، والتي لم تكن إلا جمهورية لإعلان حالة من الفاشية العامة التي تخرب البلاد وتدمر العباد.

يؤسس لهذه الاستراتيجية ذات الساقين، الساق الأولى تتعلق بالإفقار والتجويع المتعمد ليجعل المواطن العادي منكبّا على تدبير أمره ومعاشه، لا يرفع رأسه ولا يطلب كرامة أو تكريما، بل هو فقط يطلب قوت يومه، وضرورات حياته. أما الساق الثانية في تلك الاستراتيجية فهي الترويع والتفزيع في صناعة جمهوريته الجديدة التي تقوم على قاعدة من بناء جمهورية الخوف والتخويف

وفي هذا الإطار لا نجافي الحقيقة ولسنا وحدنا من نقول إن مذبحة رابعة هي من أخطر مذابح هذا القرن، وقد وصفت هيومن رايتس ووتش أحداث رابعة في تقرير لها استغرق إعداده سنة كاملة؛ بأنها “إحدى أكبر وقائع القتل الجماعي لمتظاهرين سلميين في يوم واحد في تاريخ العالم الحديث”، وطالبت بتشكيل لجنة دولية لتقصي الحقائق بغرض التحقيق في كافة انتهاكات حقوق الإنسان الناجمة عن أعمال القتل الجماعي للمتظاهرين منذ 30 حزيران/ يونيو 2013.

فالإجرام الحكومي كان على مرأى ومسمع من العالم، إلا أنه وبعد التوحش الأمني تم استهداف المصورين بالقتل والقبض عليهم. ويمكن بحق اعتبار رابعة علامة فارقة في حالة الانقسام والتشرذم؛ فقد أقام النظام الانقلابي على أساسها حائطه المعنوي في تقسيم الشعب المصري وترويج خطاب الكراهية والانتقام وهيستريا الفاشية والتعصب التي تبنت شعار “انتوا شعب وإحنا شعب”، وإقصاء تام لكل من يخالف هذا التوجه؛ وهو سلوك لا يوجد أدنى شك في إعداد النظام الانقلابي له.

من هنا نؤكد أن القضية في رابعة والنهضة لم تكن إلا إيذانا بصناعة جمهورية الخوف تحت دعوى الحفاظ على هيبة الدولة، ودعاوى كثيرة حملتها وسائل الإعلام آنذاك، والتي تفرض علينا أن نتذكر بعض المشاهد التي تعلقت بهذه المجزرة لتعبر عن حقيقة المجزرة وليس ذلك الفض الاعتيادي لاعتصامات هنا أو هناك. الأمر كما ذكرنا كان أكبر من ذلك في إطار صناعة الاستقطاب وصناعة الكراهية وصناعة الفوضى في المجتمع، حتى يستطيع هؤلاء الذين أرادوا أن يتحكموا في البلاد والعباد أن يحكموا ويتحكموا ويهيمنوا ويسيطروا، من خلال جدر الخوف التي اصطنعوها محذرين من كل احتجاج أو فعل معارض. ولعل ذلك يذكرنا بثلاثة مشاهد على الأقل:

القضية في رابعة والنهضة لم تكن إلا إيذانا بصناعة جمهورية الخوف تحت دعوى الحفاظ على هيبة الدولة، ودعاوى كثيرة حملتها وسائل الإعلام آنذاك، والتي تفرض علينا أن نتذكر بعض المشاهد التي تعلقت بهذه المجزرة لتعبر عن حقيقة المجزرة وليس ذلك الفض الاعتيادي لاعتصامات هنا أو هناك

المشهد الأول هو مشهد طمس الذاكرة التي تتعلق بذلك، سواء للسردية التي اختاروها في محاولة لتصوير ذلك الاعتصام بأنه كان عملا إجراميا مسلحا وخطيرا، وهو ادعاء لا تنهض الأدلة التي يقدمونها لإثبات ذلك، فلم يكن هذا الأمر إلا ترخصا في الدماء واستخفافا بالأرواح.

وشهد هذا الطمس ليس فقط تلك الحملات الإعلامية ومسلسلهم البائس الذي أسموه بـ”الاختيار”، ولكن حاولوا طمس ذلك من خلال لجنة تقص وتحقيق ابتدعوها ووضعوا على رأسها أستاذا للقانون الدولي، الذي لم يحسن إدارة ذلك وأفلتت منه الكلمات في بعض مؤتمراته الصحفية، مؤكدا أنه حينما قدم ذلك التقرير إلى المتهم الأول في تلك المجزرة، وهو المعروف في ذلك الوقت بالرئيس المؤقت والذي ترك رئاسة المحكمة الدستورية ليشكل غطاء للانقلاب العسكري، وإذا به في هذه المرة يشكل غطاء لأمر القتل المستفيض للقتل المباشر والإجرام البشري في مساحة محدودة (رابعة ونهضة).. إذ قال رئيس اللجنة إنه طُلب منه أن يلغي كل الفقرات التي تتعلق بمشاركة الجيش في هذه المجازر وتلك الأحداث، وقد فعل ذلك. وهذا أمر يتعلق بالطمس المباشر للأحداث في أدوار هذه الأجهزة البائسة التي ارتكبت هذه الجريمة.

أما المشهد الثاني، فبدلا من الاستجابة لعمل تحقيق دولي كما طالبت بذلك المنظمات الدولية، نجد أن النظام عمل على إخفاء شهود القضية من خلال، إقامة دعوى تحولت إلى قضية باسم “فض رابعة”، أصدر فيها الأحكام بكل قسوة وتعقب كل من كان في الميدان، وعاقب من خلال عمليات التلفيق بأشد التهم كل هؤلاء.. وكأنه أراد أن يرسل رسالته التي تحاول طمس هذا الحدث الجلل والمجزرة البشرية الخطيرة، وكأنه أراد أن يقتل أو يعتقل أو يسجن كل شهود الحدث ووضعهم ضمن سياقات التجريم.

قام القضاة بكل عمل معاون لهذه السلطة الفاشية، فحاكموا هؤلاء وأصدروا عليهم الأحكام التي تراوحت بين الإعدام وحتى السجن المشدد

وللأسف الشديد قام القضاة بكل عمل معاون لهذه السلطة الفاشية، فحاكموا هؤلاء وأصدروا عليهم الأحكام التي تراوحت بين الإعدام وحتى السجن المشدد.

أما المشهد الثالث الذي أدار تلك المسألة في طمس الذاكرة؛ فإنما ارتبط بمحاولة تغيير اسم الميدان وإطلاق اسم جديد عليه. من المؤسف حقا أن يطلق عليه اسم واحد من أبرز المسؤولين عن هذه الجريمة الذي شكل غطاء لأمر الفض، وهو النائب العام.

وبالإضافة إلى الرئيس المؤقت عدلي منصورـ فقائمة المتهمين في هذه القضية تشمل الاقتصادي الليبرالي الدكتور حازم الببلاوي، رئيس الوزراء في ذلك الحين الذي أخذ يشارك في وسائل الإعلام الأجنبية ليبرر ذلك الفعل الدنيء والمجزرة الخطيرة، مشبها إياها بحرب فيتنام، وكذلك أساتذة القانون الذين رعوا ذلك في مجلس الوزراء من مثل حسام عيسى، أيضا وزير الدفاع آنذاك المنقلب عبد الفتاح السيسي، ووزير الداخلية محمد إبراهيم.

هذه القائمة الأساسية والمباشرة التي تتحمل المسؤولية الجنائية والسياسية عن تلك الجريمة الخطيرة، وهي مذكرة اتهام ستبقى في حوزة الأمة المصرية تطالب بالقصاص من هؤلاء ومن غيرهم من قيادات وعناصر الأجهزة الأمنية الذين قاموا بتنفيذ تلك المجزرة.

هكذا أراد هؤلاء أن يطمسوا الذاكرة، مرة بأجهزة إعلام مضللة، أو بمحاكمة مصطنعة قاموا بها لبقية من شاركوا في رابعة لقتل الشهود أو تغييبهم في السجون على رؤوس الأشهاد، وتارة ثالثة بتغيير اسم المكان والتمويه على الزمان.

ومن الأمور المهمة في هذا المقام أن نؤكد أن مذبحة رابعة والنهضة لم ولن تكون الأخيرة لهذا النظام؛ الذي وفي محاولة التغطية على الحدث وبعد تحرك النفوس الحية لمواجهة هذه المجزرة البشرية من هذا النظام الفاشي حاول أن يستخدم أقصى درجات القوة بأحداث لا تقل قسوة وإجراما عن المجازر ذاتها، حيث واصل جرائمه ومذابحه بمزيد من العنف والفاشية، خاصة في الأيام التي تلت أيام المجزرة وبعد حركة شعبية واسعة ممن لم تنطل عليهم أكاذيب ذلك النظام.

عرفت البلاد مذابح أخرى لو رصدت لكانت مشابهة لما جرى في رابعة والنهضة، ومن ثم فإننا نرى أن القيام بعمليات التوثيق لمثل تلك المجازر عمل غاية في الأهمية، ضمن معركة الذاكرة التي تفضح هذا النظام وتفضح صحيفة سوابقه ومجازره

قد شهدت العديد من الميادين المصرية في القاهرة والإسكندرية وغيرها من المحافظات احتجاجات واسعة، ارتكبت فيها الأجهزة الأمنية من جيش وشرطة ومن يعاونهما ممن يسمون بالمواطنين الشرفاء؛ مجازر ومذابح في سياق مطاردات ولجان تفتيش وافتعال فوضى وسرقات وقتل وكوارث تفوق الوصف، استخدمت فيها طائرات الهليوكوبتر لمطاردة الناس، وقام القناصة من الدبابات وشرفات المنازل والفنادق بالقنص المباشر للمتظاهرين والمحتجين في الشوارع والميادين، واستهداف عموم الناس بطلقات الرصاص الحي والجرينوف.

وعرفت البلاد مذابح أخرى لو رصدت لكانت مشابهة لما جرى في رابعة والنهضة، ومن ثم فإننا نرى أن القيام بعمليات التوثيق لمثل تلك المجازر عمل غاية في الأهمية، ضمن معركة الذاكرة التي تفضح هذا النظام وتفضح صحيفة سوابقه ومجازره التي سيأتي اليوم ليُقتص من كل هؤلاء.