نشر المقال في “عربي21” بتاريخ: 23 أغسطس 2022
من جملة المفاهيم التي يستولي عليها المستبد مفهوم الإنجاز؛ يتحكم فيه المستبد ويلبس عليه ويستولي على كل مفرداته، إن كانت في الرؤية فيحتكرها؛ وإن في التطبيق فيغتصبها. إن جملة ما يصدر عنه هو إنجاز وجب على الجميع أن يقدروه أو يقروه؛ وفقا لقاعدة الفرعونية السياسية والمعتمدة لديها: “مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ” (غافر: 29).. هو صاحب الحكمة وطبيب الفلاسفة الذي لا يحتاج إلى دراسات جدوى؛ الإنجاز هو ما يفعله أو يراه، أما إذا تحفظ البعض ولم يره كذلك فهو جاحد ومن أهل الشر.
فبينما يعتبر المستبد أن رؤيته هي التي تحدد مفهوم الإنجاز فإنه يضرب عرض الحائط بمفهوم الإنجاز الحقيقي، بما جاءت به الموسوعات العلمية ومعاجم اللغة التي تتوفر على تجلية مفهوم الإنجاز الحقيقي بأنه “عمل متم لهدف واضح تعقبه نتائج فعالة ومؤثرة”. وهو بهذا الاعتبار الذي يتضمن هذه الأركان يعبر عن قضايا ومسائل ترتبط بما أُسْمي في العلم بمقاييس الإنجاز والفاعلية.
طالعتنا الصحف في مصر مؤخرا تتحدث عن دعوة البرلمان لجلسة غير اعتيادية، اتضح بعد ذلك أنها لإقرار تعديل وزاري اشتمل على حقائب وزارية تفوق العشر، ثم خرجت علينا بعد ذلك باستقالتين أو إقالتين، ذلك أنه في النظم المستبدة لا يمكنك أن تتعرف أن المسؤول قد استقال أو أقيل، وعليك أن تتلقى وصف الصحف السيارة التي تزف تلك الأخبار واحدا تلو الآخر من مصادرها الأمنية.
هذه المشاريع والتي عددها النظام المستبد كإنجازات مبهرة إنما تعبر في حقيقة الأمر عما يمكن تسميته بـ”وهم الإنجاز” و”وهم الفاعلية”
أما الاستقالة الأولى فكانت لمحافظ البنك المركزي الذي أكد في خطاب استقالته أنه “طلب الاعتذار عن منصبه لإتاحة الفرصة للآخرين لاستكمال المسيرة التنموية الناجحة تحت قيادة رئيس الجمهورية”.. هكذا يظل ذلك الخطاب الزائف والحديث الكاذب عن إنجازات في عصر المستبد رغم الاستقالات والإقالات.
أما الاستقالة الثانية فقد كانت لأحد هؤلاء الذي ترأس مشروع العاصمة الإدارية وكان وزيرا سابقا للإدارة المحلية، وجاء في خطاب الاستقالة أنه قام بها طلبا للراحة، لتعبر أيضا هذه الاستقالة عن قفز مبكر لبعض هؤلاء الذين انضموا إلى جوقة تلك المشاريع الكاذبة والزائفة والتي أشرنا إليها فيما قبل منذ سنوات وأطلقنا عليها مسمى “مشاريع الفنكوش”. وكنا نعتقد حينما أطلقنا ذلك التعبير أن البعض سيعترض علينا، إلا أنه في حقيقة الأمر صدرت مقالة منذ أيام للكاتب “ستيفن كوك” نشرها في فورين بولسي، تحدث فيها عن مشاريع السيسي باعتبارها “Scam projects” أي “مشاريع احتيالية”.
ذلك أن هذه المشاريع والتي عددها النظام المستبد كإنجازات مبهرة إنما تعبر في حقيقة الأمر عما يمكن تسميته بـ”وهم الإنجاز” و”وهم الفاعلية”، بجملة من الإنشاءات الظاهرة للعيان، والمغرمة بأطول سارية علم، وأكبر مسجد، وأكبر كنيسة، وأكبر.. وأكبر، ولكن في حقيقة الأمر لم يكن ذلك إلا تطاولا في البنيان لا يصب بأي حال في مصلحة المواطن واقتصاد معاشه وضروراته
ولعلنا نعود إلى الوراء إلى مشروع التفريعة أو ما أسموه حينها “قناة السويس الجديدة”؛ الذي جمعت له الأموال التي تعدت 60 مليار جنيه من المصريين، وحينها تحفظ البعض على ذلك منبها إلى أن المعلن عن دخل تلك التفريعة إنما هو محض وهم أو خيال، فلما وقع المحظور، وبدا هذا التحذير والتنبيه حقيقيا، لم يكن من المستبد وجوقته إلا الدفع بأن هذا المشروع قد جاء لرفع الروح المعنوية للمصريين وليس لعوائد مادية.
مشروع التفريعة أو ما أسموه حينها “قناة السويس الجديدة”؛ الذي جمعت له الأموال التي تعدت 60 مليار جنيه من المصريين، وحينها تحفظ البعض على ذلك منبها إلى أن المعلن عن دخل تلك التفريعة إنما هو محض وهم أو خيال، فلما وقع المحظور، وبدا هذا التحذير والتنبيه حقيقيا، لم يكن من المستبد وجوقته إلا الدفع بأن هذا المشروع قد جاء لرفع الروح المعنوية للمصريين
كما تتذكرون ذلك المؤتمر الاقتصادي (مؤتمر دعم وتنمية الاقتصاد المصري) الذي دعا إليه العاهل السعودي عبد الله بن عبد العزيز تحت شعار “مصر المستقبل” وجرت فعالياته على مدى ثلاثة أيام متواصلة، وأقيم بمدينة شرم الشيخ في الفترة من 13 إلى 15 آذار/ مارس 2015. وقد نُسجت حوله الخيالات والأحلام والأوهام عما سيدخل إلى مصر من أموال.
ولم يخرج هذا المؤتمر في مردوده على التنبيهات والإشارات من كثير من المتخصصين حول جدوى هذا المؤتمر، وحول المعلن عنه وفيه من أموال أمطرت على مصر. فقد تمخض هذا المؤتمر عن متحصلات محدودة لم تسد حتى تكلفة المؤتمر ذاته، وتبخرت الوعود المالية كعهد تلك المؤتمرات التي تعقد برعاية بعض شركات الدعاية وبعض الدول فيما يسمى بمشاريع الإعمار، الذي بات نمطا متعارفا عليه للزيف الدعائي الذي يقترن بتلك المؤتمرات ومخرجاتها. كما كان أيضا من ضمن الفنكوش الذي أحيط بهذا المؤتمر أنه صاحبه الإعلان عن عقده سنويا، إلا أنه لم يعقد منه إلا دورته الأولى فقط والتي فصلنا في مستويات إنجازاتها الوهمية.
ولعل ذلك يذكرنا أيضا بذلك الحديث عن الإنجازات ضمن كتاب نشر هذا العام على صفحة رئاسة الجمهورية، في تقرير اتخذ لنفسه شعار “الإنجازات مفتاح للحياة والمستقبل”، ويتحدث عن إنجازات ترتبط بتلك المنظومة ونظام الثالث من تموز/ يوليو، ليعدد إنجازات متوهمة من 30 حزيران/ يونيو 2013 إلى 30 حزيران/ يونيو 2021.
هذا التقرير يمثل الزيف المنشور على صفحة المستبد ويتناول تلك الإنجازات الوهمية في كل مجال، والذي تكذبه شواهد الحال ومآزق المآل، وأزمات الواقع والاستقبال، تلك الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي أطلت بكل تعقيداتها ضمن المطلوب من تسديد ديون أو أقساط، أو عجز الموازنة، أو خدمات الدين المتفاقمة، وهو أمر جعل وزير المالية الحالي يقول وبكل بساطة عندما سؤل عن كيفية تمويل ذلك: “هستلف تاني”، وهي إشكالات لم يعد في طاقة نظام الثالث من تموز/ يوليو أن يحاول التعمية عليها أو التغييم حول آثارها.
وهنا لا بد وأن أتوقف عند أمر ووجهت به من أحد هؤلاء المفكرين الذي كان يسألني في عجب: “أتنكر وأنت المقاوم للانقلاب والمعارض لكل سياساته؛ أن هذا النظام قد استطاع أن يقوم بمجموعة من المنشآت والطرق والكباري والبنى التحتية”، ساعتها قلت إنني لا أستطيع أن أنكر ذلك، ولكنني بعد سنوات من ذلك السؤال فإنني أؤكد أن تلك ليست بإنجازات حقيقية يمكن أن تصب في مصلحة الوطن والمواطنين في ترقية معاشهم وفي سد حاجاتهم، وذلك لأسباب ثلاثة؛ أولها أن هذا النظام قام بتلك المشروعات مضطرا لتمويل عصابة الفساد في ما يسمى الإدارة بالفساد، ذلك أن “سبوبة الفساد” تلك لا يمكن أن تحدث إلا من خلال مشروعات كبرى تتعلق بالإنشاءات والبنى التحتية، فهي مصدر للنهب والفساد الكبير ضمن قطاعات في السلطة وكذا رجال الأعمال.
تلك المشروعات التي انتقدت انتقادا كبيرا من الاقتصاديين ومن العارفين بأمور الاقتصاد في الداخل والخارج، مؤكدين أن هذه النوعية من المشروعات ليست أولوية بالنسبة للإنسان العادي، تعد أولوية لنظم تتحكم وشبكات فساد تتربح
وثانيها يرتبط بأحد الكلمات التي وردت على لسان المستبد، حينما تباهى بأن من أهم مشروعاته أنه سينفذ شبكة طرق “هتمسك البلد كده”؛ وأشار بقبضته دلالة على التحكم والسيطرة. وهذا سبب شديد الخطورة لا يعرفه إلا هؤلاء المتخصصون في تلك المجالات اللوجستية التي تحكم السيطرة على المداخل والمخارج للبلاد والعباد.
وهنا عدت بالذاكرة إلى هؤلاء الذين خرجوا بعد مجزرة رابعة في الأيام التالية لها وقد اعتلوا الكباري فكانوا هدفا سهلا وصيدا يسيرا ؛استطاع هؤلاء العسكر أن يستهدفوهم ويحاصروهم أعلى الكباري، وكذلك المشهد الذي عرض بعد ذلك صبيحة يوم 25 كانون الثاني/ يناير الماضي، حينما قررت مجموعة من الجنود لا يتجاوز عددهم الخمسين بقيادة أحد الضباط؛ تنفيذ تدريب صباحي على أحد الكباري بمنطقة المعادي، جنوب القاهرة، فتسبب ذلك في إغلاق الطريق ومنع مرور السيارات، الأمر الذي يفسر بكل بساطة تصريحات المنقلب التي تواترت على لسانه بأنه يستطيع أن ينشر الجيش في كل مداخل البلاد في ظرف ست ساعات. ففي هذه الحالة عدد قليل من الجنود بدون أي تسليح وبممارسة نشاط اعتيادي استطاعوا غلق أحد الكباري أمام المشاة والسيارات.
السبب الثالث، أن تلك المشروعات التي انتقدت انتقادا كبيرا من الاقتصاديين ومن العارفين بأمور الاقتصاد في الداخل والخارج، مؤكدين أن هذه النوعية من المشروعات ليست أولوية بالنسبة للإنسان العادي، تعد أولوية لنظم تتحكم وشبكات فساد تتربح. ومن هنا فإن هذه المشروعات لا تمت بصلة إلى معاش الإنسان، ولكنها كانت تغطية لأهداف أخرى واستراتيجيات سلطة تهدف إلى السيطرة والتحكم وفي الحقيقة ما هي بإنجاز.