نشر المقال في “عربي21” بتاريخ: 6 سبتمبر 2022
كثيرة هي المشاهد التي تكشف عن إهدار النظام الاستبدادي للرموز المصرية في كل فن ومجال، وبات قادرا على أن يكون صاحب احتراف في مثل هذه النوع من المواقف الفاشلة والسياسات الفاشية التي لا تتورع عن انتهاك حرمات الأحياء والأموات والاستخفاف بكل شيء. وعلى الرغم من تعدد هذه المشاهد وكثرتها، إلا أن المشهد القريب الخاص بإجراءات إزالة مقبرة المفكر المصري الرمز في حياتنا وتاريخنا الثقافي الدكتور طه حسين، صاحب الشهرة العالمية، كانت له دلالة كبيرة على توحش هذه السياسات وتلك الانتهاكات.
ولعل ما شهدته مصر من أحداث في تلك الفترة عزز من هذا السلوك، ففي الوقت الذي يسعى النظام إلى إزالة مقبرة طه حسين، يمنح أحد رجاله المتلبسين بثوب الدين وهو “خالد الجندي”؛ وسام الجمهورية من الدرجة الأولى، ويهدم سور مجرى العيون، ويعرض مبنى وزارة الخارجية للبيع، ويجرف حديقة للأشجار المعمرة، ويعتدي عل ممتلكات المواطنين في نيل الزمالك، ويستكمل هذه السياسة بتهجير الأهالي من حي الوراق، وغيرها من تلك الأحداث السابقة واللاحقة التي تكشف عن أن هذا النظام لا يملك أي سمت رمزي، ولا يستطيع إدارة الرموز، والأخطر من ذلك هرولته المحمومة لطمس التاريخ، وتزوير وتشويه الذاكرة.
وقد يكون ذلك استكمالا لما تم من بيع لمنطقة ماسبيرو في قلب القاهرة؛ فهذا النظام لا يتورع عن شيء، ولم يعد يشغله إلا عاصمته الجديدة بأكبر مسجد، وأكبر كنيسة، وأكبر برج، وأكبر حديقة، على حساب الوطن والبشر والشجر، ولا يحسب حسابا إلا لمصالحه الآنية والضيقة التي تتعلق بفساد العصابة الحاكمة.
سلوك النظام انتقل إلى أنحاء مصر كلها، فالمحافظات المختلفة تشهد ظاهرة مخيفة تتعلق بهدم المباني الأثرية
ففي الوقت الذي يستنكر على المصريين فقرهم، يشتري طائرة لا تقتنيها إلا دول الصف الأول في العالم في ظل ثمنها المرتفع الذي يتجاوز 500 مليون دولار، بخلاف التجهيزات الرئاسية الخاصة بالتأثيث والتأمين التي لن تقل بحال من الأحوال عن 150 مليون دولار، ويستمر في ترديد أسطوانات “إحنا فقرى قوي”، “أجيب منين”، “أنا مش عايز”، “لا أنا مش قادر”. الأدهى من ذلك أن تجد من يروج من زبانية ذلك النظام ويحاول جس نبض طرح فكرة مشاركة الشعب المصري في تحمل فاتورة الديون “نصيب كل مواطن في تسديد الدين”.
كما أن سلوك النظام انتقل إلى أنحاء مصر كلها، فالمحافظات المختلفة تشهد ظاهرة مخيفة تتعلق بهدم المباني الأثرية. وكما كُتب على قبر الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي “إزالة”، فإنه لم يتورع عن الكتابة على أحد المباني الأثرية التي تدخل في دائرة المباني التاريخية القيمة كلمة “للبيع”. ولن يكون من قبيل المبالغة القول بأن النظام شريك سواء بشكل مباشر أو غير مباشر في ذلك، خاصة مع انتشار الفساد والرشاوى، وخلق مناطق نفوذ خاصة برجال النظام في كل قطاع ومجال.
وقد كشفت مؤخرا تقارير صحفية لموقع صحفي موثوق عن حالة الفساد الكبيرة المنتشرة بين قيادات ذلك الحزب الذي يعرف بـ”حزب الرئيس” (حزب مستقبل وطن)، والذي لم يجد ما يفعله تجاه هذه التقارير إلا مواجهة الصحفيين والكتاب، والكيد لهم بكل وسيلة كانت. أما الحديث عن الحساب والمحاسبة فمثل هذه المفردات غائبة في هذا العهد التعيس، الذي لديه عداء مباشر مع مصر الرموز، والتاريخ، والذاكرة، والدور، والريادة، مع مصر الجغرافيا، مع مصر السياسة، مع مصر المجتمع، مع مصر الثقافة، مع مصر الحضارة.
لا يمكن لأحد أن يبرر مثل هذه السلوكيات مهما حاول، فسلوك هذا النظام عصي على التبرير، وكل ما يمكن قوله في هذا المجال “أيوه ببني، وهبني”، أو “أيوه بنهدم وهنهدم”، أو “أيوه بشتري وهشتري”، فهذه هي تبريرات الطاغية لتكتمل دائرة الاستخفاف والمهانة والاستهانة التي يتم توظيفها في خطابه.
مثل هذه السياسات وتلك التوجهات تحتاج لوقفة حقيقية من جانب المثقفين والمهتمين بالشأن العام، لا ليبحثوا لهذا النظام عن مخارج وتسويات تعفيه من المسؤولية، فكم مقبرة تمت إزالتها في مقابل كم واحدة نجت، وكم مبنى ومعلم ورمز أهدر أو هُدم، لا يستطيع أحد أن يفسر لماذا تراجع النظام هذه المرة، ولماذا أصر ونفذ سياساته مرات ومرات.
مثل هذه السياسات وتلك التوجهات تحتاج لوقفة حقيقية من جانب المثقفين والمهتمين بالشأن العام، لا ليبحثوا لهذا النظام عن مخارج وتسويات تعفيه من المسؤولية
مثل هذا التعاطي مع النظام يصب في صالحه فقط ولا يخدم الوطن أو المواطنين. إن خروج دائرة رد فعل المواطنين عن الرفض والاستنكار يخلق لهذا النظام مسارات ويفتح له أبوابا ومسالك تساعده على تكريس سياساته وتقنين إجرامه، وهدم رموز هذا الوطن باستخفاف، ومن غير تقدير. إن فعل الاستهانة من المستبد يصدر عن هؤلاء الذين لا يرون في مصر أو في تاريخها أية قيمة، فإن الأقزام لا يشعرون بقيمة العظماء الذين يشكلون رموزا لهذا الوطن.
ولعل تلك القيمة الرمزية فيما يعرف بحقل العلوم السياسية وفي إطار قدرات النظام السياسي؛ أن النظام السياسي الفعال هو الذي يمكنه توظيف القدرات الرمزية التي تشكل ضميرا للأمة وثقافتها ووعيها الجمعي، إلا أن المستبد لا يحكمه في كل ذلك إلا صورته هو، ضمن الترويج لنفسه، وضمن رؤيته لذاته، بأنه الزعيم الأوحد، الخالد، الباقي، وهي من أمراض سلطة المستبد التي تتملكه فلا يرى عظيما إلا نفسه، ولا يرى كبيرا إلا ذاته، ولا يمكن أن يرى قيمة في غيره، إنها عقلية المستبد الطاغية التي تقوم على صناعة الإهانة والمهانة والاستهانة حتى لو أدى ذلك إلى فقد الكرامة والمكانة.
ولعل هذا ما أشار إليه الدكتور البارز “جمال حمدان” في قيمة المكان وعبقرية الشخصية المصرية، حينما يؤكد على أن مشروع العاصمة الجديدة كان على طاولة كل المستبدين إلى أن نفذه هذا المستخف الأكبر، فأحدث هذا الأمر ليكون رمزا لما أسماه بجمهوريته الجديدة، فوضع مصر في مأزق اقتصادي، وفي دوامة ديون أدت إلى انكشاف الحال الاقتصادي في مصر، ووضعها في أزمة خطيرة وكبيرة، ومع ذلك فإنه لا يزال يباهي بالإنجاز والإعجاز الذي حققه، فنقل مصر نقلة غير مسبوقة. أي نقلة تلك وهو يهدر الرموز ويستهين بالذاكرة ويذل كرامة المواطن، ويفقد الوطن مكانته، ومن بعد يؤكد أنه يبني جمهورية جديدة؟
أين الإنسان المصري، والمواطن العادي في إنجازاته تلك؟ صار يغطي كل تلك الأمور بمبادرات زائفة واغتصاب أسماء وكلمات مثل “حياة كريمة” هو أهدرها وأدى بالمواطن إلى تدهور الحال في معاشه وتحصيل ضروراته.
إذا كان النظام الحالي لا يكتفي بإنشاء عاصمة بديلة، هي فاشلة قبل أن تستخدم، فإنه يحاول طمس القاهرة القديمة التقليدية وبيع أحيائها
أكد جمال حمدان على حماقة العاصمة الجديدة قبل أن يبنيها؛ بقوله “الخلاصة الحتمية أن اقتراح العاصمة الجديدة إنما يصحح خطأ قائما بخطأ جسيم أفدح وأشد نكرا، خطأ قابلا للعلاج بخطأ قاتل بل انتحاري ذلك لأنه إنما يقتل عاصمة حية ليخلق عاصمة ميتة، فمثل هذا المشروع لن يكون حكما بالإعدام على القاهرة، ولكن هو نفسه المحكوم عليه بالإعدام مسبقا. ذلك أن القاهرة -تلقائيا- ستدافع عن نفسها بقوة الجغرافيا الحاكمة وبثقل التاريخ المجيد ومجدها العالمي المرموق، وستظل مثلما حدث في الحالات المماثلة العاصمة المتروبوليتانية الاقتصادية والبشرية الحقيقية للبلد. ستظل عاصمة مصر إلى آخر التاريخ، وقد تخسر القاهرة عندئذ الكثير، لكن مصر سوف تخسر أكثر، حتى لو نقلت العاصمة. إذن لن تحل المشكلة وإنما أنت تضاعفها، اذ تخلق عاصمة هزيلة عاجزة فجة، دون أن تعالج أمراض القاهرة بأخطبوطها الممتد أو سرطانها الزاحف”.
وإذا كان النظام الحالي لا يكتفي بإنشاء عاصمة بديلة، هي فاشلة قبل أن تستخدم، فإنه يحاول طمس القاهرة القديمة التقليدية وبيع أحيائها؛ لا ندري في هذا المقام أهذا النظام يبيع أيضا رمزية القاهرة ذاتها، لا فقط مقابر العظماء فيها، أو آثارها ومبانيها. إن إهدار الوظيفة الرمزية، وإهدار الرموز الحقيقية صار جريمة تنضم إلى جرائم تلك المنظومة التي لن تسقط بالتقادم، لأنه لا يبيع القاهرة فحسب، ولكنه يتاجر بأهلها وتراثها وذاكرتها في سوق التجار المحدثين.