نشر المقال في “عربي21” بتاريخ: 11 أكتوبر 2022

ما طرأ على مفهوم التطوع من تلبيس والتباس في ظل هذه المنظومة الانقلابية لا مثيل له، ليتحول المفهوم إلى نقيضه منقلب المعنى والمغزى؛ فيتحول من التطوع والاختيار والتعبير عن الإرادة والحرية إلى حالة من التطبيع مع الاستبداد والتطويع الإذعاني للنفوس.

فهذا المفهوم يؤكد أن الالتباس والتلبيس بالباطل طال كل شيء وعلى كافة المستويات في هذه المنظومة، خاصة في عالم المفاهيم والإدراكات. ومن المؤسف حقا أن نجد هذا المفهوم الذي يعبر عن الطاقة الإيجابية للمجتمع في فاعلياته الإنسانية والاجتماعية ضمن ساحات ومساحات التطوع؛ قد طاله قدر كبير من ذلك حتى قضى على نبل المفهوم وقيمه الجوهرية التي يستمسك بها.

وللأسف الشديد فإن المستبد الذي لا يعرف إلا الهيمنة والسيطرة، وتحركه تلك النوازع إلى حدٍ كبير في الاتصال والتواصل والتعامل، يعبّر في حقيقة الأمر عن الاستخفاف والاستهانة بكل فعل إنساني أو اجتماعي. إن قانونه هو قانون التحكم والقوة، ومن ثم فإن الخطر الكبير ضمن عملية عسكرة المجتمع أن يزحف العسكر بسياساتهم واستبدادهم على منظومة المفاهيم الإنسانية والمجتمعية، ويقصي كل أمر يتعلق بالممارسة الحرة والفاعلة والإيجابية لعموم الناس والمواطنين. وهو إذ يقوم بذلك لا يعرف معنى الحافز الذي يؤدي إلى تمكين هذه الرؤية الذي يؤدي إلى العمل التطوعي وثقافة التطوع، بل على النقيض من ذلك فإنه يحاول من خلال تلك الممارسة التحكمية أن يدفع الناس إلى عدم القيام بهذا التطوع بالأساس ضمن أساليب تتسم بالإهانة والاستهانة.

عبر بيان وزارة التربية والتعليم في مصر عن رؤية ذلك النظام من خلال الشروط التي وضعتها للتطوع في المدارس لسد العجز في المعلمين، وهو ما دفع المهتمين بالشأن العام إلى القول بأن هذه شروط للسخرة وليست للعمل التطوعي

فلقد عبر بيان وزارة التربية والتعليم في مصر عن رؤية ذلك النظام من خلال الشروط التي وضعتها للتطوع في المدارس لسد العجز في المعلمين، وهو ما دفع المهتمين بالشأن العام إلى القول بأن هذه شروط للسخرة وليست للعمل التطوعي. فقد تضمن البيان عدة شروط قد تكون مجحفة جدا لو وضعت لعمل بمقابل مالي مجز، فماذا تكون إن كانت قد وضعت لعمل تطوعي أي عمل بدون مقابل، سواء أنها عمل خير ووازع ديني، أو شعور بالانتماء وبالمسؤولية، أو خدمة للأهل والجيران والأقارب، أو حتى استعداد وتدريب للبحث عن عمل؟ ولكن جاءت شروط وزارة السخرة/ التربية والتعليم سابقا لتحارب كل هذه المقاصد، وتعمل على أن تقدم نسختها الانقلابية لمفهوم التطوع من خلال وضع شروط وقيود في ظل ظروف اقتصادية وسياسية واجتماعية لا تساعد على أي جهد.

من بين هذه الشروط أن يكونوا من الحاصلين على مؤهل عال تربوي، والحاصلين على مؤهل عال ودبلومة تربوية؛ وهي شروط ضرورية لا يمكن رفضها أو التعليق عليها، أما عن الشروط التالية من مثل أن التطوع بمدارس لا يوجد بها طلاب مقيدون لهم صلة قرابة بالمتطوع حتى الدرجة الثانية، الدرجة الأولى: (الأب والأم والأبناء والزوج والزوجة) الدرجة الثانية (الأخ والأخت والجد والجدة والأحفاد)، فهو شرط لا يمكن القبول به لأنه سيترتب عليه أن يتحمل المتطوع تكاليف إضافية لأنه سيعمل بعيدا عن منطقته السكنية التي فيها من يرتبطون معه بصلة قرابة، ومن ثم بدلا من أن يعينوه على أداء عمله إذا بهم يكلفونه فوق ما يطيق.

أما عن شروط أن العمل التطوعي مجاني واختياري رغم ذلك لا يكتسب الحق في المطالبة في التثبيت أو التعيين أو التعاقد مستقبلا على الموازنة العامة للدولة، فهو بمثابة قطع الأمل أمام المتطوع، بل ويكون التطوع عقابا وعقوبة. أما عن شرط أن عمل المتطوع ينحصر في مساعدة المعلمين من خلال تنفيذ المهام التي يتم تكليفهم بها من قبل مشرفي المادة، فهذا الشرط يقضي على كل المنافع المعنوية التي يمكن أن تعود من وراء هذا العمل التطوعي.

مثل هذه السياسات والممارسات تؤكد على اختلال بوصلة هذه المؤسسات المشوهة التي تخدم منظومة الانقلاب وتدور في فلكها، فهي باتت تتبنى إجراءات وقواعد معوجة ومتعسفة تتعارض مع المعاني المستقرة والراسخة التي أرساها المختصون في العمل التطوعي

مثل هذه السياسات والممارسات تؤكد على اختلال بوصلة هذه المؤسسات المشوهة التي تخدم منظومة الانقلاب وتدور في فلكها، فهي باتت تتبنى إجراءات وقواعد معوجة ومتعسفة تتعارض مع المعاني المستقرة والراسخة التي أرساها المختصون في العمل التطوعي؛ بتأكيدهم على أن العمل التطوعي مثال حي على تطور المجتمعات وتمسكها بالقيم والمثل الإنسانية الراقية، التي تقوم على البذل والعطاء والمساعدة في نهوض المجتمع ونشر ثقافة العمل من أجل الآخر.

كما يعتبر العمل التطوعي مؤشرا على الحيوية والنشاط التي يتمتع بها أفراد المجتمع، ومقياسا لمستوى الوعي لدى الفرد وما يجود به من عطاء لمجتمعه في مجالات شتى. ويعطي العمل التطوعي أيضا صورة عن مدى انتماء الأفراد لمجتمعاتهم وبلدانهم ومدى إحساسهم ببعدهم الإنساني، الذي يتجاوز الحدود الضيقة والمحلية، ويسمو إلى آفاق الإنسانية. وتختلف أشكال التطوع ودوافعه وتوجهاته باختلاف المجتمعات وتنوع الثقافات.

هكذا تتناقض رؤية هيئات نظام الثالث من تموز/ يوليو مع مفهوم التطوع في فلسفته كما سبقت الإشارة، وفي معانيه اللغوية كما بينت العديد من الدراسات؛ حيث يرى الخليل بن أحمد “الطوع” نقيض الكره، ويقول ابن فارس “ط وع” أصل صحيح واحد يدل على الإصحاب والانقياد. أما قول العرب في التبرع بالشيء، قد تطوع به على ما أثبته الخليل: “التطوع: ما تبرعت به مما لا يلزمك فرضه، فهو من الباب لم يلزمه، لكنه انقاد مع خير أحب أن يفعله”. ولا يقال هذا إلا في باب الخير والفعل الإرادي والإحساني.

يعدّ التطوع من الأعمال الخيرية التي يقوم بها الفرد تجاهَ الغير وتجاه المجتمع، وقد ذكر بعضهم في مفهوم التطوع من خلال ممارسة ممتدة أنّه: “الجهد الذي يبذله أي إنسان بلا مقابل لمجتمعه، بدافع منه للإسهام في تحمّل مسؤولية المؤسسة التي تعمل على تقديم الرعاية الاجتماعية”. وهكذا يتضح أن معنى التطوع في اللغة والممارسة أيضا يفارق ما تعرفه تلك الهيئات المستبدة التي تعبر عن إرادة المنقلب في أخذ الناس بالباطل، واستعباد أرواحهم وأنفسهم وتقييد وإجبار إرادتهم الطوعية، في محاولة لفرض إجراءاتها وقواعدها الجبرية وفرض حالة العسكرة حتى في التطوع المختار.

هذه الممارسة التي أشرنا إليها ضمن تقويض مفهوم التطوع الذي يعبر عن الإرادة الحرة والإيجابية الاجتماعية والمسكون بمفهوم الإحسان والحرية والاختيار؛ هي من الأمور التي يقوم بها العسكر ضمن ما يتسمون به من تحكم خطير، ومن نظام مفروض يحاولون أن يفرضوه مدا وجبرا على كافة مساحات وساحات المدني والمجتمعي

وحب الحصيد كما رآه أستاذ قدير وخبير في مجاله؛ هو أن فقد الحرية أهم أسباب انحطاط مجتمعاتنا، هو علة أساسية من علل انحسار المجال العام، وسبب رئيسي لتدهور المؤسسات العريقة في عمل الخير.. وقد عبر الكواكبي عن فداحة الثمن الذي تدفعه مجتمعاتنا نتيجة فقدان الحرية في كتابه “أم القرى” على لسان “المولى الروم”، بقوله: “وعندي أن البلية فقدان الحرية، وما أدرانا ما الحرية؛ هي ما حرمنا معناه حتى نسيناه، وحرم علينا لفظه حتى استوحشناه، ومن فروع الحرية تساوي الحقوق ومحاسبة الحكام باعتبار أنهم وكلاء، وعدم الرهبة في المطالبة وبذل النصيحة.. فالحرية هي روح الدين.. وأعز شيء على الإنسان بعد حياته، وإن بفقدانها تفقد الآمال، وتبطل الأعمال، وتموت النفوس، وتتعطل الشرائع، وتختل القوانين”.

إن هذه الممارسة التي أشرنا إليها ضمن تقويض مفهوم التطوع الذي يعبر عن الإرادة الحرة والإيجابية الاجتماعية والمسكون بمفهوم الإحسان والحرية والاختيار؛ هي من الأمور التي يقوم بها العسكر ضمن ما يتسمون به من تحكم خطير، ومن نظام مفروض يحاولون أن يفرضوه مدا وجبرا على كافة مساحات وساحات المدني والمجتمعي ومسالك مؤسسات الأمة، فيغتصب إدراكا واستبدادا كافة مساحات المجتمع فلا يترك له أي ساحة لإعمال القيمة أو ممارسة الحرية.

ولعل ما رأيناه في نموذج مفهوم التطوع الذي يفرَّغ من مضامينه الإيجابية ضمن تلك الرؤية المستبدة إنما يعبر في حقيقة الأمر عن استراتيجية كبرى للمنظومة الانقلابية ونظام الثالث من تموز/ يوليو، حينما يُستخدم هذا الأسلوب لاختطاف كل المؤسسات التي تتعلق بالخدمات الأساسية وعلى رأسها وزارات التعليم والصحة والنقل والتموين وغيرها، وكأن هؤلاء يريدون أن يصنعوا حالة من “نكد الحال” و”ضنك العيش” ليجعلوه صناعة كبرى ضمن استراتيجية التطويع لصناعة القطيع.