نشر المقال في “عربي21” بتاريخ: 2 نوفمبر 2022

في ظل سياسة الانقلاب الكارثية تردت الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية المصرية إلى أدنى مستوياتها، حتى باتت مصر تنتظر قرض صندوق النقد الدولي باعتباره المنقذ الوحيد لها من الضياع والإفلاس، رغم وصول الدين الخارجي المصري إلى مستويات غير مسبوقة وشديدة الخطورة. وقد احتفت مصر واحتفلت بموافقة الصندوق على القرض، ووفقا لبيان الصندوق فقد تم التوصل إلى “اتفاق مع السلطات المصرية بقيمة ثلاثة مليارات دولار مدته 46 شهرا، وتحفيز تمويل إضافي من شركاء مصر الدوليين والإقليميين للحفاظ على الاستقرار الاقتصادي”.

وأضاف البيان أن “الاتفاق سيخضع لموافقة المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي، والذي من المتوقع أن يناقش طلب السلطات في كانون الأول/ ديسمبر. كما أعلن الصندوق ترحيبه بالإجراءات التي اتخذتها السلطات مؤخرا لتوسيع الحماية الاجتماعية المستهدفة والتي شكلت غطاء لتعويم خطير للجنيه المصري، وتنفيذ نظام سعر صرف مرن دائم، فضلا عن التزامها الثابت بمعالجة التعديلات اللازمة على مستوى الاقتصاد الكلي وتنفيذها أجندة طموحة للإصلاح الهيكلي وسط خلفية عالمية صعبة”، هذا وفقا لما يرى الصندوق.

وأشار بيان الصندوق إلى أن “السياسة المالية للحكومة ستركز في إطار اتفاق التمويل على خفض الدين الحكومي العام واحتياجات التمويل الإجمالية”، مضيفا: “إن تحرك البنك المركزي المصري إلى نظام سعر الصرف المرن خطوة مهمة ومرحب بها لحل الاختلالات الخارجية، وتعزيز القدرة التنافسية لمصر، وجذب الاستثمار الأجنبي المباشر، وستكون تدابير الإصلاح هذه حاسمة لمعالجة القيود طويلة الأمد التي تعوق النمو الأعلى والأكثر استدامة والأكثر شمولا في مصر”. إلا أن أخطر ما تضمنه بيان الصندوق هو التأكيد على دور الشركاء الإقليميين والدوليين بقوله: “وسيلعب شركاء مصر الدوليون والإقليميون دورا حاسما في تسهيل تنفيذ سياسات وإصلاحات السلطات”.

العبارة التي وردت في بيان الصندوق ووصفناها بأخطر ما تضمنه البيان؛ تعبر بصورة مباشرة عن المدى الذي وصلت إليه مصر في ظل نظام الثالث من تموز/ يوليو وجعلها تحت الوصاية الإقليمية والدولية حتى يمرر القرض الأخير، والذي يمثل رهنا اقتصاديا لمصر سواء لمواردها أو أصولها الكبرى التي صارت محل مساومة ومحل بيع رخيص

رغم الاحتفاء الكبير للحكومة المصرية بالقرض وتنظيم مؤتمر اقتصادي خاص به، إلا أن الهيئات الدولية والدول الخارجية تراجعت ثقتها كثيرا في إمكانية أن تفي مصر بالتزاماتها وأن تقوم بسداد ديونها، خصوصا بعدما تجاوز الدين الخارجي المصري أكثر من 157 مليار دولار. والأكثر تأكيدا على ذلك تصريحات قائد الانقلاب الذي أكد أن “الأشقاء والأصدقاء أصبح لديهم شعور بأن الدعم الذي تلقته مصر منهم لسنوات شكل لدينا ثقافة الاعتماد عليهم لحل الأزمات والمشاكل.. وأصبح لديهم قناعة بأن مصر غير قادرة على الوقوف مرة أخرى بعد ما قدموه لها من مساعدات استمرت لسنوات لحل الأزمات والمشاكل”.

ومن ثم فإن العبارة التي وردت في بيان الصندوق ووصفناها بأخطر ما تضمنه البيان؛ تعبر بصورة مباشرة عن المدى الذي وصلت إليه مصر في ظل نظام الثالث من تموز/ يوليو وجعلها تحت الوصاية الإقليمية والدولية حتى يمرر القرض الأخير، والذي يمثل رهنا اقتصاديا لمصر سواء لمواردها أو أصولها الكبرى التي صارت محل مساومة ومحل بيع رخيص؛ ستكون له آثار في المدى المنظور والمستقبل البعيد.

ورغم ذلك فقد جاء القرض دون مستوى توقعات النظام كثيرا، فقد كان يعول على أن الصندوق سوف يقدم له على أقل تقدير تسعة مليارات دولار، وأنه سوف يحصل من الشركاء الدوليين والإقليميين بضمان الصندوق على ضعفي هذا المبلغ، مما يعني أنه كان يأمل أن يحصل على قرابة 30 مليار دولار يستطيع من خلالها أن يستعيد سيطرته على الأمور لبعض الوقت، إلا أن قرض الصندوق الذي جاء في أدنى مستوياته انعكس أيضا على تمويلات وقروض الأطراف الأخرى. ووفقا لتصريحات وزير المالية المصري فإن الاتفاق مع الصندوق يتضمن تمويلا بتسعة مليارات دولار، عبارة عن ثلاثة مليارات دولار من الصندوق، ومليار دولار من صندوق “الاستدامة والمرونة”، وخمسة مليارات دولار من الشركاء الدوليين.

يظن من صنع المشكلة وأدى إلى تلك الأزمة الاقتصادية الطاحنة والمعقدة من جراء قروض حل موعد فوائدها فضلا عن بعض أقساطه؛ أنها أمور تتعلق بمطالبات دولية لا مطالبات داخلية ضمن سياقات التحكم في الداخل

ومن المؤسف حقا أن يظن من صنع المشكلة وأدى إلى تلك الأزمة الاقتصادية الطاحنة والمعقدة من جراء قروض حل موعد فوائدها فضلا عن بعض أقساطه؛ أنها أمور تتعلق بمطالبات دولية لا مطالبات داخلية ضمن سياقات التحكم في الداخل.

وهنا فإننا لا نشير وبأي شكل وبأي طريق رغم خطورة ذلك؛ إلى جملة الديون الداخلية التي صارت تقدر بالتريليونات لا المليارات، وهو أمر شديد الخطورة ليحكم الأزمة من موقف مصر الاقتصادي والنقدي الهش في الداخل وفي الخارج. ولعل ذلك ما دفع النظام إلى إيهام الناس في مسيرة الوهم الكبرى التي خطط لها هؤلاء من دون دراسات جدوى وبقرارات فردية غير مدروسة؛ أن يشغل الناس بالدعوة لمؤتمر اقتصادي بصورة مفاجئة، وهو يعرف مقدما أن هذا المؤتمر لن يقدم أو يؤخر في هذه الأزمة الاقتصادية أو اقتراح الحلول لها، وهو بعد أن جمع هذا الجمع الغفير أراد أن يوجه لهم الكلام ساخرا من أدائهم ومما توصلوا إليه: “كل المقترحات اللي اتقالت، أي طالب في كلية سياسة واقتصاد، بيتكلم فيها، لكن إزاي تعملوها، كلامي هيبقى كده”.

وفي حقيقة الأمر أن هذا المقترح من جانب هؤلاء الذين أشاروا عليه بعقد المؤتمر والذي استمر لأيام عدة قد تمخض كما هو حدد سلفا، فالهدف من هذا المؤتمر أن يكون مدخلا لاستمراره في مسيرة الاقتراض الخارجي الملعون، التي يلعب الصندوق والبنك الدولي دورا مهما في استمرارية هذا المسار، في ظل ما يمنحاه لهذا النظام من شهادات زائفة ومزورة لاقتصاد على حافة الهاوية، فاتخذ من هذا المؤتمر الاقتصادي غطاء لهذا المسار الاقتراضي لنكون أسرى لدائرة الاقتراض الخارجي المفرغة والملعونة التي تفاقم المشكلة الاقتصادية وتجعلها أكثر تعقيدا، وربما تفوت الفرصة لأي حل آني أو مستقبلي لهذه المشكلة إلى أن تتحكم الأزمة الاقتصادية بنا وبمستقبلنا.

ولعل ذلك أخطر ما يمر بمصر حينما نستدعي من الذاكرة التاريخية خبرة الخديوي إسماعيل في الاستدانة، والتي نتج عنها صندوق للدول المدينة شكل رقابة على مصر؛ ليس فقط على مواردها ومسيرتها الاقتصادية ولكن على مستقبلها السياسي والاجتماعي. وهذه خطورة مركبة ومتراكمة، ويعرف كل من يحرص على مستقبل هذا البلد وتماسكه وكيانه الأساسي أن الأمر يهدد الوطن بالخطر المقيم، والذي ربما لن يكون هناك أي إمكانيات لدفعه أو رده.

وفي هذا السياق تترافق سياسات عشوائية لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون لها وزن أو مكان ضمن التقديرات الاقتصادية الواعية التي تحدد مسارات التنمية الحقيقية لا الزائفة، والمشروعات التي تخدم عموم الناس لا تلك المشروعات التي يحددها الهوى الفردي من دون أن تمتلك أي أولوية في البناء الاقتصادي وتماسك البنية الاجتماعية وشأن العدالة في التوزيع، وكل الأمور التي تتعلق بمنظومة الإنماء الحقيقي والمستدام والمؤثر في مستقبل البلاد والعباد.

عدم تحديد وتعيين ميزان الأولويات في مشاريع عشوائية والتي مُولت سابقا بتلك القروض الماضية والتي يستمر فيها نفس تلك المنظومة وبذات الطريقة؛ إنما يعبر عن القيام بمهمة خطيرة في تخريب اقتصاد مصر الممنهج والمنظم ومقدرات البلاد الأساسية التي يتم التفريط فيها والتنازل عنها من حدود وترسيمها، وغاز وإهداره، ومياه النيل والتفريط فيها

إن عدم تحديد وتعيين ميزان الأولويات في مشاريع عشوائية والتي مُولت سابقا بتلك القروض الماضية والتي يستمر فيها نفس تلك المنظومة وبذات الطريقة؛ إنما يعبر عن القيام بمهمة خطيرة في تخريب اقتصاد مصر الممنهج والمنظم ومقدرات البلاد الأساسية التي يتم التفريط فيها والتنازل عنها من حدود وترسيمها، وغاز وإهداره، ومياه النيل والتفريط فيها. كل ذلك إنما يعبر عن منظومة عشوائية تحت دعوى الإنجاز الزائف والمزور الذي لا يمكن أن يصب في عافية البلاد أو في مستقبل التنمية.

ولا يسعنا إلا أن نؤكد أنه من خلال تلك المنظومة الاقتراضية الفجة في دائرتها المفرغة الملعونة، ونموذج القرار العشوائي في المجال الاقتصادي والتنموي وما أدى إليه ذلك من هذه المحصلات المأزومة والزائفة، فلم تكن في حقيقة الأمر إلا منظومة يحوطها الظلم والترويع والإفقار والتجويع، لتقوم في النهاية بإعمال السنة الخلدونية “الظلم مؤذن بخراب العمران”، وهو ظلم بكافة أشكاله لا يتأتى إلا من منظومة الاستبداد الفاجر والترويج والتلبيس على عموم الناس بإنجاز زائف.