نشر المقال في “عربي21” بتاريخ: 22 نوفمبر 2022

نعيش حالة من حالات تغول السلطة التنفيذية، أو بشكل دقيق هيمنة شاغل الرئاسة المصرية وأعوانه على كافة المؤسسات والهيئات في طول البلاد وعرضها، فهو المتحكم في كل شيء، ولا يستطيع أحد مخالفته لأنه لا يتسامح في مثل هذه التصرفات بغض النظر عن نتيجتها. فهو ينشغل بالأساس بمدى طاعته والولاء له، وليس بنتائج تلك القرارات أو حصيلتها، فجلّ اهتمامه هو الهيمنة على مؤسسات الدولة وقراراتها، الأمر الذي أنتج ما نسميه بـ”دولة الضد”.

وقد سبق وبينّا الفرق بين “دولة كأن” (دولة نظام مبارك) و”دولة الضد” (دولة نظام الثالث من يوليو)، وقلنا إن دولة الضد دولة مغتصبة مختطفة بسلطاتها ومؤسساتها، حتى “مسألة الشرعنة” هي “شرعنة زائفة باطلة” تضفي حقا بالإكراه على غصب بالإكراه. فمتى كان الغصب حقا، وتزوير الإرادة وإكراهها جوهرا ورضا؟

في حقيقة الأمر أن شبكة “دولة الضد” تتمثل في عصابة متحكمة ومؤسسات مختطفة؛ تقوم بخدمة هؤلاء الذين اختطفوها تحت التهديد، وتضم أيضا هؤلاء الذين قاموا بأدوار متواطئة بالصمت على استبداد السلطة واستمرارها في غيها وطغيانها، ففي هذه النسخة من الدولة تقوم المؤسسات بضد وظائفها، لا وظائفها المقررة الحقيقية والمعتبرة التي ترتبط لزوما بمعنى الدولة ووظائفها الجوهرية.

شبكة “دولة الضد” تتمثل في عصابة متحكمة ومؤسسات مختطفة؛ تقوم بخدمة هؤلاء الذين اختطفوها تحت التهديد، وتضم أيضا هؤلاء الذين قاموا بأدوار متواطئة بالصمت على استبداد السلطة واستمرارها في غيها وطغيانها

فإذا كانت “دولة كأن” قد زيفت المؤسسات؛ فإن دولة الضد من خلال سلطة عسكرية مستبدة قد اختطفتها جميعا ووجهتها لخدمتها بالإكراه والقسر وتحت تهديد السلاح؛ ضمن نظام انقلابي تستفيد منه عصابة محددة العدد ومحدودة الأفق، هي التي تشكل عالم المصالح وشبكات الفساد ومؤسسات الاستبداد على أعينها، فصارت مصر دولة الخوف كسجن كبير، “مصر المحبوسة”.

ولكن نقول لهؤلاء الذين يتحدثون عن الدولة وعن حياضها، وبلا مواربة، أنتم الهادمون للدولة حقيقة وجوهرا، دورا ووظيفة، غاية ومقصدا.. تقومون بكل عمل ينقض فعلها ولا يحمي أبناءها، ولا يحفظ حقوقها.. إنكم في حقيقة الأمر ضد الدولة (الحقيقية) بتمكين دولة الضد الموهومة (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ).

إن “دولة الضد” الفاشية البوليسية المعسكرة؛ تصطنع حالة متكاملة سياسيا وإعلاميا واقتصاديا وثقافيا واجتماعيا؛ تعمل من أجل هدف رئيس هو انهيار الدولة المصرية وسقوطها والقضاء عليها، فنظام الثالث من يوليو يعمل على تحقيق هذا الهدف بصبر وعزم وإخلاص بشكل لا يمكن لأحد أن يتصوره على حقيقته، ولعل كتاب “مصر” لروبرت سبرنجبورج يرصد هذه الظاهرة بدقة.

هذه هي دولتكم فماذا عن الدولة التي نريدها؟ نريد لمصرنا أن تكون دولة المسؤولية والمساءلة، الدولة التي تعبر عن ثابت تاريخي يتعلق بفاعلية هذه الدولة، ليست هذه الفاعلية في القتل والخنق والحرق، ولكنها دولة المسؤولية عن كل فرد وعن كل تكوين اجتماعي ومجتمعي، والمحافظة على كل الفاعليات الاجتماعية فيها لأنها مسؤولة مسؤولية مباشرة عن شبكة العلاقات الاجتماعية في الدولة وعن تماسك الجماعة الوطنية وعن السلم الأهلي فيها، أي مقام مسؤولية فيما ترونه أنتم في دولتكم؛ “دولة الضد” التي تتنكر لوظائف الدولة الجوهرية وحقائقها الأساسية من الأمن والأمان، والعدالة والإنصاف، والمساواة والمشاركة، ودولة القانون، والحقوق الأساسية والتأسيسية للإنسان والمواطن، وتماسك المجتمع والجماعة الوطنية.

ومن الممكن الإشارة إلى الانقلاب الموازي المعمول به في مؤسسات الدولة وعن التطبيق الفعلي لدولة الضد، فعلى سبيل المثال مؤسسة العدالة في مصر الحالية هي من مؤسسات دولة الضد؛ فهي تقوم بـ”ضد” وظيفتها؛ حيث ترسخ بشكل يومي الظلم والحكم بالجور، ولم تعد تنشغل بجوهر وظيفتها ألا وهي الحكم بين الناس بالعدل، ولكنها صارت وزارة الظلم؛ فتقوم بالجور والإجحاف بدلا من قيامها بوظيفة منوطة بها، في العدل والإنصاف.

رأينا الدور الذي لعبته مؤسسة العدالة ومشتملاتها من نيابة ومحاكم بدرجاتها المختلفة في ترسيخ الانقلاب وتثبيت أركانه والعسف بالمجتمع وبجماعته الوطنية، ولم تتحسب يوما لاستقرار المجتمع وأمانه وتأمينه، ولكن بات مرفق العدالة لا يختلف في الدور والوظيفة عما يمكن أن تقوم به وزارة الداخلية، أو أي وزارة أخرى

وقد رأينا الدور الذي لعبته مؤسسة العدالة ومشتملاتها من نيابة ومحاكم بدرجاتها المختلفة في ترسيخ الانقلاب وتثبيت أركانه والعسف بالمجتمع وبجماعته الوطنية، ولم تتحسب يوما لاستقرار المجتمع وأمانه وتأمينه، ولكن بات مرفق العدالة لا يختلف في الدور والوظيفة عما يمكن أن تقوم به وزارة الداخلية، أو أي وزارة أخرى، ومن ثم لا بد من أن نتساءل كيف نجح نظام الثالث من يوليو في اختطاف المؤسسات وتطويعها. ويمكن الإشارة إلى عدة نقاط تعد ضمن منظومة من المؤشرات التي تؤكد على “مفهوم الدولة الضد”؛ يحاول من له مصلحة في تمكينه ويجني من خلفه ما يحقق به مصالحه الأنانية.

أولها، تغييب الدستور في الفعل والممارسة رغم وجوده النظري والشكلي، فعلى الرغم من افتتاح نظام الثالث من يوليو عهده بوضع دستور جديد، وإجراء تعديلات لاحقة عليه، إلا أن الغالب على الأمر هو التجاهل التام لهذا الدستور وإهماله بشكل كامل.

ثانيها، السيطرة التامة على قرارات التعيين والانتداب والترقية بكافة الوسائل الممكنة القانونية وغيرها لضمان الولاء التام والعاجل من جميع قيادات المؤسسات، وهو ما يعني التحكم في النظام والمؤسسي من حيث الهيمنة على المفاصل المرتبطة بالهياكل الوظيفية.

ثالثها، هيمنة مؤسسة الجيش ومنتسبيها على مؤسسات الدولة بشكل فج، والحرص على تمكينهم من إصدار القرارات في تلك المؤسسات بصورة غير مسبوقة، وباتت المؤسسات المصرية تحت السيطرة التامة للمنظومة العسكرية.

رابعها، السيطرة على موارد المؤسسات المالية وتحكم المؤسسة العسكرية في الاقتصاد بشكل كلي وجزئي.

خامسها، القبضة الأمنية الفجة، والتوسع غير الإنساني في قضايا الاحتجاز والتوقيف والحبس الاحتياطي والتدوير الذي لا ينتهي؛ ضمن حلقات تُحكم هيمنة النظام الفاشي وآلياته.

سادسها، إهدار كل مؤشرات العدالة والتفريط فيها باستخفاف شديد، وتعمد مريب، وكأن الهدف تشويه هذا المرفق وإفقاده هيبته وشموخه ومكانته في المجتمع.

سابعها، الاستهانة بالحقوق الإنسانية التأسيسية والأساسية والسياسية والمدنية، والتعويل على تشكيل منظمات حقوقية تابعة للنظام ومهادنة له، وحريصة على تبييض صورته في المحافل الدولية.

ثامنها، الدعاية الفجة التي يعتمد عليها النظام داخليا وخارجيا، ويعتبرها بديلا لدراسات الجدوى والعمل الفعلي. ففي بعض الأحيان يكتفي بها عِوض العمل والإنجاز الحقيقي، ويقوم جهازه الإعلامي بعمليات تضليل ممنهجة في إطار استخدام تلك الشعارات الفجة حول معاني الدولة والوطنية، والتي هي في حقيقة الأمر ليست إلا كلمات جوفاء يحاولون معها الهجوم على كل مخالف لمصلحة الاستبداد والمستبد.

تاسعها، اختطاف كافة المؤسسات الرسمية وشراء المؤسسات الخاصة ضمن مسار السيطرة والاستحواذ والابتزاز، خاصة المؤسسات الإعلامية (صلاح دياب نموذجا)، أو المؤسسات الاقتصادية (آل ثابت نموذجا)، وغيرهما من المؤسسات التي إما اضطر أصحابها إلى التنازل عنها أو دفعوا ثمنها نفيا أو سجنا.

عاشرها، عسكرة المجتمع بالكامل والتحكم في كافة مفاصله، وهي ظاهرة باتت لا تحتاج إلى دليل أو تدليل فهي موجودة في كل ساحة ومساحة خاصة أو عامة، وفي كل مجال اجتماعي أو ثقافي.

عاجلا أم آجلا سينهار هذا النظام ويندثر ولكن خطورة الوضع الحالي أنه لن ينهار وحده، فهذا النظام نجح في أن يربط مصيره بمصير الدولة ذاتها، كيانها ومكانتها، ومن ثم فإن انهياره الحتمي سيؤثر على الدولة ذاتها، ومن ثم فإن الجميع عليه أن ينتبه لهذه المسألة

بالجملة فإن صناعة مجتمع العبيد وتكريس علاقة السيد بالعبيد؛ هو هدف التمكين لدولة الضد، وهي تقوم على خدمة المستبد وأعوانه في إطار يتحدث فيه عن تدشين دولة جديدة، وهي في حقيقة الأمر ليست إلا طبعة استبدادية تقوم على علاقات العبودية والخدمة المطلقة لهؤلاء الذين اختطفوا الدولة والمجتمع.

إن متابعة هذه الحالة يجب ألا تتوقف عند مجرد رصدها فقط، ولكن يجب أن تتجاوز ذلك للوقوف على أبعادها ومخاطرها والتفكير في مستقبلها، فعاجلا أم آجلا سينهار هذا النظام ويندثر ولكن خطورة الوضع الحالي أنه لن ينهار وحده، فهذا النظام نجح في أن يربط مصيره بمصير الدولة ذاتها، كيانها ومكانتها، ومن ثم فإن انهياره الحتمي سيؤثر على الدولة ذاتها، ومن ثم فإن الجميع عليه أن ينتبه لهذه المسألة.

وهذا لا يعني أن نتمسك بهذا النظام ونحافظ عليه فمثل هذه الممارسات ستضحي بالدولة ذاتها؛ كما ستؤدي إلى زيادة تكلفة الإصلاح والإنقاذ للدولة المصرية، ومن ثم فإن العمل على وقف هذا التدهور يكون بالسعي الجاد لكشف نوايا وأهداف نظام الثالث من يوليو وبيان خطورته على مصر والمصريين، آنا واستقبالا؛ وعلى مستقبل الدولة الحقيقية والإبقاء على تماسك المجتمع وقوته؛ والحفاظ على مكانة الوطن وكرامة المواطن.