نشر المقال في “عربي21” بتاريخ: 21 فبراير 2023

وظيفة العلماء في الأمة كرافعة لنهوضها وقاطرة لشهودها ومكانتها لا تُنكر، سواء في تاريخها وذاكرتها الحضارية أو في التعويل عليها لاستشراف مستقبلها واستئنافها الحضاري.

قفز إلى صدر المشهد مع نشأة الدولة القومية طبقة سميت بالمثقفين لتحمل رسالة العلماء والقيام بأدوارهم؛ ولكن للأسف لا يمكن أن تكون هناك صورة لوظيفة الضد في زمننا المعاصر، ومع نظام الثالث من تموز/ يوليو، أوضح من وظيفة المثقفين المصريين في ظل هذا النظام. فمنذ اليوم الأول من “ثورة يناير” لم يكن جميع المثقفين في خندق الثورة، وحينها فسر البعض ذلك بأن الإصلاح له العديد من الطرق، وقد يكون هناك من يرى في الحل الثوري هو الطريق الأمثل، أو أن التغيير المتدرج هو الأكثر نجاعة وفعالية، بل إن البعض حينها أشار إلى أن تفكير الكثير من المثقفين تفسير عميق وأن عدم تبلور مشروع متكامل للثورة هو ما دفع هؤلاء المثقفين إلى التريث، وانتظار ما ستسفر عنه تطورات الأحداث.

وبقيت الصورة كما تصور البعض نقية ناصعة البياض، حتى انتخاب أول رئيس مدني منتخب، وقتها اتضحت الحقائق، وانجلت الصورة وتكشفت الأوهام حول هؤلاء المثقفين الذين رفضوا الديمقراطية، ونظموا المظاهرات والاعتصامات ورفضوا اختيار الشعب، واتهموه بالجهل والسطحية. ونسوا جوهر وظيفتهم، بل واحترامهم للعلم والثقافة التي كنا نظن أنهم يحملونها بين جنباتهم، ثم كانت الطامة الكبرى وهي احتفاؤهم واحتفالهم بالانقلاب العسكري الذي وقع في مصر في 30 حزيران/ يونيو-3 تموز/ يوليو من العام 2013، حينها تكشفت الأمور واتضح أنه لا يوجد مثقفون ولا ثقافة وإنما في أحسن الأحوال “أكل عيش”.

حتى انتخاب أول رئيس مدني منتخب، وقتها اتضحت الحقائق، وانجلت الصورة وتكشفت الأوهام حول هؤلاء المثقفين الذين رفضوا الديمقراطية، ونظموا المظاهرات والاعتصامات ورفضوا اختيار الشعب، واتهموه بالجهل والسطحية. ونسوا جوهر وظيفتهم، بل واحترامهم للعلم والثقافة التي كنا نظن أنهم يحملونها بين جنباتهم، ثم كانت الطامة الكبرى وهي احتفاؤهم واحتفالهم بالانقلاب العسكري

قد يظن البعض أننا نتعامل مع هؤلاء بقسوة أو أننا نتبنى جانبا واحدا من الرواية حول دورهم وموقفهم في الثورة والانقلاب، ولكن طبيعة الأمور تؤكد أن موقفنا هذا لا يمكن أن يكون متحاملا عليهم بحكم وظيفتهم، فعلى مر التاريخ عُرفت هذه الوظيفة بانحيازها إلى الجماهير والشعوب وتعبيرها عنهم، بالإضافة إلى الدور الرئيسي لهم في تثقيف الشعوب وحملهم على مدارج العلم والنور والتنوير. فلا يمكن لأحد ممن يدرك حقيقة هذه الوظيفة ودورها أن يتخيل أن يشجع أهل الثقافة الاستبداد وكبت الحريات وإهدار الحقوق واغتيال الكرامة، فهذا ضد وظيفتهم، وعكس مرادهم، بل هي التحديات الأساسية التي يعملون على مواجهتها بالأساس ويكونون في طليعة من يحمون الجماهير من هذه الآفات ويشجعونهم على مواجهتها ومقاومتها، والقضاء عليها، أما وأنهم يكونون هم معاول السلطة المستبدة في تدجين الجماهير ولفتهم عن مطالبهم في الحرية والكرامة الإنسانية؛ فهذ ما لا يمكن قبوله منهم أو حتى السكوت عليه وتمريره.

إلا أن الإنصاف يطالبنا بأن نؤكد على أن هذا الدور المخزي لم يخترعه مثقفو نظام الثالث من تموز/ يوليو، ولكن هي وظيفة موجودة على مر التاريخ بصفة عامة والتاريخ المصري بصفة خاصة، إلا أن التاريخ يحمل لهم كل الخزي والعار ويصمهم بخيانة الشعوب وخدمة السلطة واستبدادها. إنها الثقافة المزيفة كما يشير إليها أستاذنا الدكتور حامد ربيع رحمة الله عليه:  “.. وهنا تبرز وظيفة الطبقة المثقفة، أن هذه الطبقة التي لم تؤد وظيفتها الحقيقية طيلة أكثر من قرن كامل من الزمان آن لها أن تعرف مسؤولياتها التاريخية. مرحلة دخلت في حكم التاريخ ولكن علينا أن نعيد فهم حقيقتها وحقيقة متغيراتها لنتعلم درس الماضي والخبرة التي عاشتها هذه الأمة من تعاملاتها مع القوى الأجنبية.. لقد عرفنا الطفيليات التي شوهت تاريخنا القومي وتراثنا الحضاري باسم التجديد، وخدعتنا الأسماء الرنانة التي طبلت لها الدعايات الأجنبية والتي فرضت على المنطقة.. علينا أن نعرف كيف نميز الصحيح من الباطل لنستبعد جانبا الثقافة المزيفة، وبحيث لا تغرينا ادعاءات التجديد والتحديث وقد جاءت النغمة الجديدة باسم التنمية لتكمل هذا الإطار من الزيف والبهتان”.

عرفت الإنسانية هذه الظاهرة، وهناك العديد من المفكرين الذين رصدوا هذه الظاهرة وأطلقوا عليها أوصافا لائقة بها، من مثل “خيانة المثقفين” لإدوارد سعيد، و”المثقفون المزيفون” لباسكال بونيفاس، و”عصابة الحقوقيين”، وهذا الوصم الأخير أطلقه عليهم المفكر المصري حامد ربيع الذي كان يرى أن “المفكر ضمير أمته؛ وأن هناك لحظات في تاريخ المجتمعات، يتعين فيها على المفكر والفيلسوف أن يخاطب رجل الشارع، يبث فيه عناصره النفسية الدفينة، ويدفع -من خلال قرع الضمير الجماعي- ذلك الرجل العادي ليحيله إلى قوة خلّاقة، تنطلق في عملية إيمان بالذات لتصير فيضانا يتحكم في مصائر الحركة. فمهمة العالم الكفاحية تتمثل في إرشاد أمته وترقيتها من حالات التخلف إلى الرقي والحضارة والتمدن. فالمثقف موقف، والمفكر السياسي إبداع في التعامل مع الموقف”.

كان نظام مبارك المخلوع ومن قبله أنظمة العسكر منذ حركة يوليو في العام 1952 قد أسهمت في تدجين طبقة المثقفين إلا من رحم ربك؛ وأسهم هذا التطبيع والتطويع الخطير لهذه الطبقة في التمهيد لأن تنقلب هذه الطبقة في أدوارها ضمن انقلابات السلطة التي تكررت لتشكل بحق طبقة “مثقفي الضد”، فصاروا ذنبا للسلطة وفي خدمتها، وفقدوا أدوارهم التنويرية وصاروا في خدمة الطغيان والاستبداد

هؤلاء أشار إليهم “أنطونيو جرامشي” في واحد من أفضل مصطلحاته “المثقف العضوي”؛ المثقف الذي ينخرط في بني وطنه ليعبر عن مصالحهم وآمالهم وآلامهم؛ ولكن مثقفي نظام الثالث من تموز/ يوليو مارسوا كل ما يمكن لهم لتمرير وتسويق هذا النظام وأطلقوا عليه مفردات غير مسبوقة؛ من مثل “مرشح الضرورة” وغيرها من الحجج والسياقات التي اخترعوها لتمرير هذا الزيف. وقد سقط في هذا الفخ من كنا نظنهم قامات فكرية وثقافية كانت تروج عن نفسها أنها خطاب إنساني وديمقراطي وحقوقي، ولكن عند الاختبار اتضح زيفهم وانكشفت سوءاتهم، وتسابقوا إلى إرضاء قيادات النظام طمعا في فتات لا يسمن ولا يغني من جوع.

كان نظام مبارك المخلوع ومن قبله أنظمة العسكر منذ حركة يوليو في العام 1952 قد أسهمت في تدجين طبقة المثقفين إلا من رحم ربك؛ وأسهم هذا التطبيع والتطويع الخطير لهذه الطبقة في التمهيد لأن تنقلب هذه الطبقة في أدوارها ضمن انقلابات السلطة التي تكررت لتشكل بحق طبقة “مثقفي الضد”، فصاروا ذنبا للسلطة وفي خدمتها، وفقدوا أدوارهم التنويرية وصاروا في خدمة الطغيان والاستبداد. فقد مثّل أداء المثقفين في نظام الثالث من تموز/ يوليو تجربة تاريخية مؤسفة ستكون مثار دراسة ونموذج عن خيانة المثقفين للجماهير والتجارب الديمقراطية الوليدة، وستكون علامة على هذا الجيل من المثقفين الذي تنكّر لوظيفته ودوره الحضاري والإنساني والثقافي والمدني.

لولا هؤلاء ما كان نظام الثالث من تموز/ يوليو استطاع أن يحكم قبضته وأن يرسخ انقلابه بهذا الشكل، فالدور الذي لعبه هؤلاء، سواء في الشارع المصري أو المجال العام في الداخل والخارج، أربك المشهد خاصة عندما تجد قامة فكرية كانت تنادي بالحرية والديمقراطية طوال حياتها العلمية العملية تؤيد هذا النظام

ويمكن القول إنه لولا هؤلاء ما كان نظام الثالث من تموز/ يوليو استطاع أن يحكم قبضته وأن يرسخ انقلابه بهذا الشكل، فالدور الذي لعبه هؤلاء، سواء في الشارع المصري أو المجال العام في الداخل والخارج، أربك المشهد خاصة عندما تجد قامة فكرية كانت تنادي بالحرية والديمقراطية طوال حياتها العلمية العملية تؤيد هذا النظام، حينها يتسرب إلى نفسك الشك بأنه قد يكون ما يقوله صحيحا فهذا الرجل بالتأكيد يعرف أكثر مني. نعم قد يكون كذلك، ولكنه باع ضميره، وتخلى عن شرفه وقبل أن يكون أداة ووسيلة لخداع الجماهير واللعب بأحلامهم وطموحاتهم ومستقبلهم، مثل هذا النوع من المثقفين لا يجب أن تنسى جرائمهم، فهم من الطليعة التي كان يجب أن توجه الجماهير إلى رفض الانقلاب، وحماية التجربة المدنية الديمقراطية الحديثة، والقيام بدور من أجل الجماهير لا العكس من ذلك.

في الوقت نفسه كانت هناك أصوات حرة دفعت الغالي والنفيس ولم تبخل بحياتها في تحقيق جوهر وظيفتها وما تؤمن به، وقول كلمة الحق في وجه سلطان ظالم، فلم يتورع النظام عن قتل وحبس واعتقال المثقفين، أو إجبارهم على مغادرة البلاد بكل السبل المتاحة وغير المتاحة، ولم يقبل النظام مجرد كلمة من أحد تعارض ما يقوم به، بما في ذلك عدم اعتماد نتائج الانتخابات وتعيين الخاسر فيها.

وبأريحية شديدة نقول بدون أن نسقط في فخ التعميم أو نجافي الموضوعية؛ إن الأقلام قد قُصفت والمواقع الإعلامية قد حُجبت والصحف الخاصة قد أُممت وإن كانت تحت لافتة الشراء، ولكنه كان شراء بطعم العلقم. ولعل صورة صاحب المصري اليوم صلاح دياب ويديه “مكلبشة” خلف ظهره تقول كيف هذا التأميم، فقد استطاع نظام الثالث من تموز/ يوليو أن يؤمم الحياة الثقافية وأن يزحف على المجال العام ولم يترك أي فسحة لأحد أن يعمل إلا نادرا.

صارت الثقافة تعاني من تعسف النظام الذي لا يتورع أن يعدم طبعات من الصحف ليس فقط لوجود مقال لا يريده ولكن لمجرد عنوان لا يرضى عنه. هذا النظام لم يعد يرضى ولا يرتضي إلا “المثقف الذنب”.