التطبيع

هي محاولة منا للتعرف على مقام الكلمات في تشكيل العقل والوعي إن سلبا وإن إيجابا، دائما نتعامل مع عالم الكلمات مقطوعة عن أوصافها ومفصولة عن نعوتها رغم أن التراث القديم والحديث يعلمنا الكثير حول ضرورات الوصف، بل إن القرآن مصدر مرجعيتنا التأسيسية في أكثر من آية يشير إلى: الكلمة الطيبة، والكلمة الخبيثة، ويحذر من زخرف القول غرورا؛ إننا في حاجة إلى فقه الكلمات “.. يحدد المواقف ويحرر الأحكام ويقدم البدائل.. فهل لنا أن نُكَوِّن معجما في “فقه كلمات الأمة”. فهذه كلمة “طيبة” في كينونتها وجوهرها، وآثارها وثمرتها، وتلك كلمة “خبيثة” في مقصدها وأغراضها، فهناك من الكلمات الميتة، والقاتلة والمميتة، والوثن، والمخذولة. وهذه كلمات على ما يصفها البشير الإبراهيمي “كلمات مظلومة”، “كلمات مغتصبة”، و”كلمات المستوطنات” و”كلمات عدوة”، وهذا تصنيف آخر يسوقه لنا ابن حيَّان في رسالته للعلوم “اللفظ الحر” و”اللفظ العبد”، والمعاني الحرة والمعاني العبدة.

وها هو مصطفى صادق الرافعي يكتب في “وَحْي القلم” أن الكلمات كالحياض وكالجيوش، وجب الدفاع عنها كالأرض والعرض؛ لأنها تنتهك في حرماتها، وتدنس في معانيها. نحن بحاجة إلى رفع الظلم عن الكلمات المظلومة، ورفع الستر والنقاب عن الكلمات الظالمة، التي تغسل الأمخاخ جماعيّا وتستوطن العقول فتجعلها مؤجرة أو مفروشة لحساب ثقافة غير ثقافتنا.

وانتهاك حرمة معاني الكلمات لا تأتي فقط من معتد من خارج يحاول أن ينحرف بالمعاني ويدلس الدلالات، فتصير الكلمات لا تدل أو ترشد، بل قد تأتي من داخل تهون فيه الكلمات وتُهان، أين نحن من كلمات الكرامة؟!‍ وعقلية العزة ونفسية الأحرار؟ أين مقامنا من كلماتنا، ومقام كلماتنا فينا؟‍! أين نحن من كلمات تبدو في ثوب الرحمة وهي تحمل كل معاني العذاب في باطنها ومكنونها، في توابعها وآثارها؟‍!

هذا المعنى يجعلنا مهتمين بهذا الباب والكتابة فيه والإلحاح في التنبيه عليه، لأهميته الكبرى في أبواب الحروب النفسية والغزو المعنوي والحضاري، بل إنه لخطورة هذا الباب فإننا نهيب بالعقل الاستراتيجي للأمة والمقاومة أن يضطلع برصد هذا العالم من مفاهيم ومصطلحات العدو التي تتسلل وتحتل وتغتصب، ليس الاحتلال فقط احتلال الأرض، بل إن اغتصاب العقول واحتلالها هو الأخطر والأشد تأثيرا

من المهم في هذا المقام أن نؤكد أن عالم الكلمات والمفاهيم الأفكار من أهم العوالم التي يتسلل إليها العدو كما أشرنا إلى ذلك سابقا، وهل هذا المعنى يجعلنا مهتمين بهذا الباب والكتابة فيه والإلحاح في التنبيه عليه، لأهميته الكبرى في أبواب الحروب النفسية والغزو المعنوي والحضاري، بل إنه لخطورة هذا الباب فإننا نهيب بالعقل الاستراتيجي للأمة والمقاومة أن يضطلع برصد هذا العالم من مفاهيم ومصطلحات العدو التي تتسلل وتحتل وتغتصب، ليس الاحتلال فقط احتلال الأرض، بل إن اغتصاب العقول واحتلالها هو الأخطر والأشد تأثيرا.

إن إنشاء هذه المراصد هي جزء لا يتجزأ من هذا العقل ومواجهة هذا الباب بالتطبيع بالكلمات الخبيثة. ومن الجدير بالذكر أن نشير إلى أهمية كلمات أساسية تشكل الخريطة الإدراكية والتلاعب بها، فتلازم مع حقيقة هذا الصراع ومصيريته وحضاريته من مثل مصطلحات الشرق الأوسط ودول الطوق.

إذا كان “الشرق الأوسط” تعبيرا جغرافيا فإن أحد أهم مقاصده الزائدة على مجرد الوصف تمثّل في “زرع إسرائيل في الكيان العربي”، بل وإيجاد قاعدة شرعية وحجية ليس فقط لاستزراعها بل وقبولها ضمن مشروع أُسميَ “السوق الشرق الأوسطية”، وضمن حركة تطبيع وتطويع كبرى، وصار “الشرق الأوسط مزروعة به إسرائيل” شعارا دالا ومؤشرا على استراتيجية بعيدة المدى.. ولا يكتفي دعاة “مشروعات الشرق الأوسط” بفرض التعاون مع إسرائيل اقتصاديا، بل يريدون أن تكون لها الأولوية على علاقات التعاون بين الدول العربية والإسلامية بل وسيلة لمنع هذا التعاون، شاهدُنا في ذلك اتفاقاتٌ مفروضة ومشروطة، يتوارى فيها استخدام مفاهيم “العالم العربي” و”العالم الإسلامي” فضلا عن المفاهيم التي تتمحور حول “الأمة”؛ لمصلحة كل تعبير يحمل مدلول “الشرق الأوسط”.

إن الشرق الأوسط كما أكدنا من قبل يعد “مشروعا” لا مجرد مفهوم؛ لما يحمله من رؤية متكاملة للمنطقة باعتبارها موضوعا لا طرفا. إن الشرق الأوسط مفهوم تطبيعي بامتياز؛ صُنّع في معامل الاستشراق ودبجه علماء الاستراتيجية ورجال السياسة في الغرب. فدعوة “الشرق الأوسط الكبير” تعني من بين ما تعنيه، وضع العرب -أنظمة وقوى شعبية وشخصياتٍ فكرية- أمام تحدٍّ ذي بعدين متضادين: الطروحات التي تستهدف خلخلة الأنسجة الاجتماعية العربية والإسلامية، وإدماجها على شكل كنتونات عِرقية وطائفية في نظام إقليمي، يدور بقيادة صهيونية في الفلك الأمريكي، 

الشرق الأوسط كما أكدنا من قبل يعد “مشروعا” لا مجرد مفهوم؛ لما يحمله من رؤية متكاملة للمنطقة باعتبارها موضوعا لا طرفا. إن الشرق الأوسط مفهوم تطبيعي بامتياز؛ صُنّع في معامل الاستشراق ودبجه علماء الاستراتيجية ورجال السياسة في الغرب

مقابل الطموحات التي غايتها تعظيم قدرات وتعزيز منعة العالم العربي، وتنمية التفاعلات الإيجابية قُطريا وقوميا، والاستفادة بقدر المستطاع من تجارب وخبرات إقليمية وعالمية.

وها هي كلمة أخرى تشير إلى دول تحيط أرض فلسطين وتسمى دول الطوق، أي طوق يعنيه هؤلاء؟ ولماذا هذا التعبير المسموم الذي ربما أُطلق ويراد به أن هذه الدول تحاصر وتطوق القضية الفلسطينية، وليست باعتبارها دولا حاضنة لتلك القضية ومتبنية لها، أي طوق يفرضه هؤلاء بحصار امتد إلى غزة قد يتعدى السبعة عشر عاما؟ وقد كان هذا الاسم إثما كبيرا ارتكبه هؤلاء حينما ينظرون إلى الجغرافيا نظرة صماء، ويحددون الدور والمهمة لتلك الدول التي تحيط بأرض فلسطين المغتصبة والمحتلة من الكيان الصهيوني.

ألم يجدر بهؤلاء أن يسموا دولا تدعم هذه القضية باعتبارها جزءا لا يتجزأ من أمن تلك الدول القومي، وتتحرك تلك الدول لا لتطوق ولكن لتشكل ظهيرا وسندا جغرافيا وعمقا استراتيجيا للمقاومة الفلسطينية؟ ولكنها دول استحسنت هذا الوصف، وللأسف الشديد قامت به في محاولة للقضاء على المقاومة بشكل مباشر وغير مباشر. وبات أمر التطبيع لدول الطوق بالترهيب والترغيب ديدنا للسياسة الصهيونية تحاول أن تجعل دول الطوق طوع يمينها فتشكل حاجزا وخطا منيعا لحماية العدو ذاته، فهل هذا هو الطوق الحامي للكيان الصهيوني، أم الطوق المحاصر لأرض فلسطين المغتصبة خاصة في غزة العزة؟ أليست هذه مفارقة خطيرة تسكنها معاني التطبيع من دول اختارت دورا خبيثا وامتنعت عن دور حقيقي يجب أن تقوم به وعليه؟

ها هي غزة الفاضحة علنا الكاشفة دوما الفارقة أبدا تعاود الحضور بمشهد أقسى وأشد؛ تقف حاسمة أمام لغة واهنة ذليلة؛ وتدعو الأمة الى لغة ناهضة تمثل رافعة للأمة وعزتها.

كتب الأديب وليد سيف، الأديب الكبير الذي تعلق بقضية فلسطين وسكنته هموم الأمة، نصا مقاوما في التطبيع بالكلمات وذلك في عام 2014 قائلا: “تتأرجح الكتابة بين لغة الفؤاد النازف ولغة العقل الناقد، بين ابتزازين: ابتزاز خطاب عقلاني زائف يحرّم علينا الغضب الجارف في وجه أبشع صور الظلم والإبادة، مثلما يحرّم علينا بكاء ضحايانا بصوت مجروح يليق بالجنازة الجمعية، وكل ذلك تحت طائلة الاتهام بالانجراف وراء العواطف والانفعالات المعطّلة للعقل والتدبير، وبين ابتزاز عواطف متفجرة متدفقة كالنهر الهادر تصرخ تحت وطأة الكابوس بصوت لا يُسمع: 

دلفنا بعد ذلك إلى سكة كامب ديفيد واتفاقات وادي عربة وأوسلو ومدريد وشروط الرباعية الحامية للاحتلال، المسوغة لكل اغتصاب الحافظة لآخر الكيانات الاستيطانية وأمنه المزعوم، في مطالبة من الطبيب المنتحل الدجال أن يتعايش الكيان مع سرطان خبيث يرعى فيه وينتشر، بل بدا للبعض وفي الكيان بعض من أجهزته المناعية والممانعة مما تفرضه سنن الكيان في مقاومة المرض، فأرادت أن تغير من السنن الكونية والنواميس المرعية، بالاعتراف بالغصب والغاصب

إذا كان العقل يحرّم غضب القلب والضمير فليذهب إلى الجحيم، وإن لم يكن في الوسع أن نتكافأ مع جلادينا في الحياة فلنتكافأ بالموت.. ولتكن القيامة الآن!”.. عبارات قاطعة تحيلنا الى معركة المعاني والكلمات؛ وتفضح لغة الميوعة والغموض على طريق التطويع والتطبيع بالكلمات.

أول ما تصاب به الأمم في أطوار تراجعها الفكري والمعرفي والثقافي مفاهيمها، وأول ما يتأثر بعمليات الصراع الفكري والثقافي مفاهيمها كذلك، وأهم الأمراض التي تعتري المفاهيم الميوعة ثم الغموض. بدأت المفاهيم السائدة تتحول إلى أداة للتضليل والتشتت والتشرذم، بدلا من أن تكون أداة معرفية وبيان وإيضاح وجلاء للغموض. كانت عمليات فك الارتباط للأنظمة بقضيتها الأم التي كانت من أهم أسباب حركات الاستقلال والتحرر من الاستعمار والثورات “القضية الفلسطينية”، التي تحولت إلى ما صار يسمى إعلاميا “النزاع الفلسطيني الإسرائيلي”. واكتفت الأنظمة بحديث الضرورات، وانكفأت تمارس لغة شديدة الوهن والهوان تحت كلمات من زخرف القول “السلام خيار استراتيجي”، وحولت السلام من حالة وعملية إلى خيار بل وقرار مفروض وُعدت فيه الأنظمة الشعوب برخاء موهوم وانجازات عريضة تحت غطاء استراتيجيات التطبيع، وأخذ خيار المقاومة يتوارى والممانعة تنزوي والمواجهة تغيب.

دلفنا بعد ذلك إلى سكة كامب ديفيد واتفاقات وادي عربة وأوسلو ومدريد وشروط الرباعية الحامية للاحتلال، المسوغة لكل اغتصاب الحافظة لآخر الكيانات الاستيطانية وأمنه المزعوم، في مطالبة من الطبيب المنتحل الدجال أن يتعايش الكيان مع سرطان خبيث يرعى فيه وينتشر، بل بدا للبعض وفي الكيان بعض من أجهزته المناعية والممانعة مما تفرضه سنن الكيان في مقاومة المرض، فأرادت أن تغير من السنن الكونية والنواميس المرعية، بالاعتراف بالغصب والغاصب وحقه في أن يقتل ويدمر، وتشكل له غطاء وسترا بدعوى حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها. فالغاصب في عرفهم يملك كل الحقوق، وغاية أمرهم بعد إمعان إسرائيلي في القتل والتدمير والإبادة الجماعية في نقض علامة كل عمران من بشر وشجر وحجر. إنها محاولة التطبيع بالكلمات حينما تغزو الإدراكات وتُمتهن فيها النفوس وتُغتصب.

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *