ما زلنا نفحص الظاهرةَ الاستشراقية ونقدّم بين يديها، انطلاقاً من مفهومي “الشرق” و”الغرب”، وتطل علينا من بعيد مسألتا “الكولونيالية”، و”ما بعد الكولونيالية”، وعلاقة ذلك بأدوار الاستشراق وتطوّر قضاياه ومجال الاهتمام، فالاستشراق الذي نشأ نشأةً علميةً لأغراض سياسية تحوّل مشروعاً سياسياً يتدثّر بأثواب علمية في دراسات الشرق الأوسط، ودراسات المناطق، وضمن اهتمامات مراكز الفكر والتفكير لوضع استراتيجيات تحدّد مسار النظر إليها، والتعامل معها، وتبدو لنا الظاهرة الكولونيالية في تسميتها تلك بالفعل الصوتي للكلمة الأجنبية التي تشير إلى “COLONIALISM” أمرا متروكا من الناحية العلمية والبحثية، فإنّ الظواهر المُذيّلة بـ”ISM” تعبّر عن تصوّر فكري ومعرفي ومذهبي غالباً، نشأ في أحضان الغرب ومعامله الفكرية، ومثّل شفرة معرفية ترتبط به، وقد كان أمراً موفّقاً أن شاع تعبير “ما بعد الكولونيالية”، رغم شيوع مفهوم “الاستعمار”، للتعبير عن أصل الظاهرة في أصولها الكولونيالية.
التوقّف عند عالم المفاهيم المتداول في الوضع والحمل والنقل والاستعمال توقّفاً دقيقاً ومُدقَّقاً من الأمور المنهجية التي يجب أن نستمسك بها، خاصّة ونحن أمام أسئلة تتعلّق بمسألة النهوض، ولعلّ فطنةً مُبكّرةً من بعض مُفكّرينا العظام، ومنهم محمد البشير الإبراهيمي (1965)، وتوقّفه عند الكلمة المُختارة لترجمة الظاهرة الكولونيالية، ألا وهي “الاستعمار”، أمر جدير بأن يُحتذَى ويُقتدَى به، فقد أفرد الإبراهيمي في مقالاته البصيرة في البصائر، في باب كلمات مظلومة، ليجري محاكمةً منهجيةً ومساءلةً علميةً لكلمة “الاستعمار” الخبيثة، وتمريرها للمسألة الكولونيالية برمّتها، ضمن صناعة كبرى أجادها الغرب في التمرير والتبرير والتغرير، وفي التدليس والترويج. ولعلّ ما قام به الشيخ الإبراهيمي قد فتح الباب للوقوف على تلك المفاهيم والكلمات، التي أصابها ذلك الظلم البيّن، إنْ بالغفلة، وإنْ بالالتباس والحيرة، وإنْ بالتلبيس من صاحب القوّة في واحد من أهم المسالك؛ اغتصاب الكلمات، وتغيير مضامينها في سياق ما تطلقه على ظواهر تاريخية أو معاصرة.
الاستشراق الذي نشأ نشأةً علميةً لأغراض سياسية تحوّل مشروعاً سياسياً يتدثّر بأثواب علمية في دراسات الشرق الأوسط، ودراسات المناطق
يقول الإبراهيمي: “إنّ ظلم الكلمات بتغيير دلالتِها كظلمِ الأحياء بتشويه خِلْقَتهم، كلاهما منكر، وكلاهما قبيح، وإنّ هذا النوع من الظلم يزيدُ على القبح بأنّه تزوير على الحقيقة، وتغليطٌ للتاريخ، وتضليل للسامعين.. يا قومنا، إنّ للواقع عليكم حقّاً، وإنّ للتاريخ حقّاً، وإنّ للأمة التي تعملون لها حقوقاً، فأنصفوا الثلاثة من نفوسكم”؛ وهو يشير في تلك الكلمات الدقيقة إلى جملة من المعاني المهمّة من الكشف والفضح لهذه الكلمات، التي تظلم عياناً بياناً في الاستخدام والاستعمال، فتنحرف عن معانيها، وتُنتهَك مبانيها، وتُغتصَب مغازيها، فتُوجّه في عكس مقصدها، في سياق يجعل ذلك الطغيان في عالم الكلمات أقسى من تشويه الأحياء وخلقتهم.
وفي الحقيقة، كلمات الأمة ومفاهيمها، التي ترتبط بهويتها ونهوضها لا بدّ أن تكون محلّ اهتمام لا يُفرّط في المباني ولا في المعاني ولا في المغازي، التي تسكن تلك الكلمات، ويجب أن نصدّ عنها كلّ من يحاول التدليس عليها أو التلبيس بها. كان ذلك الخيار البديع من الإبراهيمي للكلمة النموذج في هذا المقام (الاستعمار)، التي تتعلّق بالظلم الفادح للكلمات، فتقع بين خذلان واغتصاب، وهي من الأمور التي تمرّ مع توالي الأزمان وتمرير ذلك الخطأ من جرّاء اغتصاب تلك الكلمات، يُؤدّي ما تأدّى من هذا الإشكال الخطير في استخدام وتداول الكلمة على نحو فرضه صاحب القوّة في عالم الترجمة، وفي عالم إطلاق الكلمات على ظواهر لقيطة، فتنتهك شرفَ الكلمات وتدنّس المعاني، التي تتعلّق بها، ضمن عملية استيلاء على العقول من خلال الكلمات والمفاهيم.
كلمات الأمّة ومفاهيمها، التي ترتبط بهويتها ونهوضها لا بدّ أن تكون محلّ اهتمام لا يُفرّط في مبانيها ولا في معانيها ولا في مغازيها
يقول الإبراهيمي مُستغرباً: “عجيب! وهل الاستعمار مظلوم؟ إنّما يقول هذا أصحاب الكيمياء التي أحالت السيِّد عبداً، والدخيل أصيلاً، أمّا أنت فتوبتُك أن تحشر كلمة (مظلوم) هذه في الكلمات المظلومة.. هوِّن عليك فإنّ المظلوم هنا هو هذه الكلمة العربية الجليلة التي ترجَموا بها لمعنى خسيس… مادة هذه الكلمة هي “العمارة”، ومن مشتقّاتها التعمير والعمران، وفي القرآن “هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا” (هود: 61)، فأصل هذه الكلمة في لغتنا طيبٌ، وفروعها طيِّبة، ومعناها القرآني أطيب وأطيب، ولكن إخراجها من المعنى العربي الطيِّب إلى المعنى الغربي الخبيث ظلمٌ لها، فاستحقَّت الدخول من هذا الباب، والإدراج تحت هذا العنوان”. فلك أن تلحظ من خلال هذا الوصف الدقيق للإبراهيمي في تلك الكلمات القاطعة المانعة، حينما يشير إلى قيام هؤلاء باغتصاب الكلمة لإطلاقها على أخسّ الظواهر هذا من جانب، ومن جانب آخر هذا الدخل والدنس الذي أدخلوه على شرف الكلمة فصارت تطلق في هذا السياق القبيح وتمنع في استخدامها الصحيح؛ وانصرف بعضهم عن استخداماتها الأصيلة، وبات الزيف والعملة الرديئة يطردان الصدق والعملة النفيسة.
“فالذي صيَّر هذه الكلمة بغيضةً إلى النفوس، ثقيلةً على الأسماع، مستوخمة في الأذواق، هو معناها الخارجي (كما يقول المنطق) وهو معنى مرادف للإثم، والبغي، والخراب، والظلم، والتعدِّي، والفساد، والنهب، والسرقة، والشَّرَهِ، والقسوة، والانتهاك، والقتل، والحيوانية، إلى عشرات من مئات من هذه الرذائل تُفسِّرها آثاره وتنجلي عنها وقائعه… وإذا كنَّا نُسمِّي مَن يجلب هذه المجموعة (من كبائر الإثم والفواحش إلى وطن) ظالماً، فأظلم منه مَن يحشرها في كلمة شريفة من لغتنا، ليخدع بها ويغرَّ، وليهوِّنَ بها على الفرائس شراسة المفترس، وفظاعة الافتراس… أما والله، لو أن هذا الهيكل المسمَّى بالاستعمار كان حيواناً لكان من حيوانات الأساطير بألف فمٍ للالتهام، وألف مَعِدة للهضم، وألف يدٍ للخنق، وألف ظِلْف للدوس، وألف مخلب للفرس، وألف نابٍ للتمزيق، وألف لسان للكذب وتزيين هذه الأعمال، ولكان مع ذلك هائجاً بادِيَ السَّوْءات والمقابح على أسوأ ما نعرفه من الغرائز الحيوانية… سَمُّوا الاستعمار تخريباً (إذ لا تصحُّ كلمة استخراب في الاستعمال) لأنه يُخرِّب الأوطان والأديان والعقول والأفكار، ويهدم القيم والمقامات، والمقوِّمات والقوميات… وخذوا العهد على المجامع اللُّغوية أن تمنع استعمال هذه الكلمة في هذا المعنى الذي لا تقوم بحملِه عربةُ مزابل”. ذلك كلّه يوضّح لنا كيف يمكن رفع الظلم عن تلك الكلمات الشريفة، وعدم تمرير تلك الظواهر الخبيثة بإطلاق الأوصاف على غير مقتضاها، وعلى غير معناها ومغزاها.
يتداخل عالم المفاهيم مع عالم السياسات والتصوّرات والإدراكات، ويرتبط ذلك كلّه لزوماً بمسألة النهوض والأسئلة المتعلّقة بها
وغاية الأمر حينما يُؤكّد الإبراهيمي ما أصاب تلك الكلمة من ظلم بيّن، فإنّ الأمر هنا يحتاج منا إلى استخدام كلمات دالة على أقبح ظاهرة شهدها التاريخ، قديمة وحديثة ومعاصرة. ولعلّ هذا جعل بعضهم يبحث عن كلمات تدل على ذلك القبح البيّن في هذه الظاهرة، فأطلق عليها “استدماراً” أو “استكباراً” أو غير ذلك من مفردات تُؤكّد أخطر الأثر والمآل لهذه الظاهرة على الإنسان والعمران والأوطان. ولعلّ ذلك يُوضّح لنا كيف يمكن رفع الظلم عن تلك الكلمات الشريفة، وعدم تمرير تلك الظواهر الخبيثة بإطلاق الأوصاف في غير مقتضاها، وفي غير معناها ومغزاها. ولعلّ ذلك تلحق به كلمات استجدّت، وجب علينا أن نتوقّف على مداخل تلبيسها، وعلى مسالك التباسها، في سياق ممارسات خبيثة، وكلمات تزوّر التاريخ وتضلّل الأسماع وتضرب هوية الأمة في مقتل.
سنرى في هذا السياق كيف أنّ عالم المفاهيم يتداخل مع عالم السياسات والتصورات والإدراكات، وكيف أنّ ذلك كلّه يرتبط لزوماً بمسألة النهوض والأسئلة المتعلّقة بها، ويبدو لنا أنّ الدراسات ما بعد الكولونيالية ليست بعيدةً عن أسئلة الشرق والغرب، كما أنّها ليست منفصلةً عن المسألة الاستشراقية برمّتها، مسائل بعضها من بعض، وأسئلة تتراكب وتتساند فيتحدّد منهج النظر والتناول والتعامل مع جملة المسائل، والأسئلة في موضوعة “النهوض”، إنّه الفكر المنظومي الناظم بين مسائل ستعيننا في الواقع وفي التصور وفي بناء استجابات واعية واعدة لمعظم تلك الإشكالات والتساؤلات. وهذا الموقف الواعي من عالم المفاهيم سيصبّ لزوماً في مشروع النهوض للأمّة.