من أكثر الفوائد أهمّيةً، ارتبطت بالكتابة عن خرائط التغيير والنهوض والإصلاح، أنّنا تطرّقنا في تلك الأسئلة وخرائطها إلى جملة من الموضوعات والكتابات والقضايا التي أدّت بكاتب هذه السطور إلى قراءة متعمّقة لتلك الموضوعات، وقد شكّل هذا الموضوع، الذي يتعلّق بالدراسات الكولونيالية أو الخطاب الاستعماري، فرصةً للتعرّف إلى تلك الكتابات في هذا المجال، فكان هذا المقال جملةً من الإفادات من كتابات عميقة في هذا المقام.
يصعب التعامل مع دراسات ما بعد الاستعمار حقلاً أو تخصّصاً أكاديمياً، بقدر ما يمكن التعامل معها، تصوّراً فكرياً مهتمّاً بتفكيك علاقات القوّة والسلطة التي نشأت في خضمّ فترة الاستعمار وبعدها، في حقول متنوعة من الأدب إلى علم الاجتماع والسياسة والفنّ والتاريخ والدراسات النسوية والأنثروبولوجيا وعلم النفس وغيرها. ويقدّم الإسهام النظري ما بعد الاستعماري “postcolonial”، وجدالاته البينية، مدخلاً مهمّاً للتفكير في ما بعد الاستعمار، ليس على أنّه، حرفياً، تالٍ على الاستعمار ودالّ على زواله، بل بمرونة أكبر على أنّه الطعن بالسيطرة الاستعمارية وتركات الاستعمار، على أنّ الالتفات إلى مسألة ما بعد الاستعمار قادر على الكشف عن ملامح الاستعمار الجديد، أو كما يسميه آنيا لومبا “استعمار ما بعد الاستعمار” (postcolonial colonialism).
ومن هنا نؤكّد مسألةً غايةً في الأهمية، أنّ مصطلح ما بعد الاستعمار أو ما بعد الكولونيالية؛ مثل المصطلحات كلّها، التي تشتمل على “ما بعد”، لا يعني بالضرورة مناهضة ما قبله ومقاومته، وإنّما يعني الوعي بالثقافات الأخرى التي وُجِدت في المُستعمَرات، وبالهُويّات والاتجاهات والتاريخ والوثائق المعرّضة للاندثار، وأيضاً الاحتفاء بمختلف الإبداعات والكتابات الصادرة عن أبناء المُستعمَرات أو عن غيرهم، بوصفها كتابات للردّ على خطاب المركز/ المحتلّ الأجنبي، وترسيخ الهُويَّة لثقافات عانت من النفي والتهميش، فالقضية استعادة دور الهامش ضمن خطاب المركزية الاستعمارية المهيمنة.
اهتمت دراسات ما بعد الاستعمار بتحليل تلك العلاقات المتشابكة بين الداخل والخارج، فرفضت التعامل مع الظاهرة الاستعمارية بعدّها علاقة أحادية الاتجاه
إنّ التعريف الأكثر تحديداً لاصطلاح “ما بعد الاستعمار” يعني: الحقبة التاريخية لما بعد استقلال الأقطار المُحتلَّة. وهو تحديد زماني مكاني، لأنّه يجعله مرتبطاً بجلاء المحتلّ عن البلدان المُستعمَرَة، فيتأمل في مسيرتها وما آلت إليه الأوضاع فيها. إلّا أنّ هناك موجة فكرية رافضة لما تمّ خلال الحقبة الاستعمارية لهذه الدول تسمى “Anti -Colonialism”، وتعني الحركة الثقافية التي ملأت فضاء البلدان المُستقلّة ثقافياً وفكرياً ضدّ ممارسات المحتلّ، فلما نالت الاستقلال تحوّلت رغبةً في النهضة وعلاج آثار الاستعمار. لقد شكلّ ما سبق كلّه “أدب ما بعد الاستعمار” أو “نظرية ما بعد الاستعمار”، والتي تُعنى بقراءة الفكر الغربي في تعامله مع الشرق، من خلال مقاربة نقدية بأبعادها الثقافية والسياسية والتاريخية. وبتعبير آخر، تحللّ هذه النظرية الخطاب الاستعماري، في جميع مكوّناته الذهنية والمنهجية والمقصدية والفلسفية؛ بالتفكيك والتركيب والتقويض بغية استكشاف الأنساق الثقافية المؤسّساتية المضمرة، التي تتحكّم في هذا الخطاب المركزي.
وقد اهتمت دراسات ما بعد الاستعمار بتحليل تلك العلاقات المتشابكة بين الداخل والخارج، فرفضت التعامل مع الظاهرة الاستعمارية بعدّها علاقة أحادية الاتجاه، فقدّمت على سبيل المثال تحليلاً اجتماعياً لطبيعة الدور الذي يلعبه أطراف في الداخل المُستعمَر لتسهيل عملية الاستعمار، واستغلال الثروات، بل إنّها التفتت حتّى إلى أثر الاستعمار في الداخل المُستعمَر، فدرست على سبيل المثال ظهور أطراف لدى المُستعمَر ترتبط مصالحها باستمرار العلاقة الاستعمارية، وكذلك ظهور أطراف في الداخل المُستعمَر ترفض هذه الحركة الاستعمارية لاعتبارات أخلاقية أو عملية، فتشارك في مقاومة الاستعمار من ناحية أخرى. وقدّمت قراءة بينية تلتفت إلى التكوين الاجتماعي للدول لا تكويناتها السياسية فحسب. ومن ثمّ فقد اجتهدت أدبيات ما بعد الاستعمار لكسر الصور النمطية للعلاقة بين الغرب وبين العالم النامي، ولتقديم تحليلات أكثر كلّيةً للعلاقة الاستعمارية تتصوّر علاقةً مركّبةً من السيطرة والمقاومة.
أرشدت أدبيات ما بعد الاستعمار إلى أنّ سؤال الاستعمار لا ينفصل عن سؤال العدالة في النظام الدولي
وأرشدت أدبيات ما بعد الاستعمار إلى أنّ سؤال الاستعمار لا ينفصل عن سؤال العدالة في النظام الدولي، ولا ينفصل عن أسئلة الفقر والتهميش والتمييز، ولا ينفصل عن أسئلة الأخلاق والقيم، ولا ينفصل عن الحاجة إلى إعادة تعريف القوّة، وإلى إعادة تعريف الأمن، بل الأكثر أهمّية من هذا كلّه أنّه لا ينفصل عن سؤال الاستبداد في الداخل؛ فهو لا ينفصل عن علاقات القوّة والهيمنة التي توجدها الدولة القومية وتحميها وتعيد إنتاجها وتضفي عليها قدسيةً بسبب هذا الوجود. إنّ تتبّع معالمَ الاستعمار الاقتصادية والثقافية والاجتماعية الكامنة خلف علاقات القوّة في النظام الدولي يقود إلى تتبّع ذات العلاقات في داخل الدولة القومية، وعبر حدودها، وتتبّع منطق هيمنة الاعتبارات العسكرية والاقتصادية والمصالح المادّية بمعناها الضيق يقودنا إلى تتبّع ذات المنطق في داخل الدولة القومية، حيث تتراجع أهمّية الثقافة والحضارة والتاريخ لمصلحة منطق القوّة والغلبة والتغلّب.
“هكذا قدّمت أدبيات ما بعد الاستعمار مدخلاً كلّياً في التعامل مع الواقع الاستعماري ما بعد الاستعماري، وحرصت على أن تتجاوز في تناولها تلك الثنائيات الفاصلة بين الداخل والخارج، بين السياسي والثقافي الاجتماعي، بين الحاضر والماضي؛ تتأكّد هذه المسألة باستدعاء تعريف أشكروفت، فهو يصل من تعريفه “أنّ الشعوب والحضارات والقوميات التي خضعت للاستعمار منعت من أن تصل إلى ما كان يمكن لها أن تصل إليه، ولم يسمح لهم أبداً بالتطوّر في صورة المجتمعات التي كان يمكن لهم أن يتطوروا في صورتها”، هكذا تظلّ الظاهرة الاستعمارية ظاهرةً سلبيةً مهما حمل الاستعمار من “إيجابيات” متصوَّرة على مستوى التعليم أو الصحّة أو التطوّر التكنولوجي. وينقل أشكروفت عن باسيل دافيدسن قوله، إنّ لحظة تسليم المُستعمَرات لم تحمل من ملامح التحرّر الحقيقي كثيراً، فلم يكن الاستقلال محمّلاً بأفكارٍ وأساليبَ جديدةٍ للتحرّر، وإنّما كانت مُجرَّد لحظةِ تسليم “أطياف من أفكار قديمة وطرائق للعبودية”.
يُعَدُّ إدوارد سعيد المؤسّس الفعلي لنظرية ما بعد الاستعمار، ومن الممهّدين الفعليين للنقد الثقافي وعلم الاستغراب
من هنا، كتاب “الاستشراق” لإدوارد سعيد خير نموذج يعبّر عن نظرية ما بعد الاستعمار، ما دام هذا الكتاب خطاباً مضادّاً للاستشراق الغربي؛ لأنّه يحوي انتقاداتٍ واعيةً ولاذعةً لخطاب التمركز الغربي تقويضاً وتفكيكاً وتشتيتاً. وهناك شبه إجماع بين الدارسين على ذلك. فقد استثار هذا الكتاب، بما طرحه من أفكار، طائفةً أخرى واسعةً من الكتابات التي ناقشت هذه الأفكار، أو ردّت عليها، أو طوّرتها. وعليه، يُعَدُّ إدوارد سعيد المؤسّس الفعلي لنظرية ما بعد الاستعمار في فترة ما بعد الحداثة، ومن الممهّدين الفعليين للنقد الثقافي وعلم الاستغراب على حدّ سواء، خاصّة أنّه ركّز في تفكيك البنية المعرفية التي شكّلها، باعتبار أنّها لا يمكن أن تنفصل عن السلطة، وسعيها المستمرّ لتخليق “الآخر” المُستعمَر وتمثيله، ضمن نوع من “التمييز الأنطولوجي والمعرفي” حسب وصف سعيد نفسه. إجمالاً، فإنّ هذا التصوّر النظري ينطلق من افتراضٍ أو إيمان أساس، بأنّ الآثار الاستعمارية لم تنتهِ مع نهاية حقبة الاستعمار، وإنّما لا تزال باقية، خصوصاً في ما يتعلّق بالخطاب الثقافي، الذي يتعيّن تغييره، وتفكيك التقاليد المعرفية الإقصائية فيه، وإعطاء المهمّشين أصواتاً وأدواراً أكبر.
من المهمّ إذاً أنّ دراسات ما بعد الكولونيالية كانت مسكونةً بالفعل الاستشراقي خاصّة أنّ واجهتها ارتبطت بكتاب الاستشراق لإدوارد سعيد؛ ومن ثمّ فإنّ العلاقة بين الدراسات الكولونيالية والظاهرة الاستشراقية أمرٌ لا اجتهاد فيه، فهو حقيقة أساس، وبعض هذه الكتابات قد أشارت بنقدها للاستشراق إلى نهاية الاستشراق من دون التوقّف عند كيف حاول الاستشراق إعادة تموضعه وبروزه ضمن تجلّيات معرفية وفكرية وأوعية مُستجدَّة؛ وما زلنا أمام مُقدّمات بين يدي الاستشراق. ومن ثمّ شكّلت نظرية “ما بعد الاستعمار” حركةً ثقافيةً مضادّةً ومقاومةً، ظهرت في مرحلة “ما بعد الحداثة” للوقوف في وجه التغريب، والتهميش، والتعالي، والهيمنة الغربية المغلوطة، انطلاقاً من تصوّرات علم الاستغراب.