الاستغراب

حتّى تكتمل الدارة المعرفية المحيطة بسؤال الاستشراق، فإنّ الأمر الذي ينطلق منه هذا المقال دراسة ما يمكن تسميته “الاستغراب”؛ هذا الارتباط أشار إلى ردّة الفعل المعرفي والفكري في مواجهة الظاهرة الاستشراقية شديدة الخطورة، ورغم ذلك، ورد في مجال المناقضة؛ فإنّ هناك من بادر إلى انتقاد الاستشراق والاستغراب معاً، بل إنّ الأمر قد يصل إلى تفكيك مفهوم الاستغراب وإشكالات ترجمته، ومن هنا حدثت تداخلات بسبب تلك المداخل المتنوعة كلّها رغم قِدم الظاهرة الاستشراقية، ممّا مثّل رسوخاً معرفياً وسياسياً وثقافياً للمنتجات الهائلة فيه، وعليه وحوله، وكان النقد الرائد لإدوارد سعيد “الاستشراق”، الذي قدّم سردية حوله تختلف عن تلك السردية التقليدية، وأثبت في كتابه كثيراً من المقولات المعرفية، التي حملت تعميمات شديدة الأهمّية صمدت أمام منتقديه، وفتحت مجالاً وباباً واسعاً لذلك المدخل النقدي المهمّ الذي أسّس له، وكان لذلك دور في بروز كتابات “ما بعد الكولونيالية”. ومن هنا علينا أن نتعرّض لبعض الملاحظات:

أولاً، غموض مفهوم الاستغراب؛ ذلك أنّ هناك من تلقّى ذلك المفهوم بمعان مختلفة، بل ومتناقضة، يبدو لنا ذلك من شيوع كلمات تتعلّق بالغرب والحضارة الغربية، ومن هنا كان هذا التعدّد الذي يتعلّق بكلمات تدلّ على الاستغراب مترادفاتٍ، وإغفال قضية مهمّة حول الحدود بين الثقافات، التي مع عدم وضوحها صارت مصدراً لسوء الفهم. قد يبدو ذلك أيضاً في استخدام مصطلحات قديمة وغير معاصرة كالاستشراق، ومفهوم مُستجِدّ كالاستغراب، إلّا أنّه في الأمرَين فإنّ الزمن قد شحنهما بشحنات أيديولوجية تجعلهما موضع اشتباه واشتباك دائم في هذه الضفّة أو تلك، ربّما هذا ما أشار إليه أحمد الشيخ في كتابه المهمّ “من نقد الاستشراق إلى نقد الاستغراب: المثقّفون العرب والغرب” (المركز العربي للدراسات الغربية، القاهرة، 2000)، ويلحق بذلك معضلة الترجمة ومحاذيرها؛ ومن أهمّ المعضلات التي ارتبطت بذلك المفهوم هي معضلة الترجمة ممّا جعل بعضهم يأخذه بمعنى التغريب، لا طلب العلم في الغرب، وهو ما أنشأ التباساً جديداً في هذا النقد؛ إنّ التغريب (Westernization) ليست الكلمة التي اختيرت لهذا الشأن، وإنّما هي “Occidentalism”، ومن هنا فإنّ هذه التفرقة في الترجمة ستؤدي بنا إلى إدراك غاية في الأهمية قد يعني الاستغراب والخطاب المضادّ للتغريب في مواجهة التغريب، على حد ما أورد بعضهم.

الدعوة إلى الاستغراب أو العلم المرتبط به كانت بمثابة ردّة فعل على الاستشراق

ثانياً؛ عدم نضج معظم الإنتاج حول فكرة الاستغراب؛ ذلك أنّ الدعوة إلى الاستغراب أو العلم المرتبط به كانت بمثابة ردّة فعل على الاستشراق، وهو ما جعل الفكرة في مبتدئها ومضمونها، ربّما كانت من قبيل الدفاع أكثر من أنّها بناء نموذج معرفي متميّز في مواجهة الاستشراق، وما تقدّمه الحضارة الغربية من نموذج معرفي سائد وغالب، ومن ثمّ ظلّت هذه الكتابات تدور ضمن دائرة ردّة الفعل، وهو ما جعلها تتّسم بعدم النضج المعرفي والوعي الحضاري. وكذا شكّل الاستغراب والموضات المعرفية، حينما يدخل الاستغراب ويستدرج إلى “جحر الضبّ” معرفياً ومتحيزاً، شعاراتٍ تُرفع لا تراكماً معرفياً حقيقياً، وفي هذا السياق فإنّ دراسة خريطة الدراسات الاستغرابية في هذا المقام تدلّ على عدم وضوح الفكرة والهدف منها، ضمن رؤية استراتيجية تتعلّق بمشروع النهوض الحضاري.

ثالثاً؛ ميكانيزمات الثقافة الغربية السائدة لإعادة توجيه هذه الابتكارات المتولّدة معرفياً، ذلك أنّه رغم أنّ مفهوم الاستغراب كان عملاً توليدياً موفّقاً للتدافع مع الظاهرة الاستشراقية، وضمن كتابات متعدّدة برزت في الدراسات ما بعد الكولونيالية إلّا أنّ الحضارة الغالبة تجيد في أحوالها كلّها أن تركّب تلك الفكَرِ وتحوّل وجهتها لمصلحتها؛ فضلاً عن جملة الانتقادات التي توجّه لأصل الفكرة، بل إنّها قد تحاول تشويه هذه الفكرة في مقصدها، ضمن وصفها بأوصاف سلبية من مثل “بارانويا الغرب” و”الحركات الفكرية المعادية للحضارة الغربية”، وهو ما جعل بعضهم يرمي إلى ربطها بالظاهرة المصطنعة التي تسمَّى “الإرهاب”، وبظواهر أخرى سمّوها “الإسلام السياسي”.

لم يعد الأمر يتعلّق بأسئلة نجيب عنها في امتحان الحضارة يمليها علينا الغرب، بل في أسئلة نابعة يُلزمنا بها مشروع النهوض

رابعاً؛ الشعوبية الاستغرابية وتوجّهات شتّى من دون وضوح الهدف، مع وجود تلك التوجهات المتعدّدة التي تشير إلى فقدان البوصلة المعرفية والفكرية، وفي تصنيف بديع للأستاذ عادل عيساوي، أثبته في مؤلّفه الضافي “سؤال الاستغراب في النظام المعرفي الإسلامي” (مؤسّسة وعي للأبحاث والدراسات، 2016) أنّه “وبالرغم من قلّة المحاولات في هذا الحقل المعرفي، فقد هيمنت على الدراسات الاستغرابية الأولى، قبل قرن من الزمن، مقاربتان أساسيتان في النظر إلى موضوع الغرب: المقاربة الاستغرابية الإصلاحية، التي اتخذت من شعار الإصلاح والاستفادة من الغرب منطلقاً من منطلقات مدرستها، والمقاربة الاستغرابية التغريبية، التي تبناها زعماء التغريب في العالم العربي والإسلامي، ومنهم تلامذة المستشرقين الخلص، والتي تصب في مشروع دراسة الغرب لإلحاق العالم الإسلامي به ثقافةً، ولغةً، وهويةً. وكان الصراع بين المدرستين واضحاً منذ البداية إلى اليوم. وبعد ردح من الزمن، دخلت مقاربات أخرى على ميدان التنظير الاستغرابي، تمثلت في الاستغراب الحركي، والاستغراب الإسلامي اليساري، والاستغراب المعرفي السنني، والاستغراب الأكاديمي. إلا أن المشكلة تكمن في أن هذه المدارس الاستغرابية، رغم محاولاتها التنظيرية في دراسة الغرب (كل من زاويته) إلا أنها تفتقد نظريات واضحة المعالم تنطلق منها في فهم الغرب وتحليله؛ طالما تفتقد الإطار النظري، والنموذج الإرشادي، والوضوح المنهجي الذي يرشد به حركته التنظيرية في غدوها ورواحها. من هنا، غدا الاهتمام أولاً بإنضاج نظريات هذا العلم ومقولاته حجر الزاوية الذي يمنح الإبداع في الكتابات الاستغرابية.”

خامساً؛ أمراض النخبة وتقاعس المثقّفين بين مواجهة الصورة النمطية الاستشراقية وبين متطلّبات النهوض ومسالكه، المثقّفون بين وضع التردد وحال التردّي، وهو ما جعل هؤلاء المثقّفين يتعرّضون إلى أسئلة الغرب لا إلى الأسئلة الحقيقية التي تتعلّق بالنظر لدراسة الغرب ضمن بناء منظومة البناء الحضاري للنهوض، ومن ثمّ فإنّ التمييز بين الاستغراب العلمي والمعرفي الحقيقي، والاستغراب الزائف؛ الاستغراب التابع والاستغراب النابع؛ يُؤكّد ضرورة الدعوة لبناء استراتيجية معرفية وحضارية وثقافية لدراسة الغرب؛ وإلّا سنظل في دائرة ردّة الفعل المعرفي، أو كتابة الغرب المتن ونحن نكتب الهامش، أزمة لعلم نشأ، لم يُحدّد بوصلته ولا مهمته ولا منهاجياته.

علينا أن نصنع مشروعاً للنهوض يُحقّق الوعي المطلوب بالذات والوعي بالآخر والوعي بالموقف الحضاري

وختاماً، نُؤكّد على أهمية خروج الاستغراب من شرنقة الاستشراق ومركزية الغرب إن أردنا تحقيق النهوض المطلوب والعمل الاستراتيجي والحضاري للبناء العمراني المحسوب؛ معبراً عن الاستقلال الحضاري والمعرفي المقصود وفق أصول رؤية واضحة تُؤكّد “مفارقات النموذج المعرفي الحضاري للنموذج المعرفي الغربي”، بما يفيد في بناء علم الاستغراب ضمن أصول المرجعية للأمّة، وبفهم واعٍ لمسألة الهُويَّة، وتأسيس معايير وبنى لإنتاجٍ معرفي يخرج من حلقة استهلاك المعرفة والتبعية لنموذج معرفي آخر؛ يخرج به ومنه الباحثون بعمل ناضج ناف للتغريب (من الغرب) وشاف من الاغتراب (عن الذات) وساع لتطبيق الاجتهاد في مساحات التعارف الحضاري الراشد لبناء الموقف الحضاري الواعي الدافع للبناء الرافع لحقيقة النهوض والمشروع الحضاري المرتبط به.

آن الأوان ألّا نكتب هوامشَ على متن الثقافة والحضارة الغربية؛ بل علينا أن نصنع مشروعاً للنهوض يُحقّق الوعي المطلوب بالذات والوعي بالآخر والوعي بالموقف الحضاري، فالأمر لم يعد يتعلّق بأسئلة نجيب عنها في امتحان الحضارة، يمليها علينا الغرب، بل في أسئلة نابعة يُلزمنا بها مشروع النهوض، لا نريد أن يُفكّر لنا وبنا الاستشراق، ولا نريد أن نغرق في محيطات الغرب المعرفية بدعوى التعرّف إليها، فلا تعود سفننا المعرفية إلى مرفأ أمانها، إنّه السؤال الذي لا بدّ أن نستصحبه دائماً: في أيّ أرض نقف؟ … فإما أن نكون في هامش الغرب، وإمّا أن نصنع مشروعاً للنهوض الحضاري للأمة.

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *